الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

بين المبدئية والسذاجة:
تفكيك نظرة المجتمع للملتزم بالقيم

 

 

 

رشيد شخمان/المغرب

 

 

1. حين تُحمَّل القيم أكثر مما تحتمل

 

في كثير من المجتمعات، ومن بينها مجتمعنا، تبرز مفارقة لافتة: فالشخص الذي يتمسك بمبادئه، ويتصرف بصدق، ويلتزم بالقانون، ويعترض على ما يراه خاطئاً، يُنظر إليه غالباً على أنه ساذج أو ضعيف. في المقابل، يُعجب الناس أحياناً بمن لا يتردد في تجاوز الأخلاق أو القوانين لتحقيق مصالحه، ويُوصَف هذا الشخص بـ”الذكي” أو “الناجح”.

 

لماذا يحدث هذا؟ هل أصبح الالتزام بالقيم نوعاً من الضعف في عالم عملي لا يعترف إلا بالنتائج؟ أم أن التمسك بالمبادئ هو شكل من أشكال القوة لم نعد نُقدّرها كما ينبغي؟

 

الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه لامس هذا الصراع حين اعتبر أن الأخلاق “التي تمليها الجماعة” كثيرًا ما تكون وسيلة للسيطرة، وأن من يتفوق أخلاقيًا يُعاقَب ضمنيًا لأنه يفضح رداءة القيم السائدة[^1]

 

2. المبدئية في مقابل “الذكاء الاجتماعي”: كيف يُعاد تعريف القيم؟

 

تُعاد صياغة بعض المفاهيم بحيث تُفرّغ من معناها الأصلي: الصدق يُصبح سذاجة، والاحتيال يُوصف بالدهاء، والالتزام يُرى كجمود. هذا التحول يعكس ثقافة ترى في تجاوز القيم مهارة تكيّف، وفي المكر نوعًا من “النجاة الأخلاقية”.

 

وإن تأملنا في تحليل زيغمونت باومان حول “الحداثة السائلة”، فإن هشاشة القيم تعود إلى مجتمعات لم تعد تمنح الأخلاق معنى ثابتًا، بل جعلتها قابلة للتفاوض بحسب المصلحة[^2]. في هذا السياق، يُراقَب المبدئي بدقة، ويُحاسَب على زلّاته أكثر من غيره، لأنه اختار أن يكون مرآة لما لم يعد مقبولًا جماعيًا.

 

3. المنظور السوسيولوجي: المجتمع و”وظيفة” القيم

 

القيم ليست مجرد مبادئ فردية، بل هي تعبير عن العقد الاجتماعي كما حللها إميل دوركايم، الذي أكد أن تفكك المنظومة القيمية مؤشر على ما سماه بـ”الأنومي” (اللانظام)، أي فقدان البوصلة الأخلاقية داخل المجتمع[^3].

 

في مجتمعات تضعف فيها الثقة بالمؤسسات، يصبح التحايل وسيلة معيشية لا يُستهجن. ويتم تهميش المبدئي لأنه يبدو نشازًا وسط هذا الانزلاق الجماعي. وفي الوقت الذي يُكرَّم فيه من “يعرف من أين تُؤكل الكتف”، يُعاقب الملتزم وكأنه خائن لمزاج اجتماعي غير مكتوب.

 

4. المنظور السيكولوجي الجماعي: آليات الرفض النفسي للمبدئي

 

من زاوية سيكولوجية، يشكّل المبدئي تهديدًا لبنية الجماعة النفسية. وقد أشار عالم النفس إيرفينغ غوفمان إلى أن الشخص الذي يرفض “اللعب ضمن الأدوار المتفق عليها ضمنيًا”، يُقابل بالرفض أو التهكم، لأنه يُربك النسق التفاعلي[^4].

 

الجماعة لا تغفر للمبدئي لأنه يذكّرها بنقصها. وإذا أخطأ، تتضاعف القسوة عليه كنوع من “الراحة النفسية الجماعية” التي تقول: “ها هو مثلنا، إذًا لا جدوى من التمسك”

 

5. التجربة الشخصية: حين يصبح الالتزام بالقيم عبئًا

 

في الواقع، كثيرًا ما يدفع المبدئي ثمن التزامه، لا فقط من خلال نقد الآخرين، بل من خلال شعوره بالعزلة. من يرفض التلاعب أو الكذب قد يُقصى أو يُتَّهم بأنه يُعقّد الأمور. ومن يحاول التزام النزاهة يُعامل كحالم.

 

يُستعاد هنا قول ألبير كامو: “من يسعى إلى أن يكون قديسًا، عليه أن يعيش كمنبوذ”. فالمثالية الأخلاقية، في مجتمع لا يحتملها، تصبح عبئًا على صاحبها أكثر من كونها مصدر إلهام[^5].

 

بين التهميش والانبعاث: هل تُستعاد قيمة المبدئية؟

 

المبدئية ليست سذاجة، بل صبر أخلاقي. لكنها في زمن هشّ، يُساء فهمها. لا يُطلب من المبدئي أن يكون مثاليًا، بل أن يكون ثابتًا إنسانيًا. والمجتمع – رغم تقلباته – يحتاج إلى أمثلة على أن القيم ما تزال ممكنة.

 

فكما قال حنّة أرندت: “القوة لا تُبنى على الكذب الدائم، لأن الكذبة تتطلب ذاكرة، أما الحقيقة فتكفي نفسها”[^6]. ربما لا يُكافأ المبدئي دائمًا، لكنه يترك أثرًا، ولو تأخر الاعتراف به.

المراجع:

[^1]: Friedrich Nietzsche, On the Genealogy of Morality, 1887.
[^2]: Zygmunt Bauman, Liquid Modernity, Polity Press, 2000.
[^3]: Émile Durkheim, Suicide, 1897.
[^4]: Erving Goffman, The Presentation of Self in Everyday Life, 1956.
[^5]: Albert Camus, The Myth of Sisyphus, 1942.
[^6]: Hannah Arendt, Truth and Politics, in Between Past and Future, 1961.

/المغرب

 

 

1.

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!