الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

صناعة الجوع في المغرب: من التهميش العشوائي إلى التجويع المنظَّم:

قراءة في المسارات وتفكيك الاختيارات من 1944 إلى 2025

 

 

 

 

بقلم: عبد المولى المروري

 

 

لا أدري هل سبق وأن تناول أحد الباحثين هذا الموضوع بهذه الطريقة التركيبية النقدية، والامتدادية التاريخية من قبل أم لا؟

ففي تقديري المتواضع كل ما تم تناوله سابقًا هو في الغالب على الشكل التالي:

  1. أبحاث اقتصادية وتقارير: رسمية تقوم بها مؤسسات رسمية مثل المندوبية السامية للتخطيط، أو مؤسسات دولية مثل البنك الدولي، والفاو التي تناولت موضوع الفقر والهشاشة الغذائية في المغرب، ولكن أغلبها بلغة تقنية وجافة، تركّز على الراهن دون عمق تاريخي، وتتجنب البُعد السياسي البنيوي.
  2. أدبيات سياسية أو نقدية جزئية: دبجتها بعض المقالات الصحفية والتحقيقات التي تحدثت عن غلاء المعيشة أو انتفاضات الجوع (1981، 1984)، لكنها لم تربط بين تلك اللحظات التاريخية ضمن مسار بنيوي متكامل، ولم توظف المفهوم النظري لـ**“صناعة الجوع”**، ولا قدّمت قراءة سيكولوجية لأثر الجوع على الإنسان كأداة تطويع.
  3. مقاربات مفكرين مغاربة: مثل محمد جسوس الذي تحدث عن الفقر كنتاج بنيوي للفوارق الاجتماعية والمجالية، لكن لم يُخصص دراسات للجوع بصفته أداة سلطة، وعالم الاجتماع عبد الله ساعف وغيرهم الذين تناولوا السياسات العمومية والتفاوت المجالي، ولكن دون ربط عضوي بمنظومة التجويع السياسية والنفسية.

ما يميّز هذه المحاولة هو :

  1. البعد التاريخي الطويل (1944–2025): لا أحد – حسب المتوفر – تتبّع مسار الجوع عبر هذا الزمن الطويل برؤية تحليلية.
  2. الزاوية الثلاثية (سياسية–سوسيولوجية–نفسية): أغلب الدراسات تكتفي بإحدى هذه الزوايا فقط.
  3. المفهوم المركزي الجديد: “صناعة الجوع”:
  • هذا المفهوم لا أعتقد أنه يُوظّف من قبل – في السياق المغربي – بهذا العمق، ولا في سياق تفكيك الجوع كمنظومة سياسية.
  • يُشبه في طبيعته مفاهيم مثل “هندسة الفقر”، أو “التجويع السياسي”، التي ظهرت في أدبيات جنوبية (أمارتيا سن، نعوم تشومسكي، سمير أمين) لكنها لم تُطبَّق على الحالة المغربية.

هذا مقال يعتمد في بناءه وصياغته على رؤية تاريخية وسياسية لواقع الجوع، ومفهومه، ومنهج واضح لتتبعه وتحليله، لذلك فهو نص يُفكك الجوع في المغرب لا بوصفه أزمة طارئة، بل كسياسة ممتدة، وأداة حكم، وصناعة مع سبق الإصرار.

  • تاريخ الجوع في المغرب (1944–2025): حين يُصنَع الجوع وتُختلق المجاعة

 القسم الأول: 1944–1956 – الجوع في ظل الاستعمار وانتقال السلطة

في منتصف الأربعينيات، وبينما كانت أوروبا تلملم جراحها من الحرب العالمية الثانية، كان المغرب يعيش واحدة من أقسى مراحل الجوع والمعاناة الإنسانية، خصوصًا في البوادي والمناطق الجبلية النائية والمعزولة.

الاستعمار الفرنسي الذي فرض على المغرب نموذجًا اقتصاديًا قائمًا على النهب الزراعي والإنتاج الموجه لخدمة الميتروبول، كان يعيد تصدير الحبوب والمواد الغذائية نحو فرنسا، تاركًا القرى المغربية تترنح تحت وطأة المجاعة.

