قضية إنتحار الطفلة الإسبانية ليست حالة معزولة…
كم من أبنائنا يعيشون الألم نفسه في صمت؟
فاطمة الزهراء فراتي – برشلونة
اهتز الرأي العام الإسباني مؤخرًا على وقع خبر مأساوي، بعد انتحار فتاة تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا في مدينة إشبيلية، وذلك إثر معاناة طويلة مع التنمر المدرسي.
رغم اجتهاد ساندرا ومواظبتها في الدراسة، لم تسلم من السخرية المتكررة التي كانت تتعرض لها من قبل بعض زملائها. هذا التنمر المستمر ترك أثرًا نفسيًا بالغًا فيها، خاصة في ظل غياب الدعم الكافي من محيطها المدرسي. فعندما بادرت أسرتها إلى التدخل ورفعت الأمر إلى إدارة المؤسسة التعليمية، لم تلقَ التجاوب المطلوب، الأمر الذي عمق شعورها بالعزلة واليأس.
وهكذا طُويت صفحة ساندرا على مأساة أليمة هزت مشاعر الجميع، لكنها سلطت الضوء على حقيقة صادمة: أن الصمت في كثير من الأحيان يكون أخطر من العنف نفسه.
ولأن ساندرا لم تكن الوحيدة، فإن هذه الحادثة المؤلمة تفتح باب التساؤل حول أوضاع العديد من الأطفال، وخاصة أبناء الجالية المغربية في إسبانيا وأوروبا عمومًا، والذين يواجهون ظروفًا مشابهة في صمت.
فكم من طفل مغربي يعيش المعاناة نفسها كل يوم؟
وكم من تلميذ يسمع عبارات عنصرية تجرح روحه، ثم يعود إلى البيت محاولًا التظاهر بالقوة؟
وكم من أب أو أم لا ينتبه إلى أن صمت ابنه أو ابنته ليس دلالة على “الصبر”، بل استغاثة مكتومة تحتاج إلى من يسمعه(ا) ؟
إن الواقع يؤكد أن العديد من أطفالنا يعانون في الخفاء. فهم يتعرضون للتمييز، للسخرية من أسمائهم أو ملامحهم أو لغتهم، وأحيانا يجدون أنفسهم في مواجهة مع أساتذة يفتقرون للحس التربوي والقدرة على احتواء الاختلاف.
وما يزيد الطين بلة، أن محاولات هؤلاء الأطفال للتعبير عن أوجاعهم كثيرًا ما تُقابل بالتقليل من شأنها، أو تُواجَه بنصائح جاهزة من قبيل: “كن قويًا”، “تحمل”، “لا تبكِ”.
لكن الحقيقة المؤلمة هي أنهم لا يحتاجون إلى دروس في القوة، بل إلى قلوب تفهمهم وصدور تحتضنهم.
وفي ظل هذا الوضع، يبقى أكبر خطر يواجه الأسر هو تجاهل علامات الألم.
فعندما نتجاهل بكاء أطفالنا، أو تغيّر سلوكهم، أو انعزالهم المفاجئ، فإننا دون قصد نشارك في دفعهم نحو مزيد من الانطفاء الداخلي.
فطفل اليوم الذي يتألم بصمت، قد يتحول غدًا إلى شاب فاقد للثقة، منسحب من الحياة الاجتماعية، أو منقطع عن الدراسة. وفي كثير من الحالات، يقرر بعضهم ببساطة أن يترك المدرسة، لأنهم لم يجدوا فيها من يحميهم أو يستمع إليهم.
لهذا، لا ينبغي أن تمر قضية الفتاة الإسبانية مرور الكرام، بل يجب أن تكون جرس إنذار حقيقي لنا جميعًا.
فوراء كل طفل مهدد بالتنمر، هناك أسرة قد تكون غير مدركة لعمق ما يحدث، ومدرسة قد تكون غير مؤهلة للتعامل مع الظاهرة بالشكل الصحيح.
من هنا، تصبح المسؤولية جماعية:
من واجبنا الإصغاء لأبنائنا بصدق، لا لنسألهم عن دروسهم فقط، بل لنفهم مزاجهم، صمتهم، وانفعالاتهم.
ولنعلّمهم أن كرامتهم غير قابلة للمساومة، وأن البكاء ليس ضعفًا، بل لغة للوجع.
وفي الوقت نفسه، علينا كجالية مغربية أن نرفع صوتنا ونطالب بأن تكون المدارس فضاءات آمنة، تحترم التنوع، وتمنع التمييز، وتُحاسب المتورطين في الإساءة، سواء كانوا زملاء أو حتى مسؤولين تربويين.
فأبناؤنا لا يطلبون امتيازات، بل يطالبون بأبسط الحقوق: المعاملة العادلة والإنسانية.
و لأن الصمت لا يحمي أبدا.. فإذا كنا نريد فعلاً لأبنائنا أن ينشأوا في بيئة سليمة، فعلينا أن نكسر هذا الصمت الآن.. قبل أن يتحوّل الألم إلى مأساة جديدة.