من يملك هذا الوطن؟ و من يدفع الثمن؟
( الحلقة الأولى من سلسلة إحقاق الحق )
بقلم : نجاة زين الدين
هل يملك من لا يجد ما يسد به رمق أطفاله و من لا يتوفر على ماء نظيف للشرب وطنا؟
هل تنتمي من لم تطأ قدماها يوما المدرسة، و لا مكتبة و لا مستشفى و لا دارا للشباب ليتأطر أبناؤها ولا مركبا ثقافيا و لا مسرحا لائقا…إلخ إلى وطن ينظر صباحا و مساءا لتنمية محلية في الخطب و الأوراق فقط؟
هل يكفي التوفر على الرقم الوطني في بطاقة التعريف ليمنح المواطن كرامة مهدورة و حقا مسلوبا وحرية مغبونة؟
أم أن الإنتماء اليوم بات يقاس بثمن الذمة في موسم الإتجار بكراسي المناصب عند الإنتخابات، حين تشترى الهمم بدرهمين و تباع الكرامة بعينين دامعتين و تسلع البشرية بوجبة عشاء و ورقة نقدية زرقاء لشدة الفاقة وقلة الحيلة؟؟؟ أم أن الوطن هو دولة تحترم مواطنيها أينما وجدوا و كيفما كان جنسهم و سنهم و موقع تواجدهم؟؟؟ بتأمين احتياجاتهم و تيسير كل المرافق و السبل الواجب توفيرها لهم احتراما لإنسانيتهم و تقديرا لانتمائهم لوطن لم يتخل عنهم و لم يتركهم بدون حدود دنيا للحياة الكريمة؟
أسئلة صادمة….نعم صادمة لكنها ضرورية لفهم ما جرى هذا الأسبوع في مدن المغرب العميق، حيث زأأأأرت الأصوات أخيرا، بعد طول الصمت و كبث لمشاعر الغضب التي ضاقت بها حناجر شعب بسبب غصة جثمت على أنفاسه، بسبب إستشعار الإهانة بإقصائه من حق الإنتماء بالحرمان من حقوقه، غصة تسببت في إختناق الكثير من أبناء هذا الوطن(رجالا و نساءا شيبا و شبابا ذكورا و إناثا)، مما دفعهم للخروج لأول مرة بعد المسيرة الخضراء، مشيا على الأقدام بجموع كثيرة و في مسيرات كبيرة لتقول: ” كفى لقد سئمنا من هذه الحݣرة و التمييز و اللاعدالة إجتماعية، نحن بدورنا أبناء هذا الوطن، و لنا الحق في أن نعيش بكرامة، و أن تفك عنا هذه العزلة المفروضة علينا منذ سنـــيـــن خلت( إنعدام الطرقات، و قلة الموارد و إنعدام سبل التنمية المحلية( لا تكوين يستجيب لخصاص المنطقة و لا مرافق عمومية تؤمن العيش الكريم الحقيقي لأبنائها…الخ)
1) إحتجاجات هذا الأسبوع: صرخة الجسد المغربي المتعب و الصوت المخنوق بالظلم و التمييز
خلال هذا الأسبوع، أو بالأحرى خلال كل هذه الشهور الأخيرة إهتزت مناطق عديدة من البلاد على وقع مسيرات و وقفات إحتجاجية، من الجنوب المهمش إلى الشمال المنسي، و من الهامش الحضري إلى القرى الجبلية القاحلة…
ففي زاكورة و تنغير، خرج الفلاحون ينددون بندرة المياه و تهميش مشاريع السقي….
و في فكيك و جرادة، عاد الشباب إلى الشوارع مطالبين ببديل إقتصادي تنموي حقيقي، لا وعودا كاذبة.
