عصافيرٌ تزقزق في الأعالي، في السماء الشاسعة، تتحاور بلغة يفهمها البشر، أضواء تتراوح بين الأرجواني والأزرق تضيء بين الفينة والأخرى بعض المشاهد… العصافير تتناقش حول الإنسان، هذا الكائن العجيب، الغامض الحنون والشرس في ذات الآن، منها من تثق به وتحرض بقية العصافير على ذلك، ومنها من تحذر من جشعه ورغته في الإيذاء المجاني.
إنها مسرحية “العصافير” التي عرضت مؤخرا ب”القصبة” بمدينة سطات، حيث انطلقت بشابين يسيران في الفيافي ويتبادلان الحديث، يفهم من حوارهما أنهما هاربين من صخب المدينة وضجيجها، وأنهما يتطلعان لآفاق أخرى أكثر رحابة وشساعة وهدوء. غير أن الخلاف سرعان ما ظهر بينهما، بين من يعبر عن موقف مبدئي يقضي بالقناعة وعدم التطلع إلى حكم العصافير، وبين موقف مناقض يقضي برئاسة حكومة يكون مواطنوها هم العصافير التي كانت دائما تحلق بحرية في مختلف الأجواء دون قيد أو شرط.
وهكذا يستأنف الممثلون أدوارهم، قائمين بحركات بهلوانية تتخللها التواءات بعض أشكال الديكور التي توحي بالشراشف البيضاء وكذا ما يشبه أجنحة الفراشات ومختلف أشكال الطيور التي تم نحت كوركوزات تمثلها، فضلا عن رئيس الطيور الذي سيدخل في حوار مع الحاكم الجديد الذي رغم عدله فسيسقط طريقة تدبير البشر لحياتهم السياسية على عالم لا يمت بصلة لذلك، عالم لا يعرف سوى الانطلاق والحرية، عالم العصافير.
وقال السيد محمد الحسوني، في حوار معه، أنه اشتغل على مسرحية “العصافير” لأرسطوفان، بحيث قلص حجمها من أربع ساعات إلى ساعة واحدة، بعد أن قرأها وأعجب بها، ف”شباب اليوم، عندما لا يروقهم شيء، يقومون ب”الزابينغ” (تحويل القناة)، لذا فقد عملت على تقليص حجم النص المسرحي، ما أمكن، تاركا مجالا للفرجة دون كثرة الحديث” ثم سلمها إلى عبد الله عبد المجيد الذي قام باقتباسها وترجمها إلى اللهجة العامية.
وأوضح أن المسرحية كتبت 400 سنة قبل الميلاد، و”هي تتكلم عن شخصين تعبا من المكان (يعني من المدينة)، ورغبا في تغيير الجو؛ وإذا أخذناها اليوم يمكن اعتبارها تتحدث على شابين تعبا من حيهما وأرادا الذهاب من البيضاء إلى أكادير أو الناضور، أو يمكن اعتبارهما ينتميان إلى ما يصطلح عليه اليوم بالحراكة” مشيرا إلى أن الإخراج كان مخضرما بين المسرح والسيرك والكركوزة.
وعن الغائية من اختيار المسرح المتنقل، أو الرحال، قدم الحسوني نبذة تاريخية عن المسرح في المغرب، مبرزا أن المسرح كما نعرفه حاليا “بين أربعة جدران” لم يدخل إلى إفريقيا ومنها إلى المغرب إلا عام 1912، واستطرد قائلا “بالنسبة لي، وهذه القضية لا تلزم أحدا سواي، فالفرجة كانت دائما متواجدة في المغرب عبر سلطان الطلبة وتاغونجا والحلقة وموسم الشموع في سلا، وهي أنواع من مسرح الأرصفة أو ما أصبح يسمى بالفضاء العمومي، وهي فرجة تذهب عند الناس وتقام مجانا. “إذن، أنا لم أخترع شيئا جديدا، فهذه الأشكال كانت موجودة منذ القدم، ربما أنا أعطيتها شكلا عصريا يحاول مواكبة حداثة المغرب. فالطريق السيار في المغرب يوجد الآن من طنجة إلى أكادير والطريق الوطنية تمتد حتى حدود موريطانيا؛ وأنا الآن، أوجد خارج المغرب، أجلس أمام الهاتف، أجيب عن أسئلتك بتسجيل صوتي الذي سأبعثه لك عبر الواتساب، نحن نجمع بين الأصالة والمعاصرة، نضع مسرحية عصرية تتلاءم مع معطيات عام 2022 وتتكلم لغة اليوم. لذا فالمسرح في نظري يجب أن يذهب عند الناس، هناك أشكال فرجة ننجزها في الأرصفة وفي الفضاء العمومي، وهناك مسرحيات ننجزها داخل خيمة السيرك، وهي أيضا لديها طابع عصري، وهذه الخيمة كانت موجودة قبل قدوم المسرح الرحال، فالمغربي، عندما تكون لديه جنازة أو عرس أوختان أوحفل ولادة، فإنه يحتفل داخل هذا النوع من الخيم. نبحث دائما عن الأشياء التي تقرب وتسهل المسافة مع المواطن. المواطن يذهب الآن إلى المسرح، ولكن يذهب إليه كأنه مجرد “حضار” (مدعو)”.
