الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

في رثاء اللحظة البشرية واستشراف المستقبل الإنساني

(من ذاكرة الرفاق بين الميعارة ومقبرة الشهداء: في دلالات الفقد والوصال بين الأجيال)

 

 

 

 

بقلم ذ. مصطفى المنوزي.

 

من وحي حفيف الأعلام الفلسطينية التي رُفعت خفّاقةً بالتحدي والعزيمة، وهي ترفرف في صمتٍ مفعمٍ بالرحمة والحزن، انبثقت لحظة إنسانية نادرة داخل المقبرة العبرية، أو الميعارة كما نسميها بالدارجة المغربية. كان الصمت يتكلم، وكانت الوجوه تُنصت لِما لا يُقال. هناك، حيث تمتزج الأرض بالذاكرة، تدافعت الكلمات في داخلي، وأحسست أن البوح صار ضرورة أخلاقية، لا مجرد انفعال عابر.

 

كانت فسيفساء الحضور مشهداً مهيباً؛ أطياف متعددة ومتنوعة اجتمعت على احترام الطقوس، في انضباطٍ نادر يجمع بين الوقار والدفء. حضر الجميع بصوتٍ واحدٍ من الصمت، إلا من منعتهم الأعذار أو كبّلهم التردد. ودّعنا الرفيق إلى مثواه الأخير، وودعناه فينا، في تلك المسافة الرقيقة بين الحقيقة والرمز، وبين الفقد والأمل. شعرنا بالغصّة ذاتها التي تسكن القضايا المصيرية حين تبقى معلّقة، لكننا تمسّكنا ببذرة التفاؤل، علّها تُثمر حلولاً عادلة وديمقراطية لمعضلات هذا الوطن الذي لا يشيخ إلا بالخذلان.

 

رحل عنا دون أن يُشاور في أمره العظيم، كما قال الرفيق عبد اللطيف الهاشمي يوم استشهاد الرفيق رحّال جبيهة: «اليوم يسقط رجل آخر، يرحل دون أن يُشاور في أمره العظيم». كانت تلك العبارة لحنًا وذاكرة، غناها الرفاق في زنازن غبيلة بكراج علال، حيث كان الصمود أغنيةً تُغنَّى بالهمس واليقين.
تذكّرت واقعة الفرار من مستشفى ابن سينا، حين فرّ الشهيد رحّال ورفاقه، وكان من بينهم الفقيد ـ الشهيد المعطي سيون أسيدون، عريس لحظتنا الأليمة، ورفيق الجميع داخل عائلة اليسار المتعدد، وقريبُ البعض المستنير في الضفة الأخرى.

 

هرولت الدمعات من مآقي الأوفياء وشرفاء القضية، انحدرت على الخدود كما تنحدر فصول الوداع على وجه الوطن، وتركَت آثارها علامةً على الوجوه، إيذانًا بأن مرحلةً تنقضي وأخرى تتشكل. فلكل مرحلةٍ رجالها ونساؤها، ولكل الناس محطاتهم التي لا تُقاس بالعمر بل بالمعنى.

 

وأمام باب الميعارة، حين سكنت الجموع وارتفعت التساؤلات، راودني مشهدٌ غريب في رمزيته: كيف لشهيدنا، ومعه الفقيد إبراهام السرفاتي، أن يتواصلا في الأبدية مع شهدائنا في مقبرة الشهداء التي لا تفصلها عن تكنة الوقاية المدنية سوى أمتار معدودة؟ تلك التكنة التي تؤوي في حفرة جماعية جثامين شهداء انتفاضة يونيو 1981.
إنها الجغرافيا وهي تبوح بسخرية التاريخ، حين تلتقي الذاكرة العبرية بذاكرة اليسار، في مسافة قصيرة تُلغي حدود المعتقد والسياسة، وتفتح سؤال المعنى: من نحن حين يجمعنا التراب ولا تفرقنا السرديات؟

 

هناك، في ذلك الصمت المضيء، بدا المشهد كأنه مرآة لوطنٍ يتعلّم ببطء كيف يرثي أبناءه دون أن يقتل الأمل فيهم. رثاء اللحظة البشرية ليس حنينًا للماضي، بل وعيًا بما تبقّى فينا من قدرة على الفهم والاتصال. فكل وداعٍ حقيقي هو تمرينٌ على استشراف المستقبل الإنساني، وكل فقدٍ عميق هو نداءٌ للمصالحة مع ذواتنا ومع تاريخنا.

 

لقد علمتنا المقبرة أن الأجساد تمضي، لكن القيم لا تُدفن، وأن الإنسانية هي المعبر الأخير الذي يلتقي فيه المختلفون على بساطٍ واحد من الذاكرة، لا بوصفهم خصومًا أو شهداء متنافرين، بل كبشرٍ يبحثون عن خلاصٍ جماعي في عالمٍ مثقلٍ بالفقد.
ذلك هو المعنى الأسمى للرثاء: أن نحزن بوعي، ونحلم بمسؤولية، ونستشرف الغد بعينٍ دامعةٍ لا تزال تُبصر الضوء.

 

غادرتنا اللحظة نفسها حاملين معنا وعودا متبادلة ، تستدعي منا كل اليقظة المطلوبة لدعم بعضنا البعض والوطن ، تفاديا لأي تيه يشوب البوصلة بين ثنايا موج الأطلسي وكثبان رمال الصحاري المتحركة والمتحررة .

 

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!