إضافة إلى ما سبق، لا يمكننا أن نغض الطرف عن صرخة سكان بوكماز التي خلقت الإستثناء و فجرت البون الحاصل في تدبير شؤون البلاد بكل الخريطة الوطنية، فكيف كان ذلك؟
ففي قلب الأطلس الكبير، و بالضبط في منطقة “أيت بوكماز”، خرج السكان في مسيرات سلمية كبيرة، رجالا و نساءا و أطفالا، مشيا على الأقدام لما يناهز خمسين كيلوميترا تقريبا نحو عمالة بني ملال/خنيفرة إحتجاجا على التهميش المزمن و غياب أبسط شروط العيش الكريم: لا مستشفى، لا طرق معبدة، لا مدارس مجهزة، و لا فرص عمل لأبناء المنطقة…لقد تحولت قرية بوكماز، ذات الطبيعة الساحرة و المناظر الخلابة، إلى عنوان مرير للحصار التنموي: بين شتاء قارس و قاس، و صيف حار و قاحل، و الدولة غائبة و حاضرة فقط في موسم الإنتخابات أو عند الحديث عن “جمالية الطبيعة” في حملاتها السياحية التي يسوق فيها ضمنيا لفقر المقهورين و غبن المغبونين…
فسكان بوكماز لم يخرجوا فقط من أجل مطالبهم الخاصة، بل عبروا بلسان الجبل عن صرخة كل المغرب العميق المهمش: ليقولوا بصوت واحد: نريد وطنا حقيقيا، لا مجرد خرائط و حدودا و وعودا من خلال ترديد جملتهم التي تحمل أكثر من معنى و دلالة و مطلب: “المواطن هاهو أو المسؤول فينا هو”
فالوطن ليس نشيدا فقط، بل عدالة إجتماعية و مجالية، و كرامة مصانة، و ماء مؤمن و جوع مستأصل و طرقات معبدة تفك العزلة عن عالمهم المقصي و المنسي، و مدارس و ثانويات قريبة و مستشفيات تستجيب لإحتياجاتهم الضرورية…
فإحتجاجات بوكماز، كما فكيك و جرادة و زناتة و مراكش و الهراويين و غيرها… تؤكد أن هناك نزيفا صامتا داخل جسد هذا الوطن…
نزيف الهامش، و نزيف الخيبة، و نزيف طول الانتظارات المؤجلة و التي يعتريها التسويف من كل حدب و صوب، مما أجج حرقة غصتها بالإحساس بالحݣرة و الظلم…
ففي الدار البيضاء و طنجة و فاس، شاركت شرائح واسعة من المواطنين، ضمن تنسيقيات إحتجاجية ضد ارتفاع أسعار المواد الأساسية و تدهور القدرة الشرائية…
و لم تكن هذه المسيرات سوى إمتداد لغليان إجتماعي تراكم منذ سنوات، و تفجر بصوت جهير، يعبر عن شعور عميق بالحيف و الخذلان خلال تدبير الحكومة الآنية، التي قهرت الشعب بالغلاء و التسويف و المماطلة…
2) الأسباب الحقيقية وراء هذا الإحتقان
*) التدهور المعيشي و غلاء الأسعار:
إرتفعت الأسعار بشكل صاروخي، في حين أن الأجور تراوح مكانها، إن لم نقل تتآكل بفعل الضرائب و الاقتطاعات، مما جعل الطبقة المتوسطة على شفا الانقراض و الطبقة الفقيرة المسحوقة مقبورة، أو مرمية بين أحضان الانحراف و التخدير، بحثا عن نسيان وهمي لوضع مأساوي، ما فتيء يتكرس يوما بعد يوم…و يزداد تفاقما وراء كواليس جدران خريطة الوطن…
*) البطالة المستشرية في صفوف الشباب:
خصوصا في المناطق الداخلية، حيث غاب الإستثمار، و تحول الحلم بالعمل إلى كابوس الهجرة أو إلى إنتحار مفروض و غير معلن و بطيء، عن طريق تعاطي المخدرات التي تفتك بصحة أبناء الوطن الذين خذلوا ببرامج أحزاب سياسية كاذبة، باعتهم الوهم و تمكنت من تسويقه تارة بالتضخيم المفخخ و تارة بالتسويف المؤجل…
*) الفساد الإداري و شيوع المحسوبية:
لم يعد خافيا على أحد مظاهر التلاعب في الصفقات العمومية، و نهب أراضي الجموع، و إحتكار المشاريع من طرف تلك الفئة المقربة من مسؤولي البلاد أو من قنوات التمويل!!!
