الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

الكوبالت المغربي بين أطماع القوى الكبرى و عبقرية الدبلوماسية المغربية

الحلقة العاشرة من سلسلة “إحقاق حق”

 

 

 

بقلم ذة. نجاة زين الدين – المغرب

 

 

لم يكن إكتشاف كميات هائلة من الكوبالت المغربي بجبل التيروبيك على إمتداد الساحل الأطلسي حدثا جيولوجيا فحسب، بل محطة تاريخية كبرى في مسار التوازنات الجيو-إقتصادية العالمية، ذلك أن هذا المعدن الأزرق النفيس، الذي بات يلقب بـ”نفط القرن الحادي والعشرين”، غدا يشكل اليوم عصب الثورة التكنولوجية الحديثة، إذ تعتمد عليه الصناعات المتقدمة في مجالات البطاريات الكهربائية، و الرقائق الذكية، و الطاقات النظيفة، و صناعة الفضاء، و كل ما يرتبط بمستقبل البشرية الرقمي و البيئي.

 

أولا: من الجيولوجيا إلى الجيوسياسة

 

إن جبل التيروبيك ليس مجرد كتلة صخرية على الساحل المغربي، بل شاهد حقيقي على تحول المغرب إلى مركز طاقة معدنية عالمي، في زمن تتسابق فيه الدول الصناعية الكبرى إلى تأمين مواردها الإستراتيجية من المعادن النفيسة، فمنذ أن بدأت المؤشرات الجيولوجية تظهر غنى الساحل الأطلسي المغربي بمعدن الكوبالت العالي النقاء، حتى إستنفرت العواصم الكبرى جيوشها الإقتصادية و الإستخباراتية لتضع هذا الإكتشاف تحت مجهر مصالحها، و هكذا، بدأت التحركات الصينية عبر شركات التعدين الكبرى، و المناورات الروسية بإسم التعاون الإفريقي، و التحركات التركية تحت شعار الشراكة الإسلامية، و الإهتمام الأمريكي و الإسرائيلي في إطار ما يسمى بـ”التعاون الأمني و الإقتصادي”.

كل ذلك في سياق صراع عالمي على الموارد الإستراتيجية، حيث تتداخل المصالح الجيوسياسية مع الإقتصاد الطاقي و التكنولوجي، في مشهد يعيد رسم خرائط النفوذ على القارة الإفريقية.

 

ثانيا: إفريقيا… الميدان المفتوح للصراع الصامت و للأطماع الدائمة

 

منذ القرن التاسع عشر، كانت إفريقيا تستنزف تحت شعارات الحضارة و التنمية، و هي في الحقيقة قارة الخيرات المنهوبة، و اليوم، و إن تغيرت الأدوات، فإن الهدف ذاته لم يتبدل: الهيمنة على الثروات الطبيعية الإفريقية.

فالكوبالت، و الذهب، و اليورانيوم، و الليثيوم، و النفط، و الغاز، و الفوسفاط، كلها أوردة إقتصادية تشكل شرايين الحياة الصناعية في العالم المعاصر.

و في هذا السياق، تتحرك القوى الكبرى وفق أجندات نفعية ضيقة، تسمح لنفسها بالتدخل في السياسات الداخلية للدول الإفريقية، أو إغراقها في صراعات إثنية/ داخلية لتسهيل التحكم في مواردها.

لقد أصبح التنافس اليوم بين واشنطن و بكين و موسكو على القارة السمراء حربا باردة جديدة، و لكن بوجه إقتصادي أكثر دهاء و أقل ضجيجا. فكل طرف يسعى لترسيخ نفوذه من خلال إتفاقيات ظاهرها “التنمية”، و باطنها “الوصاية المقنعة”.

 

ثالثا: المغرب و إستراتيجية السيادة على الثروات

 

في خضم هذا المشهد المترامي الأطماع، يبرز المغرب كنموذج متفرد في إدارة ثرواته الطبيعية بسيادة و وعي إستراتيجي.

فمنذ عقود، نهجت المملكة سياسة متزنة تقوم على التوازن بين الإنفتاح و الشراكة، و السيادة و الإستقلالية.
و لم يكن إكتشاف الكوبالت بجبل التيروبيك سوى إمتداد لمسار وطني طويل في تثمين الثروة الوطنية و تحصينها من الهيمنة الخارجية.

لقد أدرك المغرب مبكرا أن الثروات لا تقاس فقط بقيمتها السوقية، بل بمدى قدرتها على بناء الإنسان و الوطن.
فالكوبالت المغربي، إذا أحسن إستثماره ضمن رؤية وطنية خالصة، يمكن أن يشكل قاطرة للتحول الصناعي الطاقي، و يضع المغرب ضمن الدول الرائدة في إقتصاد المستقبل الأخضر، خاصة مع تطوير الطاقات المتجددة و الكهرباء النظيفة.

 

رابعا: الدبلوماسية المغربية… حارس السيادة و حكيم التوازن

 

إن الدبلوماسية المغربية، تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، أثبتت قدرتها على حماية المصالح الوطنية في زمن التقلبات الدولية.

فبينما تتنازع القوى الكبرى على النفوذ في القارة الإفريقية، يتحرك المغرب بروح التعاون جنوب-جنوب، بعيدا عن منطق الهيمنة أو الوصاية.

و كلما تحركت أياد غاشمة في البرك الآسنة للأطماع، كانت الدبلوماسية المغربية السد المنيع الذي يحدد الإيقاع السلمي العام، و يوجه بوصلة العلاقات الدولية نحو الإحترام المتبادل و التكامل المشترك.

 

خامسا: بين الطموح الوطني و اليقظة الجماعية

 

إن ما يفرضه الواقع الدولي اليوم هو المزيد من اليقظة و الحذر، فالأطماع لا تموت، و الفرص الكبرى تستدعي حسن التدبير لا فقط حسن النية.
على كل مغربي أن يدرك أن ثروات الوطن هي أمانة في أعناق أبنائه، و أن السبيل إلى تحصينها هو الوحدة الوطنية، و الشفافية في التسيير، و النزاهة في الإستثمار.

فإذا توفرت النوايا الحسنة، و تم توظيف هذه الخيرات بروح وطنية صادقة، فإن المغرب قادر على أن يتحول من بلد غني بالثروات إلى قوة إقتصادية مؤثرة في محيطه الإفريقي و المتوسطي و العالمي.

 

سادسا: من تصدير الخام إلى بناء إقتصاد القيمة المضافة و التنمية الداخلية

 

لقد آن الأوان أن يتحرر المغرب، و معه القارة الإفريقية، من نمط الإقتصاد الريعي القائم على تصدير المواد الخام بثمن بخس، و إستيرادها مصنعة بأضعاف قيمتها، فهذه المعادلة الظالمة كانت عبر التاريخ أداة لنهب الثروات و تكبيل إرادة الشعوب.

إن الكوبالت المغربي المكتشف بجبل التيروبيك يجب أن يكون نقطة تحول نحو مرحلة جديدة من التصنيع الوطني المتقدم، لا مجرد مورد لتغذية المصانع الأجنبية.

فبإمكان المغرب الآن، بما راكمه من كفاءات علمية و مهندسين و خبرات صناعية، أن يطور منظومة وطنية متكاملة في تكرير الكوبالت و معالجته و تحويله إلى مكونات أساسية للبطاريات الكهربائية و التكنولوجيا الخضراء، وهي صناعات المستقبل التي تفتح أمام المغرب آفاقا إقتصادية غير مسبوقة.

لقد بدأ المغرب فعلا يخطو بثقة في هذا الإتجاه، من خلال تشجيع الإستثمار في الطاقة النظيفة و صناعة السيارات الكهربائية، و بناء مناطق صناعية متقدمة، و توقيع شراكات إستراتيجية مع دول إفريقية شقيقة تقوم على التكامل لا الإستغلال.

فبدل أن يصدر المغرب الكوبالت خاما ليعود إليه في شكل بطاريات بأضعاف ثمنه، يمكنه أن يصنع هذه البطاريات على أرضه، و يوفر آلاف فرص الشغل، و يحقق سيادة صناعية و طاقية حقيقية.

و لأن السيادة الإقتصادية لا تقل أهمية عن السيادة الترابية، فإن تحويل الثروة المعدنية إلى منتوج وطني متكامل هو الطريق الأضمن و الأمثل لتثبيت قوة المغرب في سوق القرن الحادي و العشرين، حيث تتراجع قيمة النفط و تعلو قيمة المعادن النادرة.

إن بناء وحدات تصنيع مغربية للكوبالت و الليثيوم و النيكل، إلى جانب مشاريع الطاقات المتجددة، سيجعل من المغرب نموذجا إفريقيا للنهضة الصناعية النظيفة، و سيمنحه مكانة إستراتيجية كمورد رئيسي للمواد الحيوية في الصناعة العالمية الجديدة.

إن الكوبالت المغربي ليس مجرد معدن إستراتيجي، بل رمز لمرحلة جديدة من الوعي الوطني و السيادي، حيث يتقاطع التاريخ بالإقتصاد، و تتجدد مسؤولية الدولة و المجتمع في حماية الخيرات من الأطماع، و توظيفها لبناء المستقبل.

فبين أطماع الخارج و وعي الداخل، يقف المغرب شامخا، سيدا على أرضه، ثابتا في سيادته، مؤمنا بأن التنمية الحقة لا تستورد، بل تصنع بإرادة وطنية، كرامة لا تشترى.

فها هو المغرب، كما كان عبر القرون، يستيقظ على خيرات تنبع من صميم ترابه الطاهر، و تتكلم بلغة النقاء و الكرامة.
من رمال الصحراء إلى أعماق الأطلس، و من سواحل التيروبيك إلى سهول الشاوية و الريف، لتسطر الجغرافيا ملحمة وطن لا ينحني، وطن يحمل في أعماقه معدنا أزرقا لا يضاهى، و في روحه إصرارا أشد صلابة من كل حجر على وجه الأرض.

ليس الكوبالت وحده ما يلمع في باطن الجبل، بل تاريخ من النضال و السيادة و الوفاء، فهذه الأرض لم تعرف الخضوع يوما، و لن تبيع خيراتها إلا بثمن العزة و الإحترام المتبادل.

فكلما سال لعاب الطامعين، و تداعت أطماعهم كأمواج هوجاء، إرتفعت قامة المغرب أكثر، و توحدت كلمته في وجه العواصف.

إنها لحظة فاصلة في التاريخ، حيث يختبر إيماننا بالوطن قبل كل شيء.

فإن صدقت النوايا، و صان المغاربة و مسؤولوه أرضهم و خيراتهم، و دبروا شأنهم الداخلي بكل ضمير و مسؤولية، بعيدا عن منطق الإنتهازية و الوصولية، فإن الكوبالت سيتحول من معدن في جوف الجبل إلى رمز للكرامة في جبين الأمة و كل الشعب المغربي، إذا ما تم توظيف عائداته في إستثمارات وطنية تستهدف تحقيق العدالة الإجتماعية و المجالية لكل المغاربة أينما وجدوا.

و بذلك لن تكون ثروات المغرب بعد اليوم لعنة الأطماع، بل نعمة البناء و النهوض و التصنيع و السيادة الفعلية.

 

فسلام على أرض إذا نطقت، قالت: أنا المغرب… سيدة الأرض، و ملحمة الخلود.
سلام على وطن يزرع الفخر في النفوس، و يحصد السيادة من جذور التاريخ، ليظل كما ولد: حرا، أبيا، لا يستباح عرضه و دمه، و يؤمن بالتوزيع العادل لثرواته.

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!