مدونة الأسرة:
بين النقاش الحقيقي والنقاش المغلوط
عبد المولى المروري – كندا
مع وجود الأعطاب الهيكلية والبنيوية التي تلاحق العمق المغربي على مستوى مؤسساته الدستورية وغير الدستورية، وأمام بشاعة مشهده السياسي والحقوقي، في نظري المتواضع، إن النقاش العمومي الرائج اليوم، والذي يهم مدونة الأسرة يبقى صحيا ومهما إلى درجة كبيرة.. بصرف النظر عن مضامين المدونة ومنهجية إعدادها وإخراجها ومآلاتها..
أما المدونة فقد كتبت فيها ما يكفي، والصيغة الحالية التي خرج بها المشروع لم تخرج عما توقعته، بعد أن عرف فيها النقاش سجالات وملاسنات خرجت في مجملها عن المنهجية العلمية الرصينة، وفتحت الباب لكل من هب ودب للتحدث فيها وتقديم مقترحاته، حتى من طرف المنحرفين والشواذ والتافهين.. وتم تهميش العديد من العلماء الوازنين في العلوم الشرعية والقانونية والاجتماعية والإنسانية، وإقصاء ثلة من المفكرين والمثقفين المشهود لهم بالتجرد والنزاهة الفكرية والرصانة العلمية، وبذلك فإن هذه الوثيقة – إن جاز التعبير – ليست مدونة قانونية بالمفهوم القانوني الصحيح، بل هي تجميع مبعثر لمجموعة من الاقتراحات المتناقضة والمتصارعة في صيغة هجينة، في محاولة يائسة لإرضاء الجميع.. ليقول أصحاب التوجه الإسلامي: لقد وقفنا ضد الكثير من الاقتراحات المخالفة للشريعة الإسلامية، وأجزنا ما لا يخالف النص القطعي، وتصدينا بحزم ضد ما يعارضه، وهذا – حسب زعمهم – إنجاز عظيم.. ويقول أصحاب التوجه الحداثي: لقد أقررنا بعض المكاسب الحقوقية التي تتماشى مع الحقوق الكونية، ووسعنا من دائرة مكاسب المرأة، وهذا – حسب وهمهم – إنجاز كبير.. كل هذا باستعمال بعض المصطلحات القانونية الملتبسة لإضفاء الطبيعة القانونية عليها.. وشخصيا لا يخامرني شك في أن المجلس العلمي الأعلى كان له دور محدود جدا في هذا الإخراج المعروض على أنظار الرأي العام، وأن المدونة على حالته هاته أعدت في مكان آخر..
هذا النقاش صحي ومهم من أوجه عديدة قد لا ينتبه إليها العديد من المساهمين فيه، سواء من ذلك الطرف أو ذاك.. لأنه فتح وسيفتح أبوابا أخرى تهم قضايا مهمة تعد إلى حدود اليوم من المحظورات السياسية والمخاطر الحقوقية.. ولكن ينبغي عند ولوجها التزام الحذر الشديد حتى لا ينحرف النقاش إلى اتجاهات أخرى قد تزيد من تعقيد الوضع وازدياد بشاعته..
النقاش الرائج الآن لا يقف عند بنود ومضامين المدونة فحسب، بل امتد إلى جذور القضية وفروعها وبذورها وأرضيتها ومنتوجها المرتقب، ومن وراءها ومن يحميها، ومن مولها، ومن المستفيد منها.. بمعنى أن النقاش بدأ من نقطة معلومة،وسينتهي إلى نقطة غير معلومة مع توسع دائرة النقاش وانتشاره غير المحدود في وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي لن يكون بمقدور أحد تحديد سقف له..
وهذا مدخل مهم لتحطيم العديد من الطابوهات، وتدمير الكثير من الفزاعات التي تم وضعها في بعض الحقول كي تخيف الشعب ولا يجرؤ على الاقتراب منها، لأن الشعب اليوم أصبح أكثر وعيا من ذي قبل بمصدر المخاطر المحدقة به، وبمآلات هذه المآسي إذا ظل ساكنا في مكانه لا يتحرك، وجامدا في وعيه لا يفكر، مع احتراقه بويلات القوانين والقرارات والسياسات غير الشعبية..
حجم التصدي لهذه المدونة فاق كل التوقعات، وهذا مؤشر على بداية ارتفاع الوعي الشعبي الذي كان خاضعا للتدجين أمدًا طويلا، ولكن في الوقت نفسه ما أزال مصرا على أن هذه القضية – رغم أهميتها وخطورتها – تبقى أحد وسائل الإلهاء الخطيرة التي تشغل بها الدولة اهتمام المواطنين عن قضايا أخرى تكتسي الخطورة نفسها أو ربما أكثر، ولا سيما تلك المتعلقة بحريته ومعيشته ومستقبله..
فانفجار موضوع المدونة الآن تزامن مع قضيتين في غاية الخطورة، أولها احتكار واستحواذ الأوليغارشية المغربية على مشاريع اقتصادية استراتيجية، ومن ضمنها مشاريع تحلية ماء البحر.. وما يرافق ذلك من تحايل على القانون، وسرقة أموال الشعب عن طريق الدعم، وتحديد تعرفة البيع وكمية الماء المخصصة، وطرق استفادة المواطنين منه، حيث سيزيد ذلك من جشع الأوليغارشية ونفوذها وثرائها على حساب المغاربة المساكين الذين أصبحوا الآن مجرد زبناء لها.. والثانية القوانين الضريبية الجديد والمجحفة التي تصيب جيوب المغاربة وتؤثر سلبا على معيشتهم وحياتهم.. في حين هناك امتيازات ضريبية مهمة لفائدة دولة الأوليغارشية المغربية، مع ترقب قوانين أخرى قادمة وأهمها القانون الجنائي ومساطره، والصيغة النهائية لقانون المسطرة المدنية، وقوانين أخرى تمر في الخفاء ودون ضجيج..
لذلك فإني أعتبر إخراج المدونة للنقاش العمومي تزامنا مع هذه القضايا وغيرها مما لا نعرفه ليس بريئا بما يكفي.. بل جاء وفق تخطيط محكم للغاية.. وعندما يستفيق الشعب بعد هذا النقاش الواسع والكبير، سيكتشف تمرير مجموعة من الأمور في حماسة النقاش وغفلة الوعي.. وهو ما اصطلح عليه ب: «تغيير مركز الاهتمام»، فقد تحول اهتمام الشارع من فضيحة تحلية ماء البحر، والقوانين الضريبية الجائرة إلى الاهتمام بالمدونة، وهذا هو المطلوب في هذه المرحلة!
أما المدونة على حالها الآن، فمآلها الحتمي الفشل، سواء تم إقرارها أو تعديل بعض مضامينها لتعارضها مع مضمون الشرع ورضا الشارع.. ومهندسو هذه الكارثة هم أعلم بذلك من بقيتنا.. ولكن لابد من المغامرة بها من أجل تمرير ما هو أمَرُّ منها..
المدونة لن يُكتب لها النجاح، ولن تحظى أبدًا بالقبول الشعبي، ليس بسبب عيوبها الجوهرية فحسب، بل بسبب منهجية تدبيرها، وتفاهة بعض من شارك فيها، وخضوعها لتوازنات تستجيب للأجنبي على حساب الوطني.. وهذا ممكن ضعفها وهشاشتها..