الماركسية اليوم: من المنهج النقدي إلى الفعل الممكن
رشيد شخمان/ المغرب
منذ أن صاغ ماركس رؤيته للعالم في القرن التاسع عشر، عبر عن نفسه ليس كمفكر يحمل عقيدة ثابتة، بل كناقد يطرح الأسئلة الأساسية حول بنية المجتمع الرأسمالي وأوجه الاستغلال الكامنة فيه. اليوم، بعد أكثر من قرن ونصف، يظل السؤال نفسه مطروحًا، لكن في سياقات مختلفة تمامًا. فما معنى أن تكون ماركسيًا في العصر الرقمي والمعولم؟ وهل يمكننا أن نعيد تعريف الالتزام الماركسي في مواجهة التحديات الجديدة التي يطرحها العالم اليوم؟
المحور الأول: الماركسية كتقليد نقدي لا كدوغما
من الأخطاء الكبرى التي ارتُكبت في حق الماركسية أن يُنظر إليها كمذهب مكتمل، مغلق، قابل للتطبيق المباشر، بدل أن تُفهم بوصفها طريقة في النظر والنقد والفهم. لقد حوّلها بعض أتباعها إلى أيديولوجيا عقائدية، متجمدة، قائمة على ترديد النصوص، وتقديس الأسماء، وتراتبية الولاء الحزبي، فأفرغوها من جوهرها النقدي الذي كان أساسًا في مشروع ماركس نفسه.
ماركس لم يكن “ماركسيًا” بالمعنى الذي صاغه كثير من تلامذته. كان ناقدًا جذريًا للواقع، ومنهجيًا في تفكيك بنياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لم يقترح “نظامًا بديلًا جاهزًا”، بقدر ما سعى إلى كشف منطق الهيمنة والاستغلال الكامن خلف ما يبدو طبيعيًا أو أخلاقيًا أو عقلانيًا في المجتمع الرأسمالي. لقد رفض الانخراط في التنظير الطوباوي المجرد، وكان حذرًا من كل نسق فكري يدّعي امتلاك الحقيقة الكاملة.
ما ينبغي استعادته اليوم من ماركس ليس فقط تحليله للاقتصاد السياسي، بل نظرته إلى الماركسية نفسها كمنهج مفتوح، قابل للتطوير والنقد، وليس كعقيدة جامدة. لهذا السبب، فإن بعض من جاؤوا بعده — من أمثال أنطونيو غرامشي، ووالتر بنيامين، وبيير بورديو لاحقًا — سعوا إلى تجاوز الحدود الضيقة للمادية التاريخية التقليدية، دون الخروج عن روح المشروع النقدي الماركسي.
وإذا كانت الأيديولوجيا، كما فهمها ماركس، هي تلك البنية التي تخفي علاقات الهيمنة وتُلبسها لبوس “الطبيعة” و”الضرورة”، فإن الماركسية التي تتحول إلى أيديولوجيا بدورها، تفقد قدرتها على التفكيك، وتكرّس نفس ما جاءت أصلاً لنقضه.
من هنا، فإن التحدي اليوم ليس في “الولاء” للماركسية، بل في الحفاظ على وظيفتها النقدية. أن نكون ماركسيين لا يعني أن نُردد ما قاله ماركس، بل أن نتمثل طريقته في التفكير، وننقل حساسيته تجاه الظلم والاستغلال إلى قضايا عصرنا: التكنولوجيا، الهوية، البيئة، السلطة الرمزية، وأشكال الهيمنة الجديدة.
المحور الثاني: إشكالية المفاهيم الموروثة
حين نتحدث عن الماركسية اليوم، فإن أول ما يصطدم به القارئ المعاصر هو اللغة الموروثة لهذا التقليد الفكري: “البروليتاريا”، “البرجوازية”، “وسائل الإنتاج”، “فائض القيمة”، “الطبقة العاملة”، “دكتاتورية البروليتاريا”، و”الحزب الطليعي”… مفاهيم نشأت في سياق اقتصادي واجتماعي محدد، ضمن مرحلة من الرأسمالية الصناعية حيث كانت خطوط الصراع الطبقي واضحة نسبياً، وحيث كانت بنية الإنتاج تتركز حول المصنع، والعامل المأجور، والرأسمالي المالك.