1/ مجاعة 1945–1946: جوع الصمت والاستغلال

في سنوات 1945 و1946، عرفت عدة مناطق في الأطلس والريف حالات وفيات بسبب الجوع ونقص الغذاء. ورغم شح الوثائق الرسمية، إلا أن شهادات شفوية ومذكرات بعض المناضلين (مثل المهدي بن بركة لاحقًا) تشير إلى أن السلطة الاستعمارية لم تتدخل بشكل حاسم لإنقاذ السكان، معتبرة الأمر “طبيعيًا” نتيجة للجفاف، بينما كانت الأسباب الحقيقية تتمثل في تحويل فائض الإنتاج الزراعي نحو فرنسا، وحرمان الفلاحين من الحق في محصولهم.

إنها “مجاعة مصنوعة”، لا بفعل الطبيعة، بل بفعل التوزيع غير العادل للثروات، وبالقرارات السياسية التي فضّلت حياة الفرنسي على حياة المغربي.

2/  المدينة والبادية: فوارق جوع مهندسة

كان الجوع يضرب البادية بشكل أشرس، بينما تنجو المدن الكبرى جزئيًا بفضل قربها من مراكز القرار والإدارة.

ولكن حتى في المدن، لم يكن الجميع متساويًا. كان الفقراء يقفون في طوابير طويلة أمام “مخابز الدولة”، بينما كانت الطبقة المرتبطة بالإدارة الاستعمارية تحظى بالتموين المباشر.

هنا يتأسس مبكرًا التمييز المجالي والطبقي في الجوع:

  • البادية: جوع مطلق، هشاشة غذائية، دون بنية صحية أو دعم إنساني يسد الجوع.
  • المدينة الهامشية: جوع جزئي، يعتمد على السوق السوداء.
  • المدن الكبرى (فاس، الرباط، الدار البيضاء): طبقية غذائية صارخة، فقراء وجائعون في الهامش، وموائد ممتلئة في أحياء الإدارة والمستوطنين.

3/  الجوع كأداة استعمارية: إخضاع الأجساد والعقول

لم يكن الجوع مجرد نتيجة، بل وسيلة للسيطرة. فالجائع لا يفكر في المقاومة، بل فقط في رغيف الخبز. وقد استعملت الإدارة الاستعمارية “القفة” و”الإعانات الغذائية” كوسيلة لاختراق المجتمع وضرب العمل المقاوم، خصوصًا في الأرياف.

ففي كثير من الأحيان، كانت المواد الغذائية تُقدَّم مقابل الحصول على معلومات، أو مقابل ضمان الولاء للسلطات.

إنها أولى ملامح “صناعة الجوع” كأداة سياسية، حيث لا يكون الجوع نتيجة فشل في الإنتاج فحسب، بل سلاحًا لإخضاع النفوس.

القسم الثاني: 1956–1975 – الجوع في ظل الدولة الوطنية والتقشف الصامت

حين نال المغرب استقلاله سنة 1956، انتعشت آمال الفقراء بأن زمن القهر والجوع قد ولّى مع رحيل المستعمر. غير أن واقع الحال سرعان ما خيّب هذه الآمال، إذ لم تُغيّر الدولة الوطنية الناشئة من البنية العميقة التي أنتجت الجوع، بل ورثت نموذجًا زراعيًا هشًّا وتوزيعًا غير عادل للثروة، وواصلت المسار نفسه المتمركز حول الحواضر الكبرى وتهميش البوادي.

1/  مجاعة 1960–1961 في سوس والمناطق الجبلية

خلال بداية ستينيات القرن الماضي، عرفت منطقة سوس ومناطق من الجنوب الشرقي وضعًا غذائيًا كارثيًا، حيث ضرب الجفاف الأرض، لكن الأكثر خطورة كان غياب تدخل الدولة وضعف بنيات الإنقاذ الاجتماعي.

