حين يصبح التجويع و التفقير و التقتيل العرقي أدوات حرب… في عالم يسبح في الصمت و الدماء و التواطأ؟؟؟
( الحلقة الثانية من سلسلة إحقاق الحق )
بقلم: نجاة زين الدين
منذ أن عرفت البشرية الحروب الأولى، منذ سيوف الغزاة في العصور القديمة، إلى الصواريخ الذكية الموجهة في هذا الزمن البليد، لم تتغير الأهداف: السيطرة، الإبادة، و نهب خيرات الشعوب، و لكن ما تغير هو شكل الجرائم، و تحول مرتكبيها من غزاة جهلة إلى نخب إمبريالية متعلمة تتشدق باسم “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” وهي تخطط خلف ذلك لمجازر وحشية بمكاتب أنيقة في عواصم القرار العالمي: واشنطن.
1) كرونولوجيا آلة الإبادة: من إفريقيا إلى أمريكا إلى فلسطين:
🟢إثيوبيا، رواندا، الصومال… و مسيرة الموت الذي لا يموت:
فمنذ أواخر القرن 19، حين بدأت القوى الإستعمارية الأوروبية تتقاسم إفريقيا كما تقتسم الموائد في حفلات الملوك، بدأت الآلة الإبادية تأخذ شكلها الحديث: تجويع السكان، سلب الأراضي، زرع الفتن العرقية، و نشر الأمراض الفتاكة لتقليص عدد السكان.
*)ففي إثيوبيا، ذاقت الشعوب ويلات المجاعة الممنهجة زمن الإحتلال الإيطالي، و قصفت بالغازات السامة من السماء.
*) أما في رواندا، فلقد تمت تغذية الكراهية بين الهوتو و التوتسي من طرف القوى الغربية، لتنفجر إحدى أبشع الإبادات 1994العرقية سنة
بمليون قتيل في مئة يوم فقط.
*) اما في الصومال، فلقد نهبت الثروات البحرية، و أغرقت البلاد في فوضى الميليشيات، و الحصار، و التجويع الذي صار سلاحا عقابيا جماعيا بدون رحمة.
🟢 أما تجربة الهنود الحمر، فلقد كانت أولى تجارب الإبادة العالمية المنظمة، بحيت تم القضاء على أكثر من 90٪ من السكان الأصليين من أمريكا الشمالية، ليس فقط بالرصاص و السيوف، بل بسياسة الأرض المحروقة، و”بطانيات الجدري”التي وزعت عمدا لنشر الأوبئة بينهم، و تجويعهم بإبادة الجاموس، مصدر قوتهم الوحيد و بإلزام النساء الحمر بالإمتثال لأدوات التعقيم الإصطناعي، ليتوقفن عن الإنجاب، فهل هناك بشاعة أخطر من هاته؟؟؟
🟢فلسطين: التراجيديا المستمرة
أما اليوم، فإن الشعب الفلسطيني يقف عاريا في وجه أعتى آلة عسكرية على وجه الأرض، مدعومة بأسلحة الإمبريالية العالمية كاملة و مدعومة بإعلام عالمي و صامت و كاذب، و مؤسسات دولية أعماها النفاق و إستبد بها الجشع و هيمن عليها حب السيطرة و التحكم في كل العالم.
– التجويع: سياسة ممنهجة، عبر الحصار، و تدمير الزراعة، و قطع الكهرباء و الماء.
– التهجير القسري: من دير ياسين إلى النكبة، من غزة إلى رفح، الخطة ذاتها: “إفراغ الأرض من سكانها لتملأ بالمستوطنين”.
– التقتيل العرقي: قصف الأسواق و المستشفيات و المدارس، و إستهداف الأطفال و النساء بالأسلحة الكيماوية و المتفجرات العنقودية.
إلا أنه برغم كل ذلك، لا يغادر الفلسطيني أرضه، و لا يستسلم للوباء و لا للتفقير و لا للخراب و لا للدمار… لأنه يدرك أن الأرض هي الكرامة، و أن الإستجابة لشروط هذا التهجير اللاقانوني هو إعتراف بالهزيمة و القبول بالعيش بالمهانة مدى الحياة.
2) منظمات دولية… صوتها لا يسمع إلا لمصاصي الدماء:
ما جدوى مجلس الأمن، و مواثيق جنيف، و منظمات الأمم المتحدة، إذا كانت تستخدم فقط لتقنين الإحتلالات، و إدارة الحروب لا إيقافها؟
لقد صارت هذه المؤسسات مكياجا ناعما لوجه الرأسمالية المتوحشة، التي لا تحيا إلا من خلال الأزمات و صناعة الصراعات و نفث سموم الحروب.
