الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

الازدواجية التشريعية في تحديد سلطات النيابة العامة: توسّع أمام الأفراد وتقييد أمام الفساد

 

 

 

عفيف البقالي _ قاض سابق

 

 

 

رغم ما يظهر من توجه تشريعي واضح في قانون المسطرة الجنائية المغربي نحو توسيع صلاحيات النيابة العامة وتعزيز سلطتها في إدارة الدعوى العمومية، إلا أنّ هذا التوسّع يكشف عند التدقيق عن ازدواجية بنيوية تجعل من النيابة العامة سلطة اتهام قوية أمام الأفراد، ضعيفة أمام الفساد. فقد منح المشرّع للنيابة العامة في صيغته الجديدة للقانون مجموعة من الاختصاصات منها تمكينها من اختيار المحكمة المختصة في بعض حالات الاختصاص الاستثنائي، وإسناد سلطة التجنيح إليها، بل واعتبار هذا التجنيح ملزمًا لقضاء الموضوع، وهو ما يُضعف من استقلال هذا الأخير ويكرّس هيمنة سلطة الاتهام على سلطة الحكم. إن هذا المسار التشريعي يعكس بوضوح توجّهًا نحو تركيز الدعوى العمومية بين يدي النيابة العامة وتمكينها من سلطة توجيهها بشكل شبه مطلق.

 

غير أنّ هذا التوسّع، الذي يعبّر عن نزعة اتهامية متنامية في السياسة الجنائية، ينقلب فجأة إلى تقييد صارم حين يتعلق الأمر بجرائم الفساد واختلاس المال العام، حيث تُغلّ يد النيابة العامة ويُجرّدها المشرّع حتى من صلاحياتها التقليدية في تحريك الدعوى العمومية، إذ يُشترط في كثير من هذه الجرائم الحصول على إذن مسبق من جهات إدارية أو رقابية معيّنة قبل مباشرة أي متابعة. وبهذا الانتقال المفاجئ، تفقد النيابة العامة استقلالها، وتصبح خاضعة لسلطة الترخيص الإداري، على نحو يُفرغ دورها الدستوري من مضمونه ويجعلها تبدو وكأنها سلطة انتقائية لا شمولية.

 

وتزداد هذه المفارقة حدة بالنظر إلى أنّ هذا التقييد يتعارض صراحة مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب، والتي تُلزم الدول الأطراف بتمكين سلطات المتابعة، وفي مقدمتها النيابة العامة، من التحرك التلقائي لملاحقة جرائم الفساد دون الحاجة إلى إذن مسبق، باعتبار أنّ التأخير في تحريك الدعوى يُضعف فعالية المكافحة. كما أنّ ديباجة دستور المملكة المغربية تنص صراحة على سمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها على التشريعات الوطنية، بينما تُكرّس المادة الثالثة من قانون المسطرة الجنائية وضعًا مخالفًا تمامًا حين تجعل مباشرة المتابعة في جرائم الفساد رهينة بإذن إداري، وهو ما يُفرغ قاعدة السمو من محتواها العملي ويجعل الممارسة التشريعية في تعارض مباشر مع الالتزامات الدستورية والدولية للمملكة.

 

وهكذا نجد أنفسنا أمام مشهد جنائي بالغ المفارقة: نيابة عامة موسَّعة الصلاحيات في مواجهة المواطن العادي، مقيّدة الصلاحيات أمام الفساد؛ بما يجعل الفساد لا يتفوق فقط على سلطة النيابة العامة، بل يتفوق حتى على الدستور ذاته. إن هذا الوضع الاستثنائي يجعل من السياسة الجنائية المغربية نموذجًا فريدًا في عكس منطق الأمور، حيث يُفترض أن تكون جرائم الفساد هي المجال الأوسع لاختصاصات النيابة العامة، فإذا بها تتحول إلى نقطة العجز التي تُشل عندها يدها وتُخرق عندها مبادئ سمو الدستور وسيادة القانون.

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!