فخلال تلك الفترة مات أطفال ونساء وشيوخ بصمت، دون أن تُعلن الدولة عن حالة طوارئ أو تعبئة وطنية، في حين كانت تُبرر ذلك بـ”عوامل طبيعية”، ولكن الحقيقة كانت أعمق وتتلخص في:

  • تجاهل للمناطق غير النافعة سياسيًا،
  • فقر في سياسات التخزين والدعم الغذائي،
  • وغياب تام لآليات الإنذار المبكر أو شبكات الأمان الاجتماعي.

إنه جوع ناتج عن غياب الإرادة، وليس بسبب انحباس الغيث.

2/ المدينة في ازدهار.. والبادية في انكسار

عرفت المدن الكبرى خلال هذه المرحلة توسعًا عمرانيًا وبروز طبقة متوسطة صاعدة، خصوصًا في الدار البيضاء والرباط وفاس، لكن هذا النمو لم يُوزَّع بعدالة، بل عزّز الفوارق المجالية بين مغربين إلى:

  • مغرب ينعم بالتخطيط والتموين وهو المغرب النافع،
  • ومغرب يعيش في الهامش، يُقايض البقاء بالصمت، وهو المغرب غير النافع.

خلال تلك الفترة كانت البادية خزّانًا انتخابيًا وسكانيًا، ويدًا عاملة رخيصة، لكنها لم تكن أبدًا ذات الأولوية أو موضوعًا للسياسات العمومية، بل إن المدن نفسها كانت تعيش ازدواجية داخلية:

  • الأحياء الإدارية والفرنسية سابقًا تحظى بالتموين المنظَّم،
  • بينما المدن القديمة وأحياء الصفيح تُترك لمصير السوق السوداء أو القفة الموسمية.

3/  الجوع كتربية سياسية: الصمت مقابل الخبز

في هذه المرحلة، بدأ الجوع يتحول إلى ثقافة صامتة، و تعلّم الناس أن الاحتجاج على الفقر خطر، وأن البقاء في الظل أكثر أمنًا.

فمع صعود الحسن الثاني وتثبيت السلطة المخزنية، ارتبط الجوع بـ”الرضا”، وربط الفقراء بين السكوت والسلامة، والصوت والجوع أو القمع.، فأصبح الجوع وسيلة لتربية سياسية، يُلقّن من خلالها المواطن معنى “الواقعية”، و”عدم الخروج عن الطاعة”.

4/ الجفاف: السبب المريح للدولة

كلما ضرب الجوع منطقة ما، كانت الدولة تُعيد نفس الأسطوانة: “عام الجفاف”، “شح التساقطات”، “ظروف بيئية قاهرة”. لكنها لم تسأل:

  • لماذا لا يتم تخزين الحبوب؟
  • لماذا لا تُحمى القدرة الشرائية؟
  • لماذا لم تُبنَ شبكات توزيع عادلة؟
  • ولماذا لا يتأثر أصحاب النفوذ والسلطة ومراكزها، أو النخبة السياسية بالجفاف؟

وهكذا استمر تبرير الجوع بالطبيعة، في حين كان يُصنع سياسيًا من خلال:

  • الإقصاء المجالي،
  • غياب العدالة الاجتماعية،
  • والتحكم في الغذاء كوسيلة للتحكم في البشر.

 القسم الثالث: 1975–1985 – الجوع في زمن التقويم الهيكلي وانتفاضة الخبز

في هذه المرحلة، دخل المغرب مرحلة إعادة هيكلة اقتصادية قاسية، بضغط مباشر من المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وقد كان ذلك بمثابة التحول الأخطر في علاقة الدولة مع المواطن الجائع:

لم يعد الجوع مجرد نتيجة لتقلبات بيئية أو قصور في التخطيط، بل تحول إلى سياسة اقتصادية عمومية تُفرض من فوق، ويتم تنزيلها على حساب القوت اليومي للفقراء.

1/  سياسة التقويم الهيكلي: “جُوِّع تُطَع”

في بداية الثمانينيات، أُجبِرت الدولة المغربية على توقيع اتفاقيات التقويم الهيكلي مقابل الحصول على قروض، مما فرض:

  • تقليص دعم المواد الأساسية (الخبز، السكر، الزيت)،
  • خفض الإنفاق على الخدمات الاجتماعية (الصحة، التعليم)،
  • تحرير الأسعار،
  • وتسريح آلاف العمال.

