الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

 

المديونية… قيد
إقتصادي أم إستعمار مقنع؟

( الحلقة السادسة من سلسلة شذرات فكرية )

 

 

 

بقلم: نجاة زين الدين

 

 

حين يتحول القرض إلى قيد، و التمويل إلى تكميم، و السياسة الإقتصادية إلى وصاية مفروضة من خارج الحدود.
في زمن لم تعد فيه الجيوش تغزو الدول بالدبابات فقط، بل باتت فيه الديون أداة لغزو جديدة، و القروض بوابة للإستعباد النيو الإستعماري الذي يرتدي رداء التنمية، و يمنحك حبلا بيد، ليطالبك بالصعود إلى المقصلة بالأخرى…
إن ما يجري اليوم في أغلب الدول النامية و العربية و الإفريقية، ليس مجرد “إستدانة تقنية” لتغطية عجز الميزانيات، بل هو نموذج إستغلالي محكم القواعد، مكشوف النوايا و واضح التصور و المخطط ، لإعادة إنتاج التبعية الإقتصادية و السياسية و الفكرية. هي حرب ناعمة، لكنها أشد أثرا و فتكا من البنادق، لأنها تستهدف القرار السيادي، و تخنق الإرادة الوطنية، و تسحق المواطن تحت وطأة التفقير و التجويع و إمتهان الإذلال.

 

1) من أين تبدأ الحكاية؟ الأسباب العميقة للمديونية:

 

لا يمكننا أن نحاكم المديونية دون العودة إلى جذورها، فهذه الأزمة ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة لعوامل متداخلة:
🟢 إقتصادات هشة تقوم على تصدير المواد الخام بثمن بخس، و إستيراد لكل شيء( حتى اللحوم و الخضر و الأساسيات قبل الكماليات) بثمن مرتفع و فاحش…
🟢 نخب سياسية عاجزة أو مسلوبة القرار ترى في “التمويل الأجنبي” المخرج الأسهل من أزماتها.
🟢 فساد بنيوي بتدبير حكومات أنانية تبتلع خيرات الوطن و تعيد تدويرها في حسابات خارجية دون حسيب و لا رقيب…
🟢نظام جبائي غير عادل، يجعل الأغنياء في مأمن من الضرائب، بينما يستنزف المواطن البسيط و المشاريع الصغرى لتهوي إلى الإفلاس البطيء و التدريجي دون حماية تأمينية من الدولة.
🟢 تحالفات دولية غير متكافئة، تضع الدول النامية في موقع الخضوع الدائم.
🟢 إنسياق وراء “نصائح” المؤسسات الدولية التي تقدم “روشتات” جاهزة، هدفها تفكيك ما تبقى من مؤسسات الدولة.

 

2) أين تذهب هذه الديون؟؟؟ وإلى يد من تصل؟

 

فرغم حجم الديون الهائل، يظل السؤال المحوري: هل تصل هذه الأموال فعليا إلى المواطن من خلال إستثمارات مواطنة و عقلانية؟؟؟
الإجابة الصادمة: لا لأن الجزء الكبير منها يهدر في إعادة جدولة الديون السابقة، مما يبقي الدولة في دوامة عبثية و دائرة مفرغة من الإلتزامات التي تزيد في إثقال كاهل الشعب.
أما الجزء الآخر فينهب من طرف لوبيات الفساد، و يصرف في مشاريع إستعراضية لا تحل المشكلات الجوهرية للبلاد بل يزج بها في مستنقع التبعية و التخلف و التفقير إلى أجل غير مسمى.
فنسبة مهمة من هذه المبالغ المستدانة تعاد إلى الدول المقرضة عبر الشركات الأجنبية التي تشترط خدماتها بالإكراه لتنفيذ المشاريع المسطرة من طرف المؤسسات المانحة.
و المؤلم الأكثر: أن هذه الديون تستخدم كأداة لتقييد السياسات الإجتماعية و الإقتصادية بفرض ما يسمى ب “الإصلاحات”، وهي في الحقيقة خطط تجويع و تجفيف للقطاعات الحيوية.

 

3) شروط الإستعمار الجديد… حين تكتب السياسات الوطنية في مكاتب واشنطن:

 

إن ما يقدمه صندوق النقد الدولي و البنك الدولي ليس قروضا بقدر ما هو حصار مشروط، تقوده سياسات مملاة من خارج الوطن، لتشمل:
🟢رفع الدعم عن المواد الأساسية، لتتحول المعيشة إلى كابوس يومي.
🟢خصخصة قطاعات التعليم و الصحة و النقل، لتصبح الخدمات العمومية حكرا على القادرين فقط.
🟢تحرير السوق، مما يفتح الأبواب أمام جشع الشركات الأجنبية فيخنق بذلك المنتوج الوطني.
🟢تجميد التوظيف العمومي، مما يزيد من معدلات البطالة و اليأس في صفوف الشباب.
🟢تحويل الدولة إلى مجرد حارس لبوابة السوق الحر، دون أي قدرة على التدخل لحماية شعبها و منتوجها الوطني.

