الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

ذاكرة الدار البيضاء في ارشيفاتها

 

 

علال بنور :الدار البيضاء

 

 

نعتقد أن دفن أرشيف أو حرقه جريمة ثقافية، فهذا السلوك أشبه بقتل شيخ أو حرق مكتبة، بل هو بمثابة قتل العقل نفسه وطمس ذاكرة. وعندما نقول أرشيف معناه مخطوطات ومجلات وصحف وعقود وسجلات وصور وتصاميم وغيرها من الوثائق، كلها ترمز إلى قيم ذاكرة مجتمعية.  عبر الأرشيف تحرص جميع الثقافات على حفظ ماضيها الذي يشكل مادته الأساسية، ومن المؤكد جدا، أنه خزان أساسي ضد الاندثار الثقافي/التاريخي، فهو يقدم الدلائل التي تفضي إلى إحكام نظريات تفسر القضايا التاريخية في بعدها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والذهني، موضوعات ينكب الباحثون على دراستها لإعادة تشكيل كتابة التاريخ المحلي الذي يفيد بالضرورة التاريخ الشمولي.  فالأرشيف يؤدي وظيفة الشهود بل هو الشاهدة على ذاكرة مجتمعية، عبره يتم التعبير عن قيم اجتماعية محلية ترسخ مشروعا للبحث التاريخي. والواقع أن الأرشيف والذاكرة مادتان أساسيتان متلازمتان لعلم التاريخ، باعتبار التاريخ شكلا من أشكال الذاكرة التي تربط الماضي بالآني، فهو مرتبط عضويا بالأرشيف، يقدم خدمة للمؤرخ.  بدون أرشيف تفقد المجتمعات الاتصال بماضيها وطمس هويتها التاريخية. هل الأرشيف مجددا للذاكرة؟

 

 

تأكد للمؤرخ الباحث، أن الأرشيف يوسع من أفق الذاكرة في جعل التاريخ رابطا أساسيا بين الماضي والحاضر، لذلك يمكن القول، إن الأرشيف يعد مختبرا للمؤرخ، عبره يبرمج ويخطط لمعالم الوقائع والأحداث، التي تجعل الباحث التاريخي يوثق علاقة الأرشيف بالذاكرة، معتمدا على أدوات المنهج التاريخي، مما يسمح له بالحديث، أن الأرشيف والذاكرة معا ثقافة مجتمعية وتراثا إنسانيا متجاوزا الحدود الجغرافية. مؤمنا بأن كل فصل بين الأرشيف والذاكرة هو فصل تعسفي، باعتبار أن الوثيقة والشيخ أي الرواية الشفهية يشكلان مادة واحدة للباحث التاريخي. وهكذا، يجمع الباحثون الحداثيون أن الأرشيف حافظا للذاكرة المجتمعية، عبره يكتب التاريخ المحلي ليساهم في التاريخ الشمولي.

 

 

لذلك يشكل الأرشيف بالقوة تاريخا مصدريا خاما، يدخله المؤرخ بمعاول المنهج التاريخي فيحوله إلى تاريخ المؤرخ، وتبقى الذاكرة مكملة للأرشيف بالرغم أنها معرضة للنسيان، على حد رأي المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف. وبالتالي يصبح الأرشيف متوجا لمكونات التراث الثقافي ومعبرا عن الهوية الجماعية التي يتقاسم فيها الافراد والجماعات، إما داخل مجال جغرافي محدد أو مجال أوسع. ومن هنا يجوز القول، إن الذاكرة ترتبط بالهوية، ولن يتأتى لها ذلك، إلا بإخراج الأرشيف من رفوف المؤسسات إلى يدي المؤرخ الباحث. يشكل الأرشيف مادة ثقافية تزداد أهميته حينما يصنف ويصفف على شكل ملفات ومجلدات حسب مرجعية المادة، بناء على مصادر الأرشيف المتعددة، فيها الإدارية المحض والمالية والصحافية والاجتماعية كالصحة والتعليم والمؤسسات الإنتاجية بكل أنواعها. وعندما يخرج الأرشيف من ملكية الإدارة إلى العموم، يصبح للباحث المؤرخ حق فتح الأرشيف للبحث والدراسة كمشترك اجتماعي.