لم يكن هذا فقط قرارًا تقنيًا اقتصاديًا، بل قرارًا سياسيًا بامتياز، اتخذته الدولة عن وعي وإدراك بمآلاته وانعكاساته الاجتماعية والإنسانية، وفضّلت من خلاله حماية التوازنات الماكرو-اقتصادية على حساب الكرامة الغذائية للمواطن.

وقد نبه كثير من المفكرين العرب، مثل سمير أمين وجلال أمين، إلى أن برامج التقويم الهيكلي (بصفة عامة) لا تُصلح الاقتصادات، بل تُفسد المجتمعات، وتؤدي إلى مزيد من الفقر، والتهميش، والتبعية.

2/  انتفاضة الخبز 1984: حين ينفجر الجوع

بلغت الأزمة ذروتها في يناير 1984، عندما قررت الحكومة رفع أسعار المواد الأساسية فجأة، وعلى إثر ذلك خرج آلاف التلاميذ والمواطنين في مدن مثل تطوان، القصر الكبير، الحسيمة، ومراكش، للتظاهر ضد الجوع، ومطالبين بالعيش الكريم. لكن الردّ كان دمويًا:

  • القمع كان دمويا وعنيفا،
  • الاختطاف والاعتقالات كانت واسعة وعشوائية،
  • سقوط شهداء ودفنهم في مقابر مجهولة،
  • وتعتيم إعلامي رسمي.

وقد وصف الحسن الثاني حينها المتظاهرين بـ”الأوباش”، في خطاب شهير، يعكس نظرة الدولة إلى الفئات الجائعة: لا بوصفهم ضحايا، بل خطرًا يجب سحقه.

3/  المدينة المهمّشة في الواجهة

بعكس ما قد يُتوقع، لم تنطلق الشرارة من القرى أو المناطق الريفية، بل من مدن هامشية مهمَّشة، تمثل الحلقة الوسطى بين البادية والعاصمة، وهذا يُظهر أن المدن المتوسطة كانت الأكثر شعورًا بالظلم، فهي ليست محمية مثل الرباط أو البيضاء، ولا منسية كليًا مثل البوادي الجبلية، بل هي المفعول بها دائمًا دون غطاء أو امتياز.

4/ الجوع يصبح أيديولوجيا اقتصادية

في هذه المرحلة، تخلّت الدولة عن دورها الاجتماعي تدريجيًا، وبدأت تُروّج لفكرة أن الدعم عبء، وأن السوق أعدل من الإدارة، وأن “كل فرد مسؤول عن خبزه”.

هكذا، تم تفكيك مبدأ التضامن الوطني، وتحويل الجوع إلى نتيجة فردية، لا بنيوية.

أصبح الفقير متهَما بالتكاسل، بدل أن تكون الدولة متهمة بسوء التخطيط.

وأهم ما يمكن أن نسجله كملاحظات خلال هذه المرحلة ومن خلال اختيارات الدولة الاقتصادية والسياسية:

  • أن الجوع الذي كان واقعا اجتماعيا أصبح سياسة رسمية.
  • وأن الانتفاضة أصبحت سلاح الجائع الأخير، في مواجهة سلطة اختارت أن تُسكت صوته بأسلوب القمع وقوة السلاح بدل أن تسدّ رمقه.
  • وظهرت بوضوح تام الفوارق بين جوع البادية الذي كان صامتا ومزمنا، وجوع المدينة الهامشية الذي كان يأخذ بين الفينة والأخرى شكل الاحتجاج أو الانفجار.

القسم الرابع: 2008–2023 – الجوع في زمن الأزمات المركبة

في عام 2008، اهتزّ العالم على وقع أزمة غذاء عالمية، ارتفعت فيها أسعار القمح والسكر والزيت بشكل غير مسبوق، نتيجة تقلبات السوق العالمية والمضاربات المالية، وتحوّل الغذاء إلى سلعة خاضعة لقوانين العرض والطلب، بدل أن يُعتبر حقًا إنسانيًا، وأحسن عنوان لهذه المرحلة هو: من الأمن الغذائي إلى هشاشة غذائية معمّمة.