لكن في زمن الاقتصاد المعولم، والرقمي، والرمزي، تغيّرت ملامح التشكيلة الاجتماعية تغيّراً عميقاً:
العامل اليوم قد يكون سائق توصيل مستقلًا يعمل عبر تطبيق، أو موظفًا مؤقتًا في اقتصاد المنصات، أو حتى “منتِج محتوى” يعيش على خوارزميات لا يفهمها.
أما “الرأسمالي”، فلم يعد فقط من يملك المصنع، بل من يحتكر البيانات، يتحكم في الخوارزميات، ويسيطر على البنية التحتية الرقمية التي تدير الحياة اليومية.
هكذا تتوارى حدود الطبقة، وتضيع دلالات الانتماء، ويصبح الاستغلال أقل وضوحاً، لكنه أكثر تغلغلاً. فكيف يمكن لنا أن نستمر في الحديث عن “البروليتاريا” بنفس المفهوم الذي استُعمل في منتصف القرن التاسع عشر؟ وهل ما زالت “دكتاتورية البروليتاريا” مفهوماً قابلاً للدفاع في زمن تطوّر فيه الوعي الحقوقي والديمقراطي — حتى وإن بقي ذلك تطوراً هشاً ومتناقضاً؟
ثم إن مفهوم “الحزب الطليعي”، الذي صاغه لينين كأداة للتنظيم الثوري، يواجه اليوم تحديات كبرى: في عصر شبكات التواصل، واللامركزية، والرفض الواسع للتراتبية والتنظيمات المغلقة، يصبح من الصعب الدفاع عن فكرة القيادة المركزية “الواعية” بالجماهير “الجاهلة”، دون أن نعيد إنتاج النخبوية التي قاومها ماركس في صيغها البرجوازية.
لذلك فإن تجديد الماركسية لا يكون بمجرد الحفاظ على “قائمة مفاهيم” قديمة، بل بطرح سؤال المنهج: كيف نعيد تعريف الطبقة في ضوء التغيرات الجديدة؟ كيف نفهم علاقات الإنتاج حين تصبح مبنية على الملكية الرمزية والمعرفية؟ وما معنى الثورة في عالم يدير التغيير من داخل النظام نفسه؟
التحدي إذًا ليس في رفض المفاهيم الموروثة بشكل قاطع، بل في مساءلتها وإعادة بنائها بما يتناسب مع تعقيد الواقع المعاصر، دون خيانة للوظيفة النقدية التي وُجدت من أجلها.
المحور الثالث: (اليسار الجديد) والرهانات المعاصرة
إذا كانت الماركسية الكلاسيكية قد صيغت في زمن الصراع الطبقي الصناعي، فإن (اليسار الجديد) — خاصة بعد الستينيات — قد ظهر بوصفه محاولة لتوسيع أفق النضال وتجاوز المركزية الصارمة للبعد الطبقي. هذا (اليسار الجديد) لم يتخلَّ عن البعد الاقتصادي، لكنه أدرك أن الرأسمالية لا تهيمن فقط عبر الاستغلال الاقتصادي، بل عبر الثقافة، اللغة، التمثيل، الهوية، والجندر، وحتى البيئة.
في هذا السياق، ظهر مفكرون سعوا إلى إعادة تأويل الماركسية في ضوء القضايا الجديدة:
أنطونيو غرامشي أعاد النظر في مفهوم الهيمنة، ووسّع دائرة الصراع لتشمل المجتمع المدني، والثقافة، والمدرسة، والإعلام.
هربرت ماركوزه ورفاق “مدرسة فرانكفورت” ربطوا الهيمنة بالاستلاب الثقافي، والامتثال، وإنتاج الرغبات المزيفة.
