إعدام الديمقراطية داخل الأحزاب المغربية… حين تقتل المبادئ بإسم التنظيم
الحلقة السابعة من سلسلة “إحقاق الحق”
بقلم: ذة نجاة زين الدين
في زمن تتباهى فيه الأحزاب المغربية بالشعارات الرنانة للديمقراطية و الشفافية و التداول على السلطة، تتهاوى في الواقع قيمها و تعدم على مقصلة الزعامة الفردية و المصالح الشخصية الضيقة، لتتحول إلى كيانات مغلقة تدار بمنطق الولاء لا الكفاءات، و بأسلوب الهيمنة لا تعددية المشاركات، فما أشد التناقض بين ما يرفع من شعارات في المنصات، و ما يمارس من واقع داخل المقرات!!! و ما أقبح بشاعة المنظر عندما يجسد على أرض الواقع بتأليه الذات البشرية لرموز جعلت من نفسها ثوابت مركزية لإدارة العمل الحزبي!!!
لقد بات واضحا للرأي العام الوطني أن معظم الأحزاب السياسية المغربية فقدت ما تبقى من مصداقيتها، بعدما كشفت مؤتمراتها الداخلية حجم التآكل الأخلاقي و القيمي و المؤسساتي الذي أصابها في الصميم…و لعل المؤتمر الأخير لحزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية، و ما رافقه من جدل واسع حول إعادة إنتخاب السيد إدريس لشكر للمرة الرابعة على رأس الأمانة العامة، ليشكل نموذجا فاضحا لإعدام الديمقراطية داخل التنظيمات الحزبية…
فكيف يعقل – و العقل هنا يحتج قبل اللسان – أن يعاد إنتخاب الأمين العام ذاته للمرة الرابعة، بعدما إستنفد كل ولاياته القانونية و التنظيمية، في مشهد يعكس إستخفافا صريحا بمبدأ التداول على القيادة، هذا المبدأ الذي يفترض أن يكون العمود الفقري لكل تجربة ديمقراطية؟؟؟
و كيف لمن عجز عن إحترام الديمقراطية داخل بيته السياسي أن يعد بتكريسها في مسؤوليات مؤسسات الدولة؟؟؟
ثم بأي منطق يربط أحدهم إستمراره في الكرسي بإستقرار الحزب و الوطن معا، و كأن المغرب لن يقوم إلا بوجوده، و الحزب لن يعيش إلا بظله؟؟؟؟ أليس في هذا الإدعاء نوع من التقديس المريض للذات، و طمس لمبدأ التداول الذي هو روح الحياة السياسية؟؟؟؟
إن ما يجري داخل العديد من الأحزاب لا يمكن وصفه إلا بالعبث السياسي؛ عبث يجعلنا نتساءل: أبهذه الأساليب تدار شؤون الوطن؟؟؟ أبهذا المنطق تختزل المشاركة السياسية في سباق نحو المناصب بدل التنافس في خدمة الصالح العام و الوطن؟؟؟
إنها حقا مفارقة مؤلمة، و مهزلة تاريخية أن ترفع الأحزاب راية الديمقراطية في المؤتمرات، ثم تخنقها داخل المكاتب السياسية و لجانها التنفيذية، و أن تتحدث عن تجديد النخب و هي تعيد تدوير نفس الوجوه لعقود…
ففي ظل هذا الإنغلاق الحزبي، لم يعد غريبا أن يخرج جيل جديد من الشباب المغربي – جيل “زد”212 – رافضا محاورة أحزاب الكراسي و المناصب، و معلنا قطيعته مع طبقة سياسية فقدت بوصلة العمل السياسي الجاد و مصداقية الوعود اللامنزلة… فجيل اليوم لا يرى في تلك التنظيمات سوى رموز لعجز مزمن، و مصدرا لمآس وطنية تراكمت بفعل سوء التدبير و فساد التصورات و جشع و إنتهازية الأنا السيكوباتية التي تتلذذ بفرض نفسها على الأغلبية الساحقة بكل إستبداد سلطوي و بتكتيكات و تخطيطات تدار خيوطها في كواليس الظلام و قبل إنعقاد المؤتمرات أصلا، و لهذا الغرض، أتساءل ما فائدتها إن كانت تقاس و تحاك بقياسات محسومة مسبقا…؟؟؟
1- المقترحات العملية لتصحيح المسار:
لا يمكن إنقاذ الوطن من مآسي بؤس المشهد الحزبي الهجين إلا بإرادة سياسية صادقة و جادة، و إصلاحات جذرية لا تجميلية، يمكن إجمالها في ما يلي:
- إقرار مبدأ التناوب الإجباري على المسؤوليات الحزبية، بحد أقصى لولايتين، دون إمكانية التحايل أو تعديل القوانين الداخلية على المقاس.
- إعادة هيكلة الأحزاب وفق معايير الشفافية و المحاسبة، مع إخضاع ماليتها و تقاريرها التنظيمية لمراقبة المجلس الأعلى للحسابات.
- تجديد النخب السياسية من داخل القواعد لا من فوقها، عبر فتح الباب أمام الطاقات الشابة الكفئة و النزيهة بدل تهميشها أو إقصائها.
- إلزام الأحزاب بتنظيم مناظرات عمومية داخل مؤتمراتها، تبث مباشرة للرأي العام، لقياس مصداقية شعاراتها و تفحص إبانها ممارساتها.
- ربط الدعم العمومي المقدم للأحزاب بمستوى إحترامها لمبادئ الديمقراطية الداخلية، لا بعدد المقاعد أو التحالفات الإنتخابية المطبوخة.