1/ المغرب بين الخطاب الأمن الغذائي وواقع الهشاشة

رغم أن الخطاب الرسمي في المغرب يتحدث منذ سنوات عن “الأمن الغذائي”، إلا أن المعطيات الميدانية تُظهر أن الوضع أقرب إلى الهشاشة الغذائية المزمنة، لعدة أسباب:

  1. الاعتماد المفرط على الاستيراد (أزيد من 60% من الحبوب مستوردة من الخارج).
  2. تفكك الفلاحة القروية لصالح الفلاحة التصديرية في مفارقة غريبة حيث تصدر المنتجات الفلاحية إلى أوروبا وإفريقيا، في حين يعاني المغاربة من ارتفاع أسعارها داخليًا.
  3. تركّز الأسواق في يد لوبيات احتكارية (زيت المائدة نموذجًا).
  4. ضعف آليات التخزين وغياب التوزيع العادل.

2/ الجائحة: عندما خرج الجوع من الظل

مع تفشي جائحة كوفيد-19 (2020–2021)، تَعرّت البنية الاجتماعية والاقتصادية حيث :

  • فقد ملايين المغاربة مورد رزقهم اليومي،
  • وعرف الاقتصاد غير المهيكل انهيار جزئيًا،
  • وظهر جوع جديد: جوع المدن الفقيرة والمهمّشة، الذي لا يجد حتى “خبزًا نهاريًا” ولا دعما مؤسسيًا.

وأكبر فضيحة عرتها جائحة الكوفيد 19 أن المغرب يوجد به أكثر من عشرين مليون فقير، أي أكثر من نصف الشعب المغربي فقراء…

وللأسف الشديد، أصبحت “القفة” أداة تدخل الدولة المركزية، عبر القوات المساعدة والسلطات، لإسكات الفقر، لا لمحاربته، القفة صارت رمزًا لـ”الرشوة الغذائية”، تمنح للمحتاج مقابل الصمت والانضباط والولاء.

3/  الجفاف… من واقع مناخي إلى شماعة سياسية

خلال هذه السنوات، تكررت موجات الجفاف، لكن في الوقت نفسه:

  • لم يتم بناء نظام وطني للتخزين الغذائي،
  • ولا توجيه دعم مستدام للفلاح الصغير،
  • ولا تفعيل سياسات تنويع مصادر الغذاء.

وبالمجمل، لا في السابق ولا في اللاحق، لم تقم الدولة بوضع سياسة فلاحية تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المناخية للمغرب، ولم تتخذ أي تدابير استثنائية أو برامج استراتيجية لمواجهة ظاهرة الجفاف الذي تجتاحه في مناسبات متعددة، بل إن سياستها الفلاحية كانت في اتجاه استنزاف الفرشة المائية لاعتمادها زراعة تسويقية موجهة إلى الخارج دون أن تستجيب لحاجيات الوطن..الذي تُرك وحده يواجه الأسعار والنقص، فاستُعمل الجفاف مجددًا كذريعة جاهزة لتبرير كل فشل في ضبط السوق، أو التغطية على مخططاتها الفلاحية غير الوطنية، أو إهمال دعم الفئات الهشة.

4/  سيكولوجيا الجوع الجديد: القهر الداخلي والخوف من الفقد

يختلف جوع هذه المرحلة عن الجوع الكلاسيكي، لأنه جوع مقنع يختفي تحت الدعاية الإعلامية التي تتستر على الجرائم الفلاحية التي اقترفتها الدولة في حق الماء والتربة والشعب:

  • إنه جوع في مجتمع يستهلك صور الطعام على الشاشات التي يهيمن عليها الإعلام الرسمي، لكنه يعجز عن شرائه في الأسواق.
  • جوع في ظل اللايقين: حيث أضحى الخوف من الغد هاجس كل مغربي، والخوف من البطالة التي أضحت كابوسا يؤرق حياة الشباب والأسر الفقيرة، والهلع من المرض الذي أصبح زائرا مرعبا في ظل صعوبة الولوج إلى المستشفيات، والغضب من الزيادات القادمة التي تتقنها الدولة دون غيرها من القرارات والإجراءات .
  • جوع يصنع القابلية للخضوع من جديد تحت تأثير الباراديم الذي يوجه معتقدات الناس البسطاء، ويُربّي مواطنًا لا يطالب بالحق، بل فقط بالنجاة تحت تأثير غموض المستقبل واضطراب الحاضر.

