الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

 الاقتصاد الريعي في المغرب: بين الامتياز الاقتصادي والديمقراطية المؤجلة

 

 

 

بقلم ذ. محمد السميري

 

 

يُعدّ مفهوم “الريع” من أكثر المفاهيم إثارة للجدل في تحليل بنية الاقتصاد المغربي، إذ يشير إلى كل عائد يتحقق دون إنتاج فعلي، أي دون خلق قيمة مضافة ناتجة عن الجهد أو الابتكار. في المغرب، يتجلّى الريع في قطاعات متعددة: رخص النقل والمقالع، الصيد البحري، الامتيازات العقارية، وعائدات الفوسفاط والسياحة. ورغم أن هذه الموارد تُدرّ عائدات مالية مهمة، فإنها لا تؤسس بالضرورة لاقتصاد إنتاجي مستدام قادر على تحقيق العدالة الاجتماعية أو توزيع الثروة بشكل متوازن(1).

 

البنية الاقتصادية المغربية: ريعية أكثر من رأسمالية إنتاجية

 

يمكن القول إن الاقتصاد المغربي ليس اقتصادًا رأسماليًا إنتاجيًا بالكامل، بل يعتمد على رأسمالية ريعية، أي أن العوائد الاقتصادية الكبرى غالبًا ما تأتي من استغلال الموارد الطبيعية أو الامتيازات السياسية، وليس من خلق قيمة مضافة عبر الصناعة أو الخدمات المبتكرة(2). فمثلاً:

  • الفوسفاط يُستخرج ويُباع، لكن العوائد تأتي من المورد الطبيعي نفسه، وليس من ابتكار صناعي جديد أو تطوير تكنولوجي.
  • الرخص العقارية والمقالع تمنح أصحابها امتيازات للاستثمار في موارد موجودة، دون إنتاج إضافي كبير.

 

في المقابل، القطاعات الإنتاجية الحقيقية، مثل الصناعات التحويلية، التكنولوجيا، الزراعة الحديثة والخدمات، محدودة في الحجم ولا تشكّل قاعدة واسعة للنمو الاقتصادي أو خلق فرص الشغل(3). هذا التفاوت يجعل الاقتصاد المغربي أقرب إلى اقتصاد ريعي منه إلى اقتصاد رأسمالي إنتاجي متكامل، حيث التركيز يكون على المنافع السريعة عبر الامتيازات بدل الابتكار والتنافسية.

 

تاريخ الريع وتوزيع الناتج

 

تاريخيًا، بدأ تشكّل الاقتصاد الريعي في المغرب بعد الاستقلال سنة 1956، عندما انتقلت السيطرة على الموارد من الشركات الاستعمارية إلى نخب مغربية جديدة مرتبطة بجهاز الدولة. وقد ساهمت سياسة “المغربة” سنة 1973 في ترسيخ هذا النموذج، إذ نقلت ملكية شركات أجنبية إلى أيادٍ محلية قريبة من مراكز القرار، ما مهّد لبروز طبقة من رجال الأعمال النافذين الذين جمعوا بين السلطة والمال(4). ومع مرور الوقت، تحوّل الريع من مجرد ظاهرة اقتصادية إلى آلية هيكلية لتوزيع الثروة والنفوذ داخل المجتمع.

 

وتشير تقارير رسمية إلى أن ما يقارب 58٪ من الناتج الداخلي الخام يُنتَج في ثلاث جهات فقط من المملكة، وهي جهة الدار البيضاء–سطات (32.2%)، وجهة الرباط–سلا–القنيطرة (حوالي 15.8%)، وجهة طنجة–تطوان–الحسيمة (نحو 10.5%)، ما يعكس تمركزًا مجاليًا واقتصاديًا حادًا للثروة على حساب باقي الجهات التي تعاني ضعف الاستثمار وفرص الشغل(5). كما ظل معدل البطالة مرتفعًا، خصوصًا بين الشباب وحاملي الشهادات العليا، إذ تجاوز 13٪ سنة 2024، مما يعكس ضعف قدرة الاقتصاد الريعي على خلق فرص شغل حقيقية(6).

 

الفئات المستفيدة وأثر الريع

 

الفئات المستفيدة من هذا النظام معروفة: الشركات الكبرى الحاصلة على امتيازات الدولة، والمؤسسات شبه العمومية، ونخب اقتصادية وسياسية تجمع بين القرار الاقتصادي والموقع الإداري. في المقابل، تُستبعَد الفئات الوسطى والطبقات العاملة من المشاركة في الثروة الوطنية، وتظل حبيسة اقتصاد هش قائم على القطاع غير المهيكل والعمل الموسمي(7). ويصف نجيب أقصبي هذا الوضع بأنه شكل من الرأسمالية الريعية التي تُضعف المنافسة وتُكرّس اللامساواة(8).

