الحداثة والتراث في المغرب:
بين الفكر والنخبة والطبقة الحاضنة
بقلم:ذ محمد السميري
إن الحديث عن الحداثة في المغرب، في ظل شبكة معقدة من الدين والتراث والسلطة والاقتصاد، لا يمكن اختزاله في مجرد إجراءات تقنية أو تقليد نماذج غربية جاهزة؛ فالحداثة هنا ليست مشروعًا معرفيًا فحسب، بل مشروع اجتماعي وثقافي وجودي يتطلب إعادة تشكيل العقل الجمعي وخلق بيئة مؤسساتية واقتصادية قادرة على احتضان الفكر النقدي، وتوسيع نطاقه ليصبح قوة فعلية تغير الواقع. وفي هذا السياق، يظهر دور المثقف ليس كمناضل سياسي مباشر، بل كمنتج للمعرفة ومحلل للنظم الفكرية والرمزية، ومرشد للعقل الجمعي في مواجهة القيود التاريخية والثقافية التي يفرضها التراث والدين، وهو الدور الذي يوضحه عبد الإله بلقزيز، حيث يظل المثقف مستقلًا في نقده ومعرفته، منتجًا للأدوات التحليلية التي تمكن المجتمع من فهم نفسه ومحيطه⁵.
يؤكد عبد الله العروي أن التراث العربي الإسلامي، كما وصلنا عبر قرون، عاجز عن إنتاج الحداثة، وأن القطيعة التاريخية والمعرفية معه هي شرط ضروري لتجاوز التخلف المتراكم¹. فالحداثة ليست عنده مجرد تقليد أعمى للغرب، بل مشروع مؤسسي متكامل يقوم على دولة عقلانية، تعليم علمي حديث، فصل للسلطات، واقتصاد منتج قادر على دعم التحولات الاجتماعية والثقافية. وفي المغرب، يظهر هذا التحدي بشكل واضح: التعليم التقليدي لا يزال يعيد إنتاج عقلية تراثية تحفظ الثوابت دون تطوير القدرة النقدية، والحقل الديني يظل أداة للسيطرة على وعي الجماهير، مما يجعل أي مشروع حداثي، مهما كانت نواياه، مجتزأً أو ترقيعيًا.
محمد عابد الجابري، من جانبه، يعرض رؤية مختلفة، إذ يرى أن التراث مهيمن على العقل العربي ويحول دون إنتاج عقل حداثي قادر على التفكير النقدي². من خلال تفكيكه للتراث إلى البيان، العرفان، والبرهان، يدعو الجابري إلى نقد التراث من الداخل بهدف تحرير العقل من الهيمنة الزمنية للمعرفة التقليدية، مع الحفاظ على الهوية الثقافية. في السياق المغربي، يعني هذا إصلاح التعليم بحيث يتحول إلى أداة لتشكيل عقل نقدي قادر على تحليل الديناميات الاجتماعية والسياسية والتعامل مع التراث بطريقة تمكن الفرد من مواجهة الواقع المعاصر بوعي ومسؤولية.
أما محمد أركون، فيرى التراث والدين كنظام معرفي تاريخي موضوعي يجب إخضاعه للتحليل العلمي باستخدام أدوات الأنثروبولوجيا، اللسانيات، والتاريخ النقدي³. بهذا المعنى، يصبح التراث مادة للفهم والتحليل الموضوعي، لا مجرد إرث يجب قطعه أو نقده داخليًا، وهو ما يتيح إمكانية تحرير العقل الديني من الاحتكار الرمزي والتفسير الجامد، ويمكّن المجتمع من بناء قراءة حديثة للإسلام قادرة على التفاعل مع المتغيرات العالمية والمحلية، دون المساس بالهوية الثقافية.
ويتقاطع هذا مع رؤية نصر حامد أبو زيد الذي يعتبر النص الديني خطابًا لغويًا وتاريخيًا يمكن إعادة تأويله وفق السياق الاجتماعي والثقافي⁴. هذا التأويل الحر يمكّن المجتمع من تفكيك الهيمنة التقليدية على المعرفة الدينية، ويفتح المجال أمام وعي حداثي قادر على مواجهة استغلال السلطة للتراث والدين، وبناء أدوات فكرية تمكن المجتمع من تجاوز الجمود الفكري دون فقدان الهوية.
بلقزيز يقدم رؤية متكاملة تربط بين النقد المعرفي للتراث وبناء الدولة الحديثة، مع إبراز دور المثقف كمنتج للمعرفة⁵. فالتراث غالبًا ما يُستغل سياسيًا، والحداثة لا تتحقق بإلغائه، بل باستخلاص أدوات عقلية منه واستخدامها لبناء مؤسسات الدولة، تعليم نقدي قادر على التفكير المستقل، اقتصاد منتج يدعم طبقة وسطى نشطة، ودولة قانونية تحترم الحقوق والحريات. وفي المغرب، يزداد تعقيد المشروع الحداثي بسبب غياب الطبقة الوسطى المنتجة، واستمرار الدولة في استخدام التراث والدين كأدوات للشرعية، فيما يظل الشعب محافظًا على هويته التقليدية، وهو ما يحد من قدرة نشر الفكر الحداثي بين العامة.
وهنا يظهر بوضوح أن الحداثة ليست مجرد عملية فكرية أو نقدية، بل مشروع اجتماعي متكامل يتطلب وجود طبقة حاضنة للحداثة، كما حصل في أوروبا التنويرية، حيث التقت نخبة فكرية مع طبقة وسطى منتجة لدعم الفكر الحداثي ونشره بين العامة، وتحويله من مشروع نظري إلى واقع اجتماعي مؤثر. أما في المغرب، فغياب هذه الطبقة يجعل الحداثة رهينة النخبة المثقفة وحدها، دون القدرة على تحقيق تأثير اجتماعي واسع، وهو ما يوضح أن أي مشروع حداثي دون دعم طبقي واجتماعي لن يكون أكثر من محاولة نظرية محدودة النتائج.
وبناءً على ذلك، يصبح واضحًا أن الحداثة في المغرب تتطلب تفاعلًا متكاملًا بين المثقفين المنتجين للمعرفة، مؤسسات الدولة الحديثة، والطبقة الاقتصادية الحاضنة، بحيث تتحول المعرفة النقدية إلى قوة اجتماعية قادرة على إنتاج المؤسسات، دعم الاقتصاد، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي. فالحداثة ليست فقط مسألة تحليل أو نقد للتراث، بل مشروع اجتماعي-اقتصادي-ثقافي متعدد الأبعاد، يستند إلى قدرة المجتمع على خلق طبقة وسطى منتجة، تدعم الفكر النقدي وتحوّله من رؤية نظرية إلى واقع اجتماعي ملموس يحترم الهوية الثقافية والذاكرة التاريخية، بعيدًا عن التقليد الأعمى أو الانقطاع الكلي عن التراث، ومع الحفاظ على الاستقلالية النقدية للمثقف وقدرته على التحليل الموضوعي.
______________
المراجع
1. العروي، عبد الله، الإيديولوجيا العربية المعاصرة.
2. الجابري، محمد عابد، نقد العقل العربي.
3. أركون، محمد، مفهوم العقل الإسلامي.
4. أبو زيد، نصر حامد، مفهوم النص عند الفقهاء والمتأولين.
5. بلقزيز، عبد الإله، من النهضة إلى الحداثة.





