2- نحو وعي جديد بالسياسة و الأخلاق:
لقد دخلت البلاد مرحلة دقيقة، تتداخل فيها الأزمة الأخلاقية/ القيمية بالأزمة السياسية، حيث صار الإنحدار في الخطاب و الممارسة عنوانا بارزا لما يمكن تسميته بـ”الإنحدار القيمي الحزبي”. فحين تصبح الديمقراطية مجرد كلمة ترفع في الخطب، و تدفن في القرارات، ليتحول بذلك الحزب من مدرسة للمواطنة إلى مؤسسة للرياء و النفاق السياسي…
إن الجماهير الحزبية – سواء داخل الإتحاد الإشتراكي أو غيره – مطالبة اليوم بوقفة ضمير جريئة و شجاعة، لتعيد الإعتبار “لمبدأ الديمقراطية” كشرط تأسيسي للحياة الحزبية، لا كشعار موسمي لتجميل الصورة…لأن الحزب الذي يخون قاعدته، و يفرض قياداته رغم إرادة أعضائه، لا يمكن أن يكون حاملا لمشروع وطني حقيقي، بل يصبح كيانا متكلسا يعيش على ذاكرة الماضي و فتات السلطة و شعارات الزيف و البهتان…
3)كثرة الأحزاب بالمغرب… ديمقراطية في الشكل و عبث في الجوهر و عدد غير مُفعّل:
من يتأمل المشهد الحزبي المغربي، يلحظ للوهلة الأولى تعددية لافتة توحي بحيوية سياسية و ديمقراطية راسخة، إذ يضم المغرب اليوم أكثر من ثلاثين حزبا سياسيا معترفا به رسميا، تتقاسم المشهد الإنتخابي و تتناوب على الواجهة الإعلامية، غير أنّ هذه الكثرة، التي قد تبدو في ظاهرها دليلا على الانفتاح، تخفي في جوهرها خللا بنيويا عميقا جعل من التجربة الحزبية المغربية ديمقراطية شكلية فقط لكنها خالية من المضمون، فقد تحولت الأحزاب، في معظمها، إلى كيانات إنتخابية موسمية و دكاكين سياسية بإمتياز، تشتغل بمنطق الغنيمة و المصلحة لا بمنطق الرسالة و الإلتزام.
فمنذ الإستقلال، و الأحزاب تتناسل على وقع الإنشقاقات و الولاءات الشخصية، حتى فقدت بوصلة العمل الفكري الإبداعي و التأطيري الجاد، فإنكمشت في دائرة الصراعات الداخلية التي أنهكتها، و أفرغتها من بعدها التربوي و التعبوي السياسي الجاد و الهادف. فبدل من أن تكون مدارس لتكوين المواطن و إحتضان كل الطاقات الشابة داخل و خارج البلاد، أضحت فضاءات للتناحر و تصفية الحسابات و التراشق المعلن و الضمني، و ممرات عبور نحو المناصب و المكاسب و الكراسي الممددة تارة بالتدليس النصي و تارة أخرى بتوظيف القاعدة القانونية لشرعنة إرث الكراسي. و هكذا تحول الحقل الحزبي من منارة للفكر إلى سوق للمساومات، و من فضاء للنقاش إلى مسرح للمزايدات و الهرطقات و التفاهات…
لقد أثبتت التجربة أنّ كثرة الأحزاب لم تثمر قوة سياسية قادرة على التوجيه أو التأثير، بل أنتجت مشهدا متشرذما و مترهلا، يخلو من الرؤية الجامعة و المشروع الوطني المتكامل خدمة للوطن… فالأحزاب المغربية اليوم تبدو كأرقام في سجلّ إداري أكثر منها كقوى فاعلة في صناعة القرار، إذ لا أثر ملموس لها في توعية المواطن أو تأطيره أو الدفاع عن قضاياه الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية الحيوية. إنها “عــدد غـــيــــر مـــفـــعـــل”، تتلون أساميه و يقل فعله، ويعيش على وقع الشعارات بدل أن يمارس الفعل الديمقراطي الحقيقي.
و لكي تستعيد الأحزاب المغربية روحها و دورها الوطني، فلا بد من أن تعيد تعريف ذاتها من جديد، وأن تتطهر من الإنتهازية و الزبونية، و تعود إلى جوهر رسالتها التربوية و الفكرية الخالصة. فالإصلاح المنشود يبدأ من الداخل: من بناء تنظيم حزبي ديمقراطي حقيقي، و من تأهيل الكفاءات الشابة، و تجديد النخب على أساس الكفاءة لا الولاء، والإنفتاح على قضايا الوطن و المواطن بصدق لا بالمزايدات الكاذبة و المسوفة، عندها فقط يمكن أن تتحول التعددية الحزبية من عبء سياسي إلى رافعة ديمقراطية، ومن عبث شكلي إلى قوة إقتراحية حقيقية تسهم في بناء مغرب يليق بتاريخه ونضالات شعبه.
لقد آن الأوان لأن يرفع المغاربة جميعا أصواتهم في وجه هذا الإنحراف السياسي، لأن الوطن لا يبنى على الولاءات الشخصية بل على المسؤوليات الجماعية، و لا ينهض بالخطابات المنمقة بل بالفعل الإصلاحي الصادق و النزيه.
و إن لم تصلح الأحزاب نفسها من الداخل، فستصلحها الشوارع المنتفضة حاليا من الخارج، لأن التاريخ لا يرحم من خان المبادئ، و لا يغفر لمن قتل الديمقراطية بإستغلال إسمها و بإمتطاء صهوتها…