أما عن المسرحيات التي سبق وأنجزها المسرح الرحال فقال السيد الحسوني “نحن ننجز مسرحيتين في السنة، واحدة ننجزها في إطار إقامات الأوراش المتنقلة، مع الأشخاص الذين نتواجد بحيهم الذي نقضي به حوالي السنة، تلك الأوراش هي التي تعطينا التيمة التي نشتغل عليها. فالشباب والأقل شبابا المنخرطين معنا في الأوراش هم الذين يوحون لنا بفكرة المسرحية. وعادة ما تتوفر الموضوعة خلال الثلاثة إلى الأربعة أشهر الأولى. أولى المسرحيات كانت قد أنجزت سنة 2007 وعنوانها “اللقلاق”. وأسباب النزول، أننا كنا في منطقة تدعى “المازة”، قرب مطار الرباط، وذات صباح، جئنا إلى الخيمة، فوجدنا أن القوات العسكرية أقدم على قلع شجرة معمرة كان يسكنها اللقلاق. وجدنا صغار اللقالق فوق الأرض وكانت صدمة بالنسبة لساكني الدوار؛ وعندما سألنا هذه القوات أخبرونا أنهم اقتلعوا الشجرة لدواع أمنية، فاللقلاق عندما يكون صغيرا يطير ويدخل في المفاعلات العسكرية؛ القضية عادية بالنسبة للأمن العسكري المغربي، لكنها تصدم المواطن العادي. هذه قصة من القصص التي صادفناها وبنينا عليها مسرحيتنا، ثم بعد ذلك دوار ميكا، خلقت “للا ميكا” وهي عبارة على كركوزة كبيرة. إذن هكذا نحاول الاستفادة من الناس اللذين نقضي بينهم مدة زمنية معينة وهم من يقدم لنا التيمة المناسبة؛ ثم بعد ذلك أنجزنا “العظم” ل”بيرا غوديوب” وهو يتحدث عن قطعة لحم لم يشأ شخص ما اقتسامها مع الآخرين، وقد أنجزت في باتوار الدار البيضاء حيث نتواجد حاليا، ثم مسرحية “العصافير”. إذن هذه هي التيمات التي اشتغلنا عليها. تكون إما مكتوبة ونقوم باقتباسها أو يتم اقتراحها من خلال معايشتنا لأشخاص معينين عبر تجربتنا.
وبخصوص مشاريعه المستقبلية، أوضح أنهم يعملون حاليا على إنشاء خيمة متوسطة الحجم يسهل نقلها ويستفيد منها الشباب الذين تخرجوا هذا العام من دورة تدريبية في مجال المسرح الرحال، وهم 15 شابا، مضيفا “لقد وجدنا الخيمة لكننا سننظر مع وزارة الثقافة في إمكانية مساعدتنا لكي ندخلها من الخارج، في علاقة بتأدية الضرائب، وتلك الخيمة هي التي ستنطلق بها مشاريع المسرح والسيرك والكركوزة المتنقل، وستكون كل المسرحيات في نفس الاتجاه، تقليص الكلام، والانتقال من مدينة إلى أخرى. لدينا خيمة لكنها ثقيلة جدا وصعب تحريكها، إذ يبلغ قطرها 1000 متر مربع، ونحن نبحث عن خيمة لا تتجاوز ال 500 متر مربع حتى يسهل نقلها، وسنقضي مع هؤلاء الشباب فترة أخرى حتى يتمكنوا من التجربة، وفضلا عن مساعدة وزارة الثقافة فسنرى إذا كان هناك إمكانيات أخرى كالأبناك أو أشخاص آخرين يرغبون في مساندة هذه المغامرة التي ستكون الأولى في المغرب. تصوري لا يوجد اليوم في المغرب سيرك واحد متنقل، ونريد ملء هذا الفراغ، بخيمة متنقلة تجمع بين المسرح والسيرك والكوركوزة”.
للإشارة فقد سبق للمسرح الرحال أن أحيى استعراضات للفيلة، بموسيقاها وغنائها وألوانها الجذابة ورقصاتها، وذلك في عدد من شوارع المدن المغربية.