 

 

4)المغرب نموذجا… قيد الديون و خنق السيادة الوطنية:

 

يعتبر المغرب اليوم واحدا من أكثر الدول إلتزاما بشروط صندوق النقد الدولي، بحيث:
🟢بلغت مديونيته اليوم أكثر من 1,1 تريليون درهم.
🟢خضع لعقود من “الإصلاحات” التي إنتهت بـ:
*)تحرير أسعار المحروقات، فأصبحت بلادنا من بين أغلى الدول في إفريقيا رغم عدم إمتلاكنا لمصافي مشتغلة.
*)تفكيك صندوق المقاصة، و تحميل المواطن عبء الأسعار العالمية.
*)إغراق التعليم بالخصخصة، و تجويفه من مضمونه المعرفي و القيمي، ليخرج جيلا غير مسلح بالعلم و لا بالوعي، فيبقى قابلا للإستغلال، سهل الإنقياد.
*)تشجيع الإستهلاك المفرط للسلع الأجنبية على حساب المنتوج الوطني، مما يساهم في إستنزاف إحتياطي العملة و يزيد من العجز التجاري.

 

5) كيف نتحرر؟ آليات الخلاص وبناء السيادة:

 

إن الخروج من هذه الورطة لا يكون بالتمني و مطاردة الأحلام، بل برؤية سياسية و إقتصادية جذرية، تضع الإنسان و المجتمع في قلب المعادلة، من خلال:
🟢 إعادة الإعتبار للإنتاج الوطني:
*)تشجيع المواطن على إستهلاك المنتوج المغربي، لا بدافع الشوفينية، بل لحماية الإقتصاد و العملة الوطنية.
*)حماية الأسواق من السلع الرديئة المستوردة، و تعزيز الصناعات المحلية.
🟢 السيادة الغذائية أولا:بتوجيه الإستثمار نحو الزراعة المحلية، و دعم الفلاح الصغير، و تقليص التبعية الغذائية للغرب.
🟢 التحرر من فخ السياحة الخارجية:
بتحفيز السياحة الداخلية بعد تحسين بنياتها التحتية، بدل ضخ الملايين في إقتصادات أجنبية.
🟢 تعليم وطني متحرر من إملاءات القوى الإمبريالية التي أحكمت قبضتها على كل الشعوب المستضعفة،
بوقف خصخصة التعليم، و العودة إلى مدرسة وطنية قيمية، تتكفل بإنتاج المفكرين لا المستهلكين و المقاومين لا المنبطحين.
🟢 إعادة التفاوض على الديون:
كما فعلت الإكوادور و الأرجنتين و ماليزيا، بإعادة جدولة الديون بشروط عادلة، أو بإلغائها حين تثبت عدم مشروعيتها.

 

6) من تجارب التحرر… دروس حية لأمم أبت الركوع:

 

🟢#الإكوادور: أجرت مراجعة شاملة لشرعية الديون، و ألغت جزءا كبيرا منها.
🟢#ماليزيا: رفضت تدخل صندوق النقد 1997خلال أزمة
و حققت تعافيا إقتصاديا قويا.
🟢#الأرجنتين: تحدت شروط المؤسسات المالية، و بدأت مسارا إستقلاليا ناجحا.
🟢#رواندا: بنت اقتصادا محليا صلبا، مستفيدة من الكفاءات الوطنية و الإنضباط المالي.

 

7) أي مسؤولية للمواطن في كل هذا؟

 

التحرر لا يتم فقط عبر قرارات سياسية، بل يحتاج إلى ثورة وعي وطني جماعي، فالمواطن مسؤول أيضا حين:
🟢يفضل المنتوج الأجنبي على منتوج بلاده.
🟢يسافر للخارج و يتباهى بإستهلاك سلع أجنبية بدل دعم منتوج وطنه.
🟢يساهم في نشر التفاهة و يهجر المعرفة، تاركا المجال لثقافة الخنوع.

 

8)ما بين الإستسلام و الإنعتاق… مسافة قرار:

 

لسنا شعوبا فاشلة، بل ضحايا لمنظومة قهرية عالمية، تبقي على مصادرة خيراتنا، و رهن قراراتنا، و تأجيل أحلامنا، لكننا لسنا عاجزين لأننا إذا ما ملكنا الوعي، و الإرادة، و الإصرار على إسنخلاص العبر من التاريخ الذي يشهد أننا متى قررنا النهوض، فعلنا المستحيل.
إننا اليوم أمام مفترق طرق:
إما أن نواصل الإنبطاح و التمادي في الإقتراض و الخصخصة و التجويف،
أو أن ننهض من سباتنا، و ننفض عنا غبار اليأس و الإحباط و نبني دولة ذات سيادة حقيقية، و إقتصادا وطنيا مستقلا، و مجتمعا متماسكا مدركا لموقعه في معادلة الإستغلال العالمي.
فإما أن نستفيق اليوم،
أو نستيقظ غدا على وطن بلا كرامة، و إقتصاد بلا سيادة، و جيل بلا أفق.

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!