5/  الجوع المعمّم… والمدينة الهامشية في عين العاصفة

المدن الصغرى والمتوسطة (خنيفرة، أزيلال، سيدي إيفني، فكيك، تاونات…) عاشت جوعًا مزدوجًا، يوضح بجلاء كيف أن الجوع صناعة وقرار دولة، وليس بسبب الأزمات الاقتصادية والظروف المناخية:

  • هو جوع اقتصادي/اجتماعي بسبب غياب العدالة المجالية، والتهميش الممنهج، مما ساهم في تفشي بطالة ممزوجة بغضب اجتماعي، وارتفاع الأسعار بشكل لا يتناسب مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي لهذه المناطق،
  • هو وجوع رمزي/مؤسساتي بسبب فرض العزلة المجالية، وانعدام الاهتمام الإعلامي والسياسي بها الذي أخذ بعض مظاهر الانتقام، خاصة مع توفر هذه المناطق على إمكانيات طبيعية هائلة من شأنها أن ترفع عنهم هذا التهميش مثل مدينة سيدي إيفني ومنطقة الريف وخنيفرة .

في هذه المدن، انفجرت احتجاجات شعبية متفرقة، كان أشهرها مع وقع في مدينة سيدي إيفني سنة 2008 و الحسيمة سنة 2017، واحتجاجات أخرى أغلبها لم يُوثق، لكن وُوجه غالبها بتهم جاهزة: “زعزعة الاستقرار”، “تحريض على العصيان”، في حين أن الخلفية كانت واضحة: الجوع والكرامة.

 الجوع خلال هذه المرحلة أخذ منعطفا آخر بعد ظهور طبقة أوليغارشية التي أعلنت عن نفسها صراحة بعد إلغاء صندوق المقاصة وتحرير سوق المحروقات في عهد حكومة عبد الإله ابن كيران (*).. حيث أصبح الجوع المغربي اليوم جوعا طبقي، مجاليا، ومُسيّسا.  وينتقل من البادية إلى المدينة، ومن الجسد إلى النفس. وتبرز بشكل صارخ الفجوة بين الخطاب السياسي حول الأمن الغذائي، والواقع المعيشي للمواطن الفقير.

القسم الخامس: 2021–2025 – زمن الجوع المكشوف والانفجار الاجتماعي الصامت

لقد دخل المغرب هذه المرحلة في ظل ارتفاع غير مسبوق للأسعار، مسَّ كل شيء: الخبز، الزيت، الخضر، اللحوم، النقل، وحتى الماء والكهرباء. ومع ذلك، لم تُرفَع الأجور بشكل يوازي هذه الزيادات، بل بقيت مجمدة تقريبًا، خصوصًا في صفوف الفئات الضعيفة والمتوسطة.

1/ التضخم وانهيار القدرة الشرائية

حيث وفقًا لتقارير رسمية، بلغ التضخم نسبًا تجاوزت 8% في بعض الأشهر، لكن الأرقام الواقعية التي يحسّ بها المواطن تفوق ذلك بكثير، وهذا بسبب الاختيارات الكارثية للدولة على المستوى الاقتصادي والسياسة الفلاحية التي أصبحت جريمة فلاحية مع ظهور المخطط الأخضر الذي أجمع كل المتخصصين عن فشله الاقتصادي ومصائبه الاجتماعية والإنسانية.. 

