قراءة في كتاب “المواطنة المرنة: المنطق الثقافي للعولمة ” للكاتبة إيهوا أونغ
عبدالله الساورة – كاتب مغربي
قدمت إيهوا أونغ، وهي أنثروبولوجية أمريكية من أصل ماليزي، إسهامات كبيرة في مجالات الأنثروبولوجيا الثقافية ودراسات العولمة. تتناول الكاتبة في أعمالها تأثيرات العولمة والسياسات النيوليبرالية على الهوية والسيادة والمواطنة. ومن بين أهم مؤلفاتها:
. ” النيوليبرالية كاستثناء: تحولات في المواطنة والسيادة” (2006).
و “بوذا مختبئ: اللاجئون، المواطنة، وأمريكا الجديدة” (2003).
و”التجمعات العالمية: التكنولوجيا، السياسة، والأخلاق كمشاكل أنثروبولوجية” (2005) (بالاشتراك مع ستيفن كولير) و ” المواطنة المرنة: المنطق الثقافي للعولمة” (1999/ 324 صفحة) “Flexible Citizenship: The Cultural Logics of Transnationality”.
يعتبر كتاب ” المواطنة المرنة: المنطق الثقافي للعولمة” للكاتبة إيهوا أونغ (Aihwa Ong) استكشافا عميقا لكيفية تأثير العولمة على السيادة الوطنية والهوية. يتناول الكتاب مفهوم “المواطنة المرنة”، والذي يشير إلى قدرة الأفراد والدول على التنقل والتكيف مع تعقيدات الترابط العالمي مع الحفاظ على شعور بالهوية الوطنية.
تجادل أونغ بأن الآراء التقليدية حول المواطنة والهوية الوطنية يتم تحديها بفعل الطبيعة السائلة للتبادلات الاقتصادية والثقافية العالمية. وتستعرض كيف يمكن المزج بين المستثمرون الآسيويون، على سبيل المثال، وبين استراتيجيات الهجرة وتراكم رأس المال، مما يخلق أفرادًا عبر وطنيين يجسدون كلًا من سيولة رأس المال والتوتر بين الهوية الوطنية والشخصية.
ينتقد الكتاب أيضًا الفكرة القائلة بأن العولمة تقوض بالضرورة الدولة القومية، مبرزًا بدلاً من ذلك كيف يمكن للدول والأفراد الاستفادة من القوى العالمية لتحقيق مصالحهم. يركز تحليل أونغ بشكل خاص على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث أدى تكثيف السفر والاتصالات ووسائل الإعلام الجماهيرية إلى إنشاء مجتمع عابر للحدود الوطنية.
تقدم الكاتبة من خلال ربط البحث الإثنوغرافي بالتحليل البنيوي، فهمًا دقيقًا لكيفية تشكيل المنطق الثقافي للعمليات الاقتصادية والسياسية، مما يجعل هذا النهج متعدد التخصصات الكتاب مساهمة قيمة في مجالات الأنثروبولوجيا ودراسات العولمة .
فصول الكتاب : العولمة والسيادة الوطنية
يتناول الكتاب عدة فصول رئيسية تستكشف من خلالها موضوعات متعددة حول العولمة والسيادة الوطنية. وتناقش هذه الفصول مفهوم المواطنة المرنة من مستويات متعددة.
وتعرض الكاتبة في مقدمة الكتاب مفهوم “المواطنة المرنة” وتوضح الخلفية النظرية للكتاب، مع التركيز على كيفية تأثير العولمة على السيادة الوطنية والهوية. وتستعرض في الفصل التبادلات الاقتصادية والهجرة و كيفية تكيف الأفراد والدول مع التغيرات الاقتصادية العالمية من خلال استراتيجيات الهجرة وتراكم رأس المال، مع التركيز على المستثمرين الآسيويين. وتتناول هذا الفصل الثالث التحديات التي تواجه الهوية الثقافية والانتماء الوطني في ظل العولمة، وكيف يمكن للأفراد والدول الحفاظ على هوياتهم الوطنية مع الاستفادة من العولمة. وتبحث أونغ في هذا الفصل الرابع دور وسائل الإعلام والاتصالات في خلق مجتمع عبر وطني وتسهيل التبادلات الثقافية والاقتصادية. وتناقش في الفصل الخامس كيف يمكن للدول التعامل مع العولمة والتأثيرات العالمية من خلال الانخراط في المنظمات الدولية والاتفاقيات متعددة الأطراف، مع الحفاظ على سيادتها الوطنية. وتدرس الكاتبة في الفصل السادس الأبعاد السياسية والاجتماعية للعولمة، وكيف يمكن للدول تحقيق توازن بين الانفتاح الاقتصادي والاستقلالية السياسية.
يقددم كل فصل من هذه الفصول نظرة شاملة وعميقة لمفهوم “المواطنة المرنة” وكيفية تأثير العولمة على السيادة الوطنية والهوية الثقافية.
المنطق الثقافي للعولمة:
يقدم الفصل الأول من كتاب “المواطنة المرنة: المنطق الثقافي للعولمة” لإيهوا أونغ إطاراً نظرياً شاملاً للمفهوم المحوري للكتاب، وهو “المواطنة المرنة”. يبدأ الفصل بمقدمة تمهيدية تشرح فيها أونغ كيف أن العولمة قد أوجدت تحديات جديدة للسيادة الوطنية والهويات التقليدية للدول.
وتجادل الكاتبة بأن النظام العالمي المعاصر يتسم بزيادة الترابط بين الدول والشعوب، مما يؤدي إلى تحولات عميقة في كيفية فهمنا للمواطنة والانتماء. تشرح أن العولمة ليست فقط عملية اقتصادية، بل هي أيضاً ظاهرة ثقافية وسياسية تؤثر على جميع جوانب الحياة. في هذا السياق العالمي الجديد يتطلب من الدول والأفراد على حد سواء تطوير استراتيجيات مرنة للتكيف مع التغيرات السريعة والمعