الرياضة وكرة القدم كأداة أيديولوجية وسياسية
بقلم ذ. محمد السميري
لطالما تجاوزت الرياضة كونها نشاطًا بدنيًا أو تسلية شعبية، لتصبح أداة سياسية وأيديولوجية محورية تُستخدمها الأنظمة المختلفة لتعزيز سلطتها وبناء الشرعية الوطنية وإعادة تشكيل وعي الجماهير. في هذا السياق، تؤكد الدراسات الكلاسيكية في علم الاجتماع الرياضي، وعلى رأسها أعمال جان ماري بروهم في كتابه Sport et idéologie، أن الرياضة تمثل جهازًا أيديولوجيًا للدولة، حيث يتم توظيفها لتشكيل وعي الأفراد وتعزيز القيم التي تخدم النظام الحاكم، مثل الانضباط، الولاء، والانتماء الوطني. وفي هذا الإطار، يشير جورج ميغنان (1964) إلى أن “اللعبة الرياضية التي تبدو في جوهرها نشاطًا تحرريًا يمكن أن تتحول تدريجيًا أو فجأة إلى أداة للهيمنة، حتى يصل الفرد إلى درجة لا يعي فيها هذا التحول أو لا يدركه بشكل كامل”، ما يوضح كيف يمكن للرياضة أن تُستغل سياسياً دون وعي الجماهير بذلك.
لقد أبرز التاريخ أمثلة عديدة على هذا الاستغلال، ومن أبرزها حالة إسبانيا تحت حكم الجنرال فرانسيسكو فرانكو. بعد استيلائه على السلطة عام 1939، استخدم فرانكو كرة القدم لتعزيز سلطته السياسية وترويج أيديولوجيته الفاشية، فكان نادي ريال مدريد بمثابة رمز للنظام، فيما أصبحت أندية مثل برشلونة تعبيرًا عن المقاومة الكتالونية وتحديًا للفكر المركزي للنظام. وقد استخدمت الانتصارات الرياضية، مثل فوز المنتخب الإسباني ببطولة كأس الأمم الأوروبية عام 1964، كأداة دعائية لتجميل صورة النظام داخليًا وخارجيًا. وفي هذا الإطار، يمكن ربط الظاهرة بمفهوم الأجهزة الأيديولوجية للدولة الذي طرحه المفكر الفرنسي لويس ألتوسير، حيث يرى أن المؤسسات الرياضية، إلى جانب المدارس ووسائل الإعلام، تعمل على تشكيل الوعي الفردي والجماعي وتوجيهه بما يخدم النظام القائم، ما يجعل الرياضة أداة قوية للهيمنة الأيديولوجية.
وعلى المستوى المحلي، شهد المغرب بعد الاستقلال عام 1956 تحول كرة القدم إلى وسيلة سياسية وثقافية بارزة لبناء الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء الوطني. فقد أصبحت الأندية الكبرى مثل الوداد الرياضي والرجاء الرياضي رموزًا للوحدة الوطنية، وأصبحت منافساتها أكثر من مجرد مباريات رياضية، بل انعكاس لتنافس اجتماعي وإقليمي أوسع. كما استُخدمت المباريات الدولية للمنتخب المغربي كأداة لتعزيز صورة الدولة على الساحة الدولية، حيث يتم تسليط الضوء على القيم الوطنية والانتماء السياسي في الوقت نفسه، في سياق يعكس بوضوح العلاقة التكاملية بين الرياضة والشرعية السياسية.
وبالإضافة إلى أبعادها السياسية، لعبت كرة القدم دورًا في إلهاء الجماهير عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية. فقد لاحظ الباحثون كيف أن متابعة المباريات وبطولات الدوري المحلي والدولي تجعل الجماهير منشغلة بالرياضة، ما يقلل من التركيز على التوترات الاجتماعية أو المشكلات الاقتصادية، وهو ما يمكن تفسيره وفق مصطلحات بروهم بأنه نوع من “الاستلاب الجماعي”. وفي الوقت ذاته، ساهمت كرة القدم في تعزيز الروح الجماعية والانتماء الوطني، إذ تعلم الجماهير قيم الانضباط، التعاون، والمنافسة، لكنها في الوقت نفسه تكشف التفاوتات الاجتماعية، مثل التركيز على كرة القدم على حساب الرياضات الأخرى أو الفجوة بين البنية التحتية في المدن الكبرى والمناطق النائية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تحولت كرة القدم إلى صناعة مربحة تشمل حقوق البث والرعاية والتسويق، مما يعكس تحولها إلى أداة اقتصادية بجانب دورها السياسي والاجتماعي. لكن هذا التطور الاقتصادي لم يخلُ من التحديات، إذ يشير عدد من الباحثين إلى أن الرياضيين أحيانًا يُستغلون كسلع تجارية، بينما يعاني العديد من الأندية من ضعف التمويل ونقص البنية التحتية، ما يستدعي إعادة النظر في استراتيجيات تطوير الرياضة على نحو مستدام.
في الختام، يظهر جليًا أن كرة القدم ليست مجرد لعبة شعبية، بل هي أداة متعددة الأبعاد يمكن توظيفها لأغراض سياسية وأيديولوجية، سواء في الأنظمة الاستبدادية العالمية، مثل حالة فرانكو في إسبانيا، أو في السياق المحلي. ومن خلال دراسة هذه الظاهرة، يمكن إدراك الدور المحوري الذي تلعبه الرياضة في تشكيل الوعي الجماعي وإعادة إنتاج الهياكل الاجتماعية والسياسية، مع إبراز الإمكانات الكامنة للرياضة في التنمية الاجتماعية والثقافية إذا ما استُخدمت بوعي استراتيجي.
______________
المراجع:
- Brohm, Jean-Marie. Sport et idéologie. Paris: Maspero, 1976.
- Magnane, Georges. Sociologie du sport: situation du loisir sportif dans la culture contemporaine. Paris: Gallimard, 1964.
لويس، التوسير. “الأيديولوجيا والأجهزة الأيديولوجية للدولة””