العدالة الانتقالية في سوريا..
هل يمكن للذاكرة أن تصبح جسراً للسلام؟
بقلم: د. فارس يغمور
عميد المعهد العالي لحقوق الإنسان والعلوم الدبلوماسية
منذ اندلاع النزاع السوري عام 2011، وما تبعه من دمار بشري ومادي هائل، برزت إشكالية العدالة الانتقالية كإحدى القضايا الجوهرية التي لا يمكن تجاوزها إذا ما أرادت البلاد أن تتجه نحو مستقبل آمن ومستقر. فالانتهاكات الجسيمة التي طالت ملايين السوريين – قتلاً واعتقالاً وتهجيراً وتعذيباً – تركت آثاراً عميقة في الذاكرة الفردية والجماعية، وجعلت من مسألة التعامل مع الماضي مدخلاً ضرورياً لأي مسار نحو السلام والمصالحة.
لكن يبقى السؤال الأساسي: هل يمكن للذاكرة، بما تحمله من جراح وندوب، أن تتحول من مجرد سجل للآلام إلى جسرٍ يُعبر به السوريون نحو العدالة والسلام؟
مفهوم العدالة الانتقالية وأبعاده
العدالة الانتقالية لا تعني الاقتصار على المحاكمات الجنائية، بل هي إطار شامل يتضمن أربعة أركان رئيسية:
1.كشف الحقيقة: عبر لجان الحقيقة والذاكرة، التي تُوثّق الانتهاكات وتُعيد الاعتبار للضحايا.
2.المساءلة والمحاسبة: من خلال محاكمات عادلة تمنع الإفلات من العقاب.
3.جبر الضرر والتعويض: بما يشمل التعويض المادي، ورد الاعتبار، وإعادة الإدماج الاجتماعي للضحايا.
4.الإصلاح المؤسسي: لضمان عدم تكرار الانتهاكات، خصوصاً داخل الأجهزة الأمنية والقضائية.
في الحالة السورية، يُضاف إلى هذه الأركان بُعدٌ شديد الأهمية، وهو إعادة بناء الثقة المجتمعية بين المكونات المختلفة، بعد أن عصفت بها سنوات الحرب والانقسام.
الذاكرة كساحة صراع
الذاكرة ليست محايدة؛ بل هي مجال للصراع على الرواية والشرعية. في سوريا، تتعدد السرديات: ذاكرة النظام، ذاكرة المعارضة، ذاكرة المجتمعات المحلية المتضررة، وذاكرة الضحايا في الداخل والشتات. وكل طرف يسعى إلى تثبيت روايته على أنها “الحقيقة”.
لكن العدالة الانتقالية الناجحة لا تقوم على إقصاء سردية لصالح أخرى، بل على بناء رواية جامعة تستند إلى الوقائع المثبتة قانونياً وإنسانياً. ومن هنا تنبع أهمية التوثيق الشفاف والمستقل، لأنه يحول الذاكرة من أداة تعبئة انتقامية إلى أداة اعتراف ومصالحة.
التحديات الخاصة بالسياق السوري
تواجه سوريا مجموعة من العقبات الفريدة:
- تعدد الجهات الفاعلة: تعدد سلطات الأمر الواقع والجهات الخارجية يزيد من تعقيد أي مسار وطني شامل.
- الانقسام المجتمعي: النزاع عمّق الفجوات الطائفية والعرقية والسياسية.
- غياب البيئة الآمنة: استمرار العنف يجعل من الصعب فتح ملفات الماضي بأمان.
معضلة اللاجئين والمهجرين: أكثر من نصف الشعب خارج مناطقه الأصلية، ما يجعل المشاركة في العدالة الانتقالية شاملة أمراً بالغ الصعوبة.
تحويل الذاكرة إلى جسر للسلام
لكي تصبح الذاكرة أداة بناء لا هدم، يجب العمل على مسارات متوازية:
1.المؤسساتية: إنشاء هيئات وطنية أو دولية مختلطة تُعنى بالتوثيق وكشف الحقيقة.
2.التربوية والثقافية: إدماج سرديات الضحايا في المناهج التعليمية والمشاريع الثقافية، بما يحفظها من النسيان.
3.المجتمعية: إطلاق مبادرات محلية للحوار والمصالحة تُمكّن الأفراد من التعبير عن تجاربهم، وتعيد بناء الثقة تدريجياً.
4.الحقوقية: ضمان أن يكون الاعتراف بالضحايا مقروناً بحقوق ملموسة: تعويض، رعاية، وضمان عدم التكرار.
مقاربة مقارنة
يمكن الاستفادة من تجارب دول أخرى مثل جنوب إفريقيا، المغرب، الأرجنتين، ورواندا. ففي كل من هذه الحالات، لعبت الذاكرة دوراً مركزياً في صياغة مستقبل جديد، شرط أن يتم إدارتها ضمن إطار عدالة انتقالية شاملة، وليس عبر الاقتصار على المصالحة الشكلية أو النسيان القسري.
إن مستقبل سوريا لا يمكن أن يُبنى على إنكار الماضي أو القفز فوقه، كما لا يمكن أن يُختزل في رواية طرفٍ دون آخر. الذاكرة، على قسوتها، يمكن أن تكون مادة للشفاء الجماعي إذا أُحسن التعامل معها، أو أن تبقى مادةً للانتقام إذا تُركت رهينة للإنكار والتوظيف السياسي.
العدالة الانتقالية هي الجسر الذي يُمكّن الذاكرة من التحوّل من مستودعٍ للآلام إلى منبرٍ للحقيقة، ومن منصةٍ للانتقام إلى أرضيةٍ للسلام. والسؤال الذي يجب أن يواجهه السوريون اليوم هو: هل نحن مستعدون لتشييد هذا الجسر، مهما كانت صعوبته، كي نمنع تكرار المأساة للأجيال القادمة؟