لذلك فالفئات المتضررة لم تعد فقط في القرى والمداشر، بل اكتسحت الأزمة الأحياء الشعبية وداخل المدن نفسها، حتى تلك التي كانت تُعتبر “آمنة غذائيًا”. أما الطبقة المتوسطة فبدأت تنهار تدريجيًا، وصار الجوع يُهدّد الموظف والعاطل على حد سواء.

2/  الجوع المنظَّم: الاحتكار واللامبالاة

 بينما يتحدث المسؤولون عن “أسباب خارجية” (أوكرانيا، الجفاف، السوق العالمي…)، ويلقون بالائمة عليها، تُظهر المعطيات أن الاحتكار والفساد البنيوي في منظومة توزيع الغذاء هما السببان الأبرزان، أو بالأحرى السببان الأساسيان.. فاللوبيات الكبرى في مجال الحبوب والزيوت والدواجن واللحوم الحمراء والسمك حققت أرباحًا قياسية، في حين تمّ سحق المستهلكين بلا رحمة، في غياب أي تدخل للحكومة في عملية ضبط السوق ومحاربة الاحتكار ومراقبة الأسعار، ولا بمحاربة الغلاء، بل اكتفت بالتبرير والتقنين، بل والأدهى من ذلك أن ساهمت أحيانًا في تبرير الغلاء إعلاميًا.

3/  صعود الأصوات الجائعة… وسقوط الأمل في الوسائط

تصاعدت خلال هذه الفترة احتجاجات شبابية ومجتمعية واسعة على مواقع التواصل، مثل حملة “أخنوش إرحل”، و”#لا_لغلاء_المعيشة”، لكنها لم تجد صدى في الإعلام الرسمي، ولا في مؤسسات الوساطة كالأحزاب أو النقابات، بل إن بعض الزعماء السياسيين المحسوبين على المعارضة كانوا ضد هذا النوع من الاحتجاجات والشعارات.. والجديد في الاحتجاج أنه أصبح افتراضيًا، يصرخ فيه الجائع خلف شاشة، دون أفق سياسي حقيقي للتغيير بسبب غياب أحزاب سياسية حقيقية وقوية..

4/  الجوع كعار معلن

لم يعد الجوع يُخجل الناس كما في الماضي، بل صار يصرخ في العلن، فبغض ربات البيوت تنشرن مقاطع عبر وسائل التواصل الاجتماعي يُعلنّ فيه أنهن لا يجدن ما يطعمْن أبناءهن، وشباب مهاجرون يقولون: “نغرق خير من أن نجوع”، وأطفال في المدارس يفطرون بالماء والخبز إن وُجد، بل إن المئات منهم كان ضحية تشجيع الدولة من أجل الذهاب إلى سبتة المحتلة سباحة وهربا من الجوع والفقر في أكبر فضيحة رسمية كان موضوع سخرية الإعلام الإسباني.

أمام هذا الوضع المظلم بدأت صورة المغرب “المستقر” تتشقق تحت هذا الجوع المكشوف، وأصبحت الكرامة الغذائية مطلبًا سياسيًا حقيقيًا بعد أن كانت حاجة اجتماعية، وإن لم يُنظَّم ذلك بعد في إطار مشروع سياسي شعبي.

 هذه المرحلة تكشف بوضوح أن الجوع لم يعد طارئًا، بل أصبح بنية دائمة ومُنتجاً سياسيًا. وأصبحنا أمام “طبيعة ثانية للجوع”، لا ترتبط بالمناخ، بل بالنظام الاقتصادي والسياسي نفسه، حيث الجوع هنا ليس غيابًا للغذاء، بل تغييبًا لحق الوصول إليه، وهو ما يجعل الجوع عملاً ممنهجًا أكثر من كونه مصيبة عشوائية أو ظرفا طبيعيا.