🟢صندوق النقد الدولي و البنك الدولي أدوات ناعمة لكن نتائجها مدمرة:
*)فرض “إصلاحات هيكلية” = خصخصة، إفقار، بيع سيادة القرار الإقتصادي لكل الدول المستضعفة بمجرد قبولها بمقترحات الإستدانة بشروطهما و إملاءاتهما.
فإغراق الدول بالديون = رهن القرار السيادي و فتح الأبواب أمام شركات النهب المتعددة الجنسيات.
3) الإستعمار الجديد: حين يصبح السلاح هو الفتنة:
لم تعد السيطرة بحاجة إلى جيوش. فيكفي :
🟢زرع صراعات عرقية و دينية و طائفية.
🟢تغذية الأحقاد و الضغائن بين الشعوب بإعلام ممول، يزرع الكراهية و يتكفل بتدبير سيناريو و جنيريك إخراج كل العمليات التمزيقية.
🟢توظيف جهل الشباب الإفريقي، و دفعهم إلى تقاتل هوياتي عقيم، كما نراه اليوم في شعارات متطرفة لتيار:
“إفريقيا للسود فقط!”… و كأن الشمال الإفريقي ليس من إفريقيا! و كأن ألوان البشرة أهم من التاريخ الموثق و المصير المشترك .
4) ماذا نفعل؟ مقترحات الحلول الممكنة:
إنه السؤال الأهم: هل نحن عاجزون؟ لا.
*) الوعي التاريخي و السياسي هو الحل: لذلك و عليه يجب علينا كشعوب و دول أن نقوم ب:
– تدريس التاريخ الحقيقي للغزوات و التعريف بطبيعة الإستعمار الجديد في المدارس و الجامعات و المساجد و فتح حلقات نقاش بالشارع و الأحياء و البيوت.
– إطلاق حملات تثقيفية شعبية ضد الجهل المنظم الذي يغذي الفتن و الأحقاد.
*) التحرر من الهيمنة المالية ب:
– رفض ديون الإذلال من صندوق النقد الدولي و البنك الدولي…
-بناء إقتصاد بديل مستقل عن مؤسسات النهب المالي الدولي.
– تكوين تكتلات إقليمية تحررية (إفريقية – آسيوية أمريكية لاتينية).
*) إعادة بناء منظومة العدالة الدولية…
– الدعوة إلى تشكيل محكمة شعوب موازية لمحكمة لاهاي.
– دعم الإعلام البديل و المستقل لكسر هيمنة الرواية الرسمية الكاذبة التي تجتر بكل المواقع الإعلامية سواء الواقعية أو الإفتراضية.
*) تجريم الحصار و التجويع كجرائم حرب ب:
– سن قوانين دولية تجرم إستخدام الحصار كأداة حرب جماعية.
-الضغط على المنظمات الدولية لفتح ممرات إنسانية عاجلة حيث تقع الكوارث، و على رأسها فلسطين.
5)صرخة في وجه العالم: كفى!
كفى من إستعباد الشعوب!
كفى من تمزيق الأوطان و بيعها بالديون
كفى من إستعمار جديد يرتدي قفازات ناعمة و هو في الحقيقة مخلب ذئب شرس يتربص بكل الشعوب المستضعفة للإنقضاض عليها متى تبين ذلك…
إن العالم لا يحتاج فقط إلى وقف الحروب، بل إلى إعادة الإنســـانـــية للإنــــــســـان.
إلى تفتيق وعي حقيقي يصرخ بأعلى صوته بأن ما يحدث في غزة ليس بعيدا عنا… فغزة اليوم، و غدا قد يكون أي بلد فقير لا يخضع للأوامر و لا يمتثل للشروط و لا ينفذ الإملاءات.
إن ما يحدث اليوم في فلسطين، و في إفريقيا، و في بقاع كثيرة من العالم، ليس مجرد “صراع”، بل هو فصل جديد من كتاب إستعماري طويل، لم يطو بعد، لكن الفرق هو أن الشعوب أصبحت أكثر وعيا، و أكثر عزما على إسترداد صوتها و سيادتها.
و لأننا نكتب، و نصرخ، و نوثق، فإننا لا زلنا نقاوم،
و لأن فلسطين تقاوم رغم كل شيء، فإننا ندرك أن النصر ليس ببعيد… بل سنكتبه نحن بأقلامنا، بدمائنا، بضــــمـــيـــرنا الإنـــســــانـــي إن شاء الله…