الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

البرمجة الإمبريالية للاقتصاد: كيف سُلِبت إرادة الشعوب وحُوِّل المواطن إلى آلة استهلاك بامتياز؟

(الحلقة الأولى من سلسلة شذرات فكرية)

 

 

بقلم: نجاة زين الدين

 

 

في عالم تقوده المصالح الإمبريالية بلا هوادة، أصبحت اقتصادات الدول المستضعفة مجرد بيادق تُحرّك على رقعة الشطرنج العالمي بإملاءات فوقية، تُقدَّم تحت مسمى “الإصلاح”، بينما حقيقتها لا تعدو أن تكون إلا مسلسلًا متواصلًا من الخضوع المالي، والتبعية الإنتاجية، والاستيلاب الثقافي.

لسنا اليوم أمام أزمة اقتصادية فقط، بل أمام أزمة وجودية يعيشها المواطن العربي عامة، والمغربي على وجه الخصوص، حيث تم تحويله إلى طاقة استهلاكية معطَّلة الوعي، مقيَّدة بالإشهار، مصفَّدة التفكير، ومسلوبة الإرادة…

 

1- التوجيه الاستهلاكي عبر الإعلام والإشهار:

 

حين نُمعن النظر، نجد أن المواطن المغربي بات أسيرًا لبروباغندا الحملات الإشهارية المحكمة، التي ترسم له نمط عيش زائف، وتبيعه وهمًا ملغومًا، قائمًا على التباهي والتفاخر والمظاهر البراقة والخادعة، لا على الكفاية أو الاكتفاء بالأساسي والضروري، بحيث أصبح الإنسان يقيس ذاته بما يستهلك، لا بما يُنتج أو يُفكّر أو يُبدع. ولم يكن ذلك وليد الصدفة، بل نتيجة هندسة اجتماعية-اقتصادية ممنهجة تقودها الرأسمالية المتوحشة بشراكة مع الإعلام المأجور، بمخططات جيوسياسية دقيقة ومدروسة، موظِّفة تقنيات استعمارية محبوكة بسيناريوهات سالبة ومريبة.

والأسوأ في كل هذا، أن المواطن يُدفَع اليوم بكل سذاجة إلى التداين من أجل التباهي، إلى حد أن البنوك أصبحت تسوّق للقروض الاستهلاكية على أنها “فرص للحياة”، بينما هي أبواب للاستعباد المالي المُدرج، والضغط النفسي والاجتماعي المُؤسَّس، الذي يجد المواطن المغربي نفسه تحت مقصلته دون تفكير، والأدهى من هذا تجده يبتسم وهو يوقّع عقود القروض التي لم يطلع عليها أصلًا…

 

2- أين المدرسة العمومية من كل هذا؟

 

إن تفكيك التعليم العمومي بهذه الصورة التدريجية، واحدة من أخطر نتائج هذه البرمجة الاقتصادية، حيث تم، بوعي وبتواطؤ جبان، تهميش المدرسة العمومية لصالح القطاع الخاص، ليس فقط عبر تقليص ميزانيتها، بل أيضًا عبر إسقاط صورتها في الوعي الجمعي، حتى بات كثير من الآباء يخجلون من تسجيل أبنائهم بها، ظنًّا منهم أن “الكرامة” ترتبط بالتعليم الخصوصي فقط، بينما الحقيقة أن هذا الأخير ليس أكثر من حلقة جديدة في مسلسل الاستهلاك والتفاوت الطبقي، الذي تديره مؤسسات التمويل الدولية، التي تتلاعب بخيوط سياساتنا العمومية ومصير أوطاننا بسبب توصياتها وإملاءاتها القاهرة، والتي ما كنا لنُورَّط فيها، لولا تدبير حكوماتنا الفاسدة والفاشلة، فكيف ذلك يا ترى؟؟؟

 

3- مديونية تفوق الناتج الداخلي… والمياه تُصدَّر!!

 

لقد تجاوزت المديونية الوطنية كل الخطوط الحمراء، حتى صارت تفوق الدخل الوطني الخام، مما أدى إلى خلل رهيب في ميزاننا التجاري: الواردات في ارتفاع مهول، والصادرات في حدودها الدنيا، وأغلبها – للأسف – يختزل في تصديرنا لمياه وطننا في شكل منتوجات فلاحية موجهة إلى الخارج: أفوكا، فريز، باباي، بطيخ…

فهذه الزراعة التصديرية لا تروي أفواه المغاربة، بل تزيد من عطشهم وجوعهم، لأنها تستنزف فرشتنا المائية وتقوّي مخالب الجفاف بيننا، بينما تترك الأراضي البور دون استغلال حقيقي، استغلال مفَعَّل يسعى إلى تأمين الغذاء الرئيسي للمغاربة، والمشكَّل من حبوب وخضر وقطاني ومراعٍ. فأي منطق يجعلنا نستورد الحبوب والقطاني واللحم ونحن نمتلك أراضي خصبة ومناخًا متنوعًا؟؟؟ إنه منطق التبعية لا غير!!!

نعم، إنه منطق إملاءات الاستعمار الاقتصادي الجديد…

 

4- أي مغرب نريد؟

 

ألم يحن الوقت لنطرح السؤال المركزي: من المستفيد من هذا النموذج الاقتصادي التابع الفاشل؟ ومن الخاسر؟

المستفيد هنا معروف: فئة محدودة من النخب المالية المترابطة مع السوق العالمي، والمتحكمة في دواليب القرار وفي رقاب الجماهير الشعبية المقهورة والمُغيَّبة تحت تأثير بهرجة الإعلام الكاذب وكل أنواع المخدرات القاتلة والسامة…

أما الخاسر، فهو المواطن الذي صار يُستعبد مرتين: تارة بسبب العمل المرهق، وتارة أخرى بسبب القروض وحجم المديونية التي تحاصره حتى داخل منزله، لتورِّطه في مقصلة دوامة غير منتهية…

الاقتصاد ليس مجرد أرقام؛ إنه فلسفة حياة، وما لم نُغيِّر فلسفة النمو الاقتصادي من التبعية إلى السيادة الإنتاجية، ومن التفاخر إلى الاكتفاء بالأساسي، ومن الاستيراد إلى الاعتماد على الإنتاج الذاتي، فلن تكون هناك سيادة وطن ولا كرامة مواطن…

 

5- رسالة أخيرة للمسؤولين والغيورين:

 

إلى كل مسؤول ما يزال يحمل ذرة من الغيرة على هذا الوطن، ولكل مواطن لم يبتلع طُعم الإشهار ولم ينسق وراء التيار بعد، نقول:

إننا لسنا مجبرين على البقاء في هذا النموذج المهين، لأنه بإمكاننا الآن أن نُعيد الاعتبار لتعليمنا العمومي، وأن نُخطط لفلاحة وطنية تخدم بطوننا أولًا لا بطون الآخرين، وتؤمِّن لنا سيادتنا الغذائية، دونما حاجة لأي استيراد، كما يمكننا تشجيع صناعتنا الوطنية، برفع طاقتنا الإنتاجية، وإعطاء الأولوية لمنتوجاتنا الوطنية، بعيدًا عن السلب الماجن والساحق لكرامة الجماهير الشعبية، بما يُسمى بالتبعية العمياء للماركات التجارية العالمية، فالسيادة الاقتصادية ليست حلمًا، بل اختيارًا سياسيًّا جريئًا وشجاعًا.

وإذا كان المقرر الاقتصادي اليوم يُكتب من مكاتب واشنطن وموسكو وبكين وستراسبورغ، فليكن صوت المواطن المغربي الآن وليس غدًا كافيًا لإعادة كتابته من قلب مصلحة الوطن، من أراضيه الفلاحية، من مقاولاته الصغرى والمتوسطة، ومن عرق فلاحيه وكل حرفييه…

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!