 

 

تبين عبر العديد من التجارب البحثية التاريخية، أنها استفادت في أسلوبها ومنهجها ومفاهيمها ومصطلحاتها من الدراسات الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وعلم الإحصاء، أو ما يسمى بالعلوم المجاورة للدراسات التاريخية، في إطار مدرسة الحوليات الفرنسية مع تيار التاريخ الجديد، معتمدة على الذاكرة والارشيف وباقي العلوم لصياغة موضوعات تاريخية. وتجدر الإشارة، إلى أن البحث في التاريخ المحلي يبقى في غالب الأحيان رهين المبادرة الفردية للمؤرخ بدون دعم وسند مالي، من أجل البحث العلمي للكتابة التاريخية. ومن التحديات التي تقيد من عزيمة الباحث المؤرخ، اعتماده على التمويل الذاتي، وصعوبة الحصول على تسهيلات إدارية للوصول إلى الأرشيفات، بالرغم من خروج قانون الحصول على المعلومة 31.13 وفق دستور 2011. فلا زالت الإدارة العمومية تتحفظ في السماح للباحث الوصول إلى الأرشيفات بالرغم من مرور أربعين سنة على اغلاقه، وهي المدة الزمنية التي يسمح فيها للباحث الاشتغال على الأرشيف.

 

 

 أرشيف الدار البيضاء.

 

 

للدار البيضاء تاريخ عريق، وبحكم ماضيها تستحق مؤسسة خاصة لجمع شتات الارشيفات، على الأقل، بدءا من القرن 19م الذي شكل بداية الانفتاح الفعلي للمدينة ومرساها على التجارة العابرة للبحار، ليمتد انفتاحها إلى أزمة 1907، السنة التي كانت منطلق المقاومة المسلحة بالدار البيضاء بزعامة قبائل الشاوية، والتي ارتبطت بدايتها بولادة جديدة للمدينة. لذلك تعتبر في نظر الباحثين أول مدينة عرفت التحديث بعد مدينة طنجة. انطلق التحديث بالدار البيضاء منذ بداية القرن 20مع مشروع بناء الميناء، عبره دخلت البنيات العصرية المعمارية والصناعية والتجارية والمالية على النمط الأوربي.

 

لا شك أن مدينة الدار البيضاء بحجمها الجغرافي ووظيفتها الاقتصادية والثقافية، أنها تتوافر على أرشيفات بمختلف مؤسساتها العمومية والخصوصية، تلك التي بدأت مع مرحلة احتلال المدينة، بغناها الأرشيفي المتعدد المؤسسات، إذا ما فتحت للباحث التاريخي، فإنه سيكشف عن العديد من الموضوعات التاريخية التي طالها النسيان، ويمكن أن تسهم في التأريخ للمدينة. باعتبار أن تحديثها   انطلق مع مشروع تشييد الميناء، الذي عبره دخلت فكرة بناء المدينة على النمط الأوربي بكل مرافقها، الثقافية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والإعلامية، تاركة أرشيفات لها أهميتها التاريخية. لذلك آن الأوان لفتح أرشيفات المؤسسات للباحثين، خاصة المؤرخون.

 

بات من الواضح أن أرشيف الدار البيضاء يحفظ ذاكرة وهوية المدينة، فهو يمثل عدة أدوار منها: الحجة والاثبات أي الشاهدة – حفظ المعطيات والبيانات للرجوع إليها عند الحاجة – يشكل ذاكرة المؤسسة. عندما يفرج عنه يشكل شأنا عموميا متجاوزا المؤسسة الحافظة له، آنذاك يتحول من ذاكرة مؤسساتية إلى ذاكرة جماعية للمدينة. ومن جهة أخرى، إذا كانت الذاكرة معرضة للنسيان فالأرشيف يعد إلى حد ما حافظا لها.

 

ومن الخطأ في اعتقادي القول، أن أرشيف المدينة مرآة المجتمع، بقدر ما هو شاهد على تطور بنيات المدينة عبر الزمان، وعندما يخرج من رفوف التخزين إلى أيادي الباحث، يمكن القول، نحن أمام جزء من ثقافة المجتمع، التي يكشف عنها الباحث، فيحولها من مادة خام إلى مادة مصنعة، وعبره يتم الربط بين الماضي والحاضر للإجابة عن أسئلة تقلق الدارس المهتم والباحث الشغوف للمعرفة.