لنكن واضحين، الجوع في المغرب ليس ظاهرة عارضة، ولا هو أثر جانبي للجفاف أو الأزمات الخارجية كما يُروّج الخطاب الرسمي، بل هو ـ كما بيّنت شواهد التاريخ ـ نتيجة حتمية لبنية إنتاجية وسياسية متكاملة تصنع الجوع وتصادر الغذاء، عبر ثلاث أدوات رئيسية:

أ- الإقصاء المجالي: من البوادي المنسية إلى المدن المهملة

فمنذ الاستعمار إلى اليوم، تم تهميش ملايين المغاربة في الجبال، والقرى، والحواضر الصغرى، دون أي تخطيط لتأهيلهم الغذائي أو الاجتماعي، وقد عرى زلزال الحوز هذه الحقيقة بما لا يدع مجالا للشك أو التأويل.. كما أُقصيت هذه المناطق من شبكات التموين والدعم، وتُركت فريسة للجفاف والمضاربات، ليُفرض عليها نمط عيش قهري، يجعل الجوع جزءًا من ثقافتها اليومية، لا حالة استثنائية.

هذا التوزيع الجغرافي غير العادل للغذاء هو أول أركان “صناعة الجوع”، بمعنى أن الجوع يتحوّل إلى تجويع داخل منظومة حكم جعلت من الظلم المجالي والاحتكار الاقتصادي، وتحرير السوق دون حماية للشعب سياستها الرسمية.. 

قد يبدو هذا الكلام مبالغا فيه ومجانيا للحقيقة والصواب.. 

ب-  التحكم في السوق: من الفلاح الفقير إلى اللوبي الغني

المنتِجون الحقيقيون هم الفلاحون الصغار، ولكن الغريب لا يتحكمون في أسعار منتوجاتهم، بل تُفرض عليهم أثمنة الشراء من طرف وسطاء وسماسرة كبار مرتبطين بلوبيات توزيع كبرى. وفي المقابل، يتم دعم الزراعات التصديرية (كالورد والحوامض والطماطم) أكثر من الزراعات الغذائية الأساسية، علما أن هذه الزراعات تستنزف التربة والفرشة المائية.

وهكذا تُصبح السيادة الغذائية مرتهَنة بمن يتحكم في السوق، لا بمن يحرث الأرض، وتتحوّل الدولة من حامية لغذاء شعبها، إلى حليفة للرأسمال الغذائي الريعي.

ج-  التحكم في المعنى: من تبرير الجوع إلى تطبيعه

الخطاب الرسمي والإعلامي يُعيد إنتاج الجوع كـ”قدر طبيعي”، “ابتلاء”، أو نتيجة “ظروف خارجية”. وفي الوقت نفسه، يتم تحييد الخطاب السياسي النقدي، أو التشكيك فيه، أو التشهير بأصحابه، وتجريد المجتمع من أدوات التحليل والمحاسبة.

كما يُحوِّل الجوع إلى مشكلة فردية أو ثقافية (ضعف التخطيط الأسري، كثرة الإنجاب…)، في حين أن بنيته الحقيقية هي سياسية واقتصادية ممنهجة. وهكذا، يتحوّل الجوع من فاجعة إلى وسيلة حكم ناعمة باستعمال سياسة: «من يُطعِم يُطاع، ومن يجُع يُروَّض».

 خلاصة مفاهيمية:

“صناعة الجوع” ليست فقط امتناعًا عن الإطعام،

بل هي هندسة كاملة للتجويع المنظّم، عبر:

  • تهميش الفئات الاجتماعية والمجالية،
  • تركيع الإنتاج القادم من الفلاح الصغير، ودعم الإنتاج التسويقي وتهريبه إلى الخارج،
  • وشرعنة الفقر وإعطاءه بعدا دينيا، «قضاء وقدر».

وهكذا، فالجوع في المغرب لا يُفهَم إلا إذا قُرئ بوصفه أداة ضبط اجتماعي وتطويع سياسي، لا مجرد أثر عرضي للاقتصاد أو الطبيعة.

إنه وجه من وجوه الاستبداد غير المباشر، الذي لا يحتاج إلى العسكر أو السجون، بل يكتفي بـ”رغيف مقطوع”، و”مائدة فارغة”، و”صوت ممنوع”.

________________________________________

 

(*) ملاحظة: موضوع إلغاء صندوق المقاصة سأخصص له مقالا مستقلا تحت عنوان : إلغاء صندوق المقاصة وصناعة الجوع المعاصر

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!