لاحقًا، مفكرون مثل سلافوي جيجيك وشانتال موف سعوا إلى ربط التحليل الماركسي بالنظرية النفسية والسياسية المعاصرة، كما حاول ديفيد هارفي تقديم قراءة محدثة لرأس المال من منظور الجغرافيا والنيوليبرالية.
الرهانات المعاصرة ل(اليسار الجديد) إذًا لم تعد فقط توزيع الثروة، بل أيضًا:
قضية البيئة: حيث لا يمكن فصل الكارثة الإيكولوجية عن منطق التوسع الرأسمالي اللامحدود.
قضية الجندر: حيث تُعاد إنتاج الهيمنة من خلال تقسيم العمل الجنسي، والتحكم في الأجساد والهويات.
قضية المعرفة والسلطة الرمزية: حيث تُمارس السيطرة عبر خوارزميات، ومؤشرات، وتصنيفات، وإنتاج “الحقائق”.
في هذا السياق، لا يكفي أن نتمسك بالماركسية كأداة لفهم الصراع بين الطبقات، بل ينبغي أن نتعامل معها كمشروع تحرري متعدد الأبعاد، قادر على التحالف مع نضالات ما بعد استعمارية، نسوية، بيئية، رقمية، دون أن يفقد صرامته النقدية تجاه منطق السوق والربح.
(اليسار الجديد) لا يبحث عن طوباوية بديلة، بل عن وسائل لفهم وتفكيك المعقّد، وتقديم بدائل عملية وممكنة. وهو ما يتطلب مرونة فكرية، وانفتاحًا على الماركسية بوصفها تقليدًا حيًّا، لا متحفًا للأفكار.
المحور الرابع: إمكانات الفعل الماركسي في زمن رقمي معولم
في عالم مُعولم، سريع، رقمي، تتآكل فيه الأطر التقليدية للعمل السياسي، يُطرح سؤال الفعل الماركسي بوصفه تحدياً مزدوجاً: كيف نُبقي على الالتزام النقدي في زمن التفاهة؟ وكيف نُفعّل أدوات ماركسية في واقع تبدو فيه الرأسمالية وقد نجحت في “أدلجة” كل شيء — من الذوق إلى الذكاء الاصطناعي؟
لم يعد الحزب الثوري، بالشكل الذي تصوره لينين، هو الأداة الوحيدة أو حتى المُجدية لتنظيم الرفض. كما أن النقابات فقدت في كثير من الحالات طابعها الكفاحي، وأصبحت مدمجة في منطق النظام نفسه. في المقابل، ظهرت إمكانات جديدة للفعل:
شبكات المقاومة الرقمية،
نضالات الهامش،
حركات بيئية، نسوية، مضادة للاستعمار،
تحالفات عابرة للهويات والحدود.
لكن هذه الإمكانات تحمل في طياتها تناقضاتها:
الإنترنت الذي يتيح نشر الوعي، هو نفسه أداة للرصد والسيطرة.
المنصات التي تُستخدم للتنظيم، تُعيد إنتاج منطق السوق والقابلية للاستهلاك.
الخطاب الماركسي الجديد قد يُفرَّغ من محتواه حين يتحوّل إلى مجرد “ماركة” ثقافية أو أداء رمزي.
رغم ذلك، فإن الفعل الماركسي يظل ممكنًا، لا من خلال التمترس في الماضي، بل بإبداع أدوات مقاومة تناسب الحاضر.
فكما أن ماركس لم يكتب انطلاقًا من نوستالجيا للمجتمع الزراعي، بل انطلاقًا من تحليل دقيق للرأسمالية الصناعية الناشئة، فإن من يتمثل خطه اليوم لا يحنّ إلى زمن السوفييت، بل ينطلق من تحليل بنيوي لآليات الاستغلال والهيمنة الجديدة.
الفعل الماركسي اليوم قد يكون أقل صخبًا، لكنه أكثر عمقًا:
في الدفاع عن المدرسة العمومية ضد الخوصصة،
في فضح تحالفات رأس المال مع السلطة الدينية أو العسكرية،
في تقويض الروايات السائدة حول “النجاح”،
وفي بناء شبكات تضامن خارج منطق الربح والمردودية.