 

من الملاحظ، أن أرشيفات المؤسسات العمومية مغلقة في وجه الباحث، لأسباب نجهلها، فالوصول إليها   غالبا ما يكون عن طريق علاقات صداقة. إن الدار البيضاء تتوافر على مقرات الأرشيفات،  وهي مقرات غنية بالمعطيات، نتمنى أن تفتح للبحث التاريخي، نذكر منها: أرشيف  إدارة الميناء وأرشيف جريدة  Le Matin  باعتباره خزانا للجرائد والمجلات التي كانت تصدر في عهد الحماية الفرنسية، وأرشيفات  الثانويات نموذج ثانوية الخوارزمي، التي شيدت 1917، يتضمن أرشيفها نسخة من آلة حاسبة “بليز باسكال”، وأرشيفات العديد من المؤسسات التعليمية، و أرشيف غرفة الصناعة والتجارة، و أرشيف المستشفيات العمومية، وأرشيف مقر الوقاية المدنية، وأرشيف المحكمة الابتدائية  بعمالة أنفا باعتبارها أقدم مؤسسة عدلية، وأرشيف البريد المركزي، و أرشيف الخزانة البلدية بشارع الجيش الملكي، والتي مع الأسف أوصدت أبوابها، حيث كانت ملجأ للتلاميذ والطلبة والأساتذة للبحث والدراسة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي .

 

تأكد عبر الرواية الشفهية، أن أرشيفات المؤسسات العمومية في أغلبيتها بدون قيمين عليها، الشيء الذي يفسر غياب ثقافة وأهمية الارشيف لذى رؤساء ومدراء المؤسسات العمومية، كما  يؤكد أن الأرشيف يعيش وضعية الإهمال،  وفي أحسن الأحوال، نجد مدراء يكلفون موظفا لترتيب وثائق الأرشيف بدون تكوين في علم الأرشفة، بل نجد الموظف المكلف بالأرشيف من الموظفين المغضوب عليهم من طرف رؤسائه، بمعنى التكليف  بالأرشيف  نوع من التأديب والعقاب  للموظف بسبب تقصيره في وظيفته، فالقيمون في أغلبيتهم من الموظفين ذوي السلالم الإدارية الأقل أجرا . ومن سلبيات القيم على الأرشيف جهله التام بثقافة علوم الأرشيف، فهو موظف بسيط في ثقافته وهو المغضوب عليه من طرف رؤسائه، الذين يتقاسمون معه جهله دور وأهمية الأرشيف. كما أن للمسؤول الأول في تراتبية السلم الإداري نظرة دونية تحقيرية للأرشيف، يعتبر صلاحيته ونفعيته الإدارية منتهية.

 

أغلبية المستودعات الأرشيفية عرضة للتلف، في أماكن تحت أرضية مشبعة بالرطوبة والغبار والحشرات ومعرضة لمخاطر الفيضانات. تفاديا للتعميم، نجد بعض أرشيفات المؤسسات العمومية تحظى بالاهتمام والعناية مثل إدارة المؤسسة العسكرية وإدارة المحافظة العقارية والمحاكم والشرطة وللحفاظ على الأرشيف، لا محيد عن تعميم نظم المعلوميات.

 

لا شك أن الأرشيف يشكل مادة خام للبحث التاريخي، فهو يحتوي على مجموعة من الوثائق لها قيمة تاريخية وعلمية، تضم معطيات وبيانات في أغلبها غير مصنفة داخل أقبية مظلمة نال منها عامل الزمن وغطاها الغبار. ومن الجمعيات والاسماء العائلية التي لها اهتمام بذاكرة الدار البيضاء نذكر منها: الدار البيضاء مدينة أوربية تحت الحماية: من اهتمام السيد عبد الله نكيب – الدار البيضاء نوستلجيا وتاريخ – موروث الدار البيضاء – ذاكرة الدار البيضاء.