*) تراجع الثقة في الأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة:
المواطن المغربي اليوم لا يرى في الأحزاب السياسية اليوم سوى مجرد أدوات إنتخابية موسمية، لا تمثله و لا تدافع عن مصالحه…لأنه لا يرى أعضاءها إلا في حملاتهم الإنتخابية، مما جعله لا يرى في الإنتخابات وسيلة للتغيير، بل أدرك أنها فقط أداة لتدوير نفس الوجوه، و نفس العجز و نفس المشهد… ليجتر مأساته لوحده بين أضلعه، إلى أن ضاق به الحال و تعذر عليه مواصلة الإستمرار في ذل المعاش، فصاح “كفى كفى لقد “بلغ السيل الزبى…
*) فشل النموذج التنموي الجديد في تجسيد وعوده على أرض الواقع:
فرغم الخطب المنمقة الطويلة و الكثيرة، و المنفصلة عن واقع الحال و الإعلانات الرسمية المنفصمة عن البؤس الساطع، يظل المغرب العميق غارقا في العزلة، بدون مدارس و لا مستشفيات، و لا طرق، و لا أفق واضح للتغيير…
3)التداعيات المحتملة: هل نحن على أبواب إنفجار إجتماعي؟
إن صوت الشارع الذي بدأ يرتفع في مناطق مهمشة لا يمكن تجاهله أو قمعه، لأنه نابع من جراح حقيقية، فإن لم تتخذ الدولة الإجراءات العاجلة لفك العزلة عن هذه المناطق و عن كل الشعب الذي ضاق درعا من إنتظار لحظة تحقيق العدالة الإجتماعية المرجوة، فإن المغرب قد يشهد:
– تصاعد وتيرة الإحتجاجات لتتسع بذلك رقعتها بكل الخريطة الوطنية، فتتعطل مشاريع البلاد في ظرف وطني و دولي جد حساس.
– تآكل ما تبقى من الثقة في الدولة و مؤسساتها.
– تزايد الهجرة السرية و الإنتحارات الفردية و تعاطي المخدرات و الإذمان عليها، كنتيجة لفقدان الأمل و الوثوق في المستقبل.
– صعود تيارات شعبوية أو متطرفة تملأ فراغ الثقة، لتزلزل جنبات البلاد من حيث لا تحتسب…
4) الحل: ليس في القمع و العصا، بل في العدالة الإجتماعية و المجالية
إذا أراد المغرب أن يحفظ إستقراره و يتجنب مزيدا من الإحتقان، فعليه أن يتعامل مع هذه الإحتجاجات كنداء وطني لا كتهديد أمني، و عليه فإنني أتقدم ببعض مقترحات الحلول و إن كنت مدركة جيدا أنها ليست خفية على أحد:
🟢فتح حوار وطني حقيقي مع كل الفئات المهمشة، و ليس مع النخب فقط.
🟢إطلاق برنامج وطني عاجل لتمكين الشباب من مشاريع محلية مدعمة لا تحتاج إلى وساطات و لا إلى رشوة و لا إلى محسوبية، يشرف عليها ملك البلاد بنفسه، لكي لا يتم التلاعب بها كسابقاتها…
🟢 إصلاح حقيقي لمنظومة الإنتخابات، و ربط المسؤولية بالمحاسبة بدل الريع السياسي الذي جثم على البلاد و العباد منذ أمد بعيد، و لن يتأت ذلك دون تدخل مباشر و جريء من ملك البلاد أيضا…
🟢إعادة توزيع الثروة الوطنية بشكل عادل، و إحداث صندوق خاص لتنمية المغرب العميق، لخصوصية موقعه و قساوة ظروفه المناخية و التضاريسية…
🟢محاربة الفساد بكل أنواعه، و تفعيل تقارير المجلس الأعلى للحسابات بدل أرشفتها و الإحتفاظ بملفاتها في رفوف المكاتب…
إننا نؤمن بأن المغرب وطن للجميع، لذلك لازلنا نحلم به كوطن يســـع فعلا عموم أبناء هذا الشعب…
نعم، نحن لازلنا نحلم و نحن نيفنا على الستينات من أعمارنا بمغرب لا يقاس فيه المواطن بثمن صوته الإنتخابي، و لا يربط إنتماؤه بحجم إستهلاكه أو فقره.
نحلم بوطن يتساوى فيه إبن الهامش مع إبن المركز، و إبن الوزبر مع إبن الشعب…
نحلم بدولة لا تقصي، و لا تهمش، لا تبيع الأمل في خطب و لا بلاغات، و تكذبها بفصام في السلوك داخل الساحات و بنقاشات جوفاء و غوغاء داخل الغرفتين…
نريد مغربا يضمن كرامة الجميع، مغربا لا ينسى الذين لا يملكون إلا رقمهم الوطني شاهدا على إنتمائهم لبلد لم يمنحهم شيئا بعد…و مع ذلك لازالوا متشبتين بإسمه في قلوبهم…و يرددون بفخر و قهر: نــــحــــن مــــغــــاربـــــــة.