 

الأثر السياسي والاجتماعي

 

هذا النمط الاقتصادي له انعكاسات سياسية عميقة، إذ إن الريع لا يُنتج فقط تفاوتًا اجتماعيا، بل يحدّ كذلك من إمكانية تطور ديمقراطية حقيقية. فالدولة التي تُموّل جزءًا كبيرًا من مداخيلها من الريع لا تضطر إلى بناء علاقة مساءلة ضريبية مع مواطنيها، مما يُضعف مفهوم العقد الاجتماعي ويقوّي منطق الولاءات(9). وهنا يمكن الاستعانة بتحليل محمد عابد الجابري الذي يرى أن بنية السلطة في المجتمعات العربية تميل إلى “الشخصنة والامتياز” أكثر من ميلها إلى المؤسسية والشفافية، وهو ما ينسجم مع منطق الاقتصاد الريعي(10). كما يقدّم عبد الله العروي قراءة تاريخية لدور النخب في إعادة إنتاج السيطرة الاقتصادية بعد الاستقلال، مما جعل الاقتصاد المغربي قائمًا على الامتياز بدل المبادرة(11).

 

إن أحد أبرز مظاهر فشل هذا النموذج هو تنامي الحركات الاجتماعية في السنوات الأخيرة، بدءًا من حراك الريف (2016–2017)، مرورًا باحتجاجات جرادة وزاكورة، وصولًا إلى حراك جيل زد (Gen Z 212) الذي قاده شباب مغاربة سنة 2025 عبر شبكات التواصل الاجتماعي، معبّرين عن رفضهم للبطالة والتفاوت واحتكار الثروة. هذا الحراك الجديد مثّل تحوّلًا نوعيًا في التعبير الاجتماعي، إذ انتقل من الاحتجاج الميداني المحلي إلى فعل رقمي وطني يسائل جذور الريع وغياب العدالة الاقتصادية(12).

 

تجاوز الاقتصاد الريعي

 

إن تجاوز هذا الوضع يتطلّب تفكيك البنية الريعية عبر مجموعة من الإجراءات: أولًا، توسيع قاعدة الإنتاج الوطني وتشجيع المقاولات الصغيرة والمتوسطة على الابتكار والمنافسة. ثانيًا، تعزيز الشفافية في منح الرخص والصفقات العمومية. ثالثًا، إصلاح النظام الجبائي ليصبح أداة لتوزيع الثروة لا لتكريس التفاوت. وأخيرًا، إشراك المجتمع المدني في مراقبة الموارد العمومية وربط التنمية بالمساءلة الديمقراطية.

 

خاتمة

الاقتصاد الريعي في المغرب ليس مجرد ظاهرة اقتصادية، بل هو نتيجة لتاريخ طويل من تداخل السلطة بالثروة. وقد مكّن هذا النموذج الدولة من الحفاظ على الاستقرار، لكنه في المقابل عمّق التفاوت وأعاق الدمقرطة. إن العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق في ظل اقتصاد يقوم على الامتياز، بل تتطلب اقتصادًا إنتاجيًا تنافسيًا يربط الثروة بالعمل والحق بالمواطنة. فبدون تفكيك بنية الريع، ستظل الديمقراطية في المغرب مؤجلة، والثروة محتكرة، والتنمية حُلُمًا مؤجلاً أكثر منها واقعًا معاشًا.

 

 

_____________

الهوامش

  1. 1. بنك المغرب، التقرير السنوي حول الوضعية الاقتصادية والنقدية والمالية، الرباط، 2024.
  2. 2. شرح مفهوم الاقتصاد الريعي مقابل الاقتصاد الإنتاجي: تحليل علمي للقطاع المغربي.
  3. 3. القطاعات الإنتاجية المحدودة في المغرب وخلق القيمة المضافة، المندوبية السامية للتخطيط، 2023.
  4. 4. عبد الرحيم العلام، السلطة والريع في المغرب: قراءة في علاقة الثروة بالقرار السياسي، جامعة القاضي عياض، 2022.
  5. 5. المندوبية السامية للتخطيط، مؤشرات التنمية الجهوية وتوزيع الناتج الداخلي الخام حسب الجهات، الرباط، 2023.
  6. 6. بنك المغرب، التقرير السنوي نفسه، 2024.
  7. 7. العرابي الجعيدي، État, élites et développement économique au Maroc، Policy Center for the New South، الرباط، 2021.
  8. 8. نجيب أقصبي، Le capitalisme rentier au Maroc : entre rente, pouvoir et inégalités، Revue Critique Économique، 2018.
  9. 9. المرجع نفسه.
  10. 10. محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990.
  11. 11. عبد الله العروي، مجمل تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1996.
  12. 12. تحليل CNN بالعربية، “حراك جيل زد في المغرب: قراءة في خلفيات الاحتجاج الرقمي”، أكتوبر 2025.
Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!