 

 الدار البيضاء في حاجة لفتح أرشيفاتها للباحث التاريخي:

 

باتت الدار البيضاء في حاجة إلى تنظيم أرشيفاتها في بناية خاصة، تجمع الأرشيفات العائلية والشخصية والمؤسساتية لحفظها من الضياع، ولتسهيل عمل الباحث والمؤرخ خدمة لتاريخ مدينة الدار البيضاء، يخصص كل جناح في البناية باسم المالك الأصلي للوثائق من أشخاص ومؤسسات.  هذه العملية، سيكون لها قيمة إضافية علمية، عوض أن تبقى أرشفة المدينة مبادرات شخصية وجمعوية في أفق محدود. ولتشجيع هذه المبادرات، في توسيع أفقها، من أجل استمرارية البحث التاريخي وحفظ ذاكرة المدينة. أصبح من الضروري انفتاح الفاعلين على الجمعيات المهتمة بذاكرة وتاريخ الدار البيضاء، بدعمهم وتشجيعهم للولوج إلى أرشيفات المؤسسات التي يمكن أن تفيد في الحفاظ على تاريخ المدينة. ومن الفاعلين الأساسيين نذكر: وزارة الثقافة ووزارة التربية والتعليم والجماعات الترابية للمدينة.

 

للأرشيف أهمية بالغة في  البحث التاريخي، إذ يوفر  إمكانية الاستفادة منه، وبالتالي يشكل  مادة مصدرية  متعددة الموضوعات مثلا أرشيف الجرائد الفرنسية في عهد الحماية لتاريخ المدينة .لذك أصبح اليوم، المؤرخ يراهن على انشاء مادة تاريخية تعتمد على  تعدد الارشيفات من أرشيف الجرائد الى  ارشيف المحافظة العقارية وأرشيف المستشفيات وإدارة الضرائب وباقي الإدارات العمومية لتجديد كتابة تاريخ المدينة، وفي ذات الوقت تصحيح كتابات الاخباريين وكتابات غير المتخصصين في البحث التاريخي، إن إمكانيات الأرشيف  تتيح للباحث التاريخي الكشف عن التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والذهني والانتماء الجغرافي للعائلات كما  ترفع القدسية عن الأحداث التي يتحفظ عليها الاخباريون الذين عاشوا الأحداث.

 

أصبح المؤرخ متأكدا، من أن أرشيفات الإدارات العمومية منجما خاما في حاجة إلى مؤرخين لتحويله إلى تاريخ المؤرخ، وبالتالي، تساهم في تجديد محتويات التاريخ وتسمح للكشف عن أحداث ووقائع جديدة، ليجعلها المؤرخ، تقوم مقام تصحيح المعطيات المعرفية الواردة في المصنفات التاريخية، أو مكملة للنقص الحاصل في الكتابات التاريخية، نظرا لجدة مادتها التاريخية المتعلقة بالجانب الاقتصادي والاجتماعي والذهني، باعتبارها الثيمات الأساسية في الكتابة التاريخية. ومن هذا المنطلق، يتجاوز الأرشيف النظرة الضيقة في عرضه للأخبار والأحداث والوقائع فقط، إلى تقديم مادة تاريخية، التي تحول إلى تاريخ المؤرخ، حينما يصغوها بطرح منهجي وأسلوب كتابة تاريخية، وبطريقة تقوم على أن البنيات التاريخية هي الفاعل التاريخي.

 

تساهم الأرشيفات في رفع القداسة التي يتستر وراءها الاخباري، الذي عاش الأحداث. كما أنها تفضح الفقيه لزيفه الحقيقة التاريخية. ومن هذا المنطلق، فإن الأرشيف يتجاوز عرض الوقائع والأحداث، إلى طرح السؤال، حول قضايا منهجية في كيفية التعامل مع البيانات والمعطيات، التي يمكن أن نجدها متناقضة بين المادة الأرشيفية والمادة المصوغة في كتب التاريخ.

 

 

*المراجع :

– جمال الخولي: مدخل لدراسة الوثائق والأرشيف – دار الثقافة العلمية – الاسكندرية / مصر.2002.

– مجموعة باحثين: أسس إدارة الأرشيف الجاري والوسيط – هيئة الشارقة للوثائق والأرشيف – الشارقة.2014.

– عمر إبراهيم قنديلجي: التوثيق الإعلامي والارشيف الصحفي. دار اليازوري – عمان- 2014.

– مجموعة من المؤرخين تحت اشراف جاك لوغوف: التاريخ الجديد – ترجمة وتقديم محمد الطاهر المنصوري- المنظمة العربية للترجمة -مركز دراسات الوحدة العربية -بيروت 2007.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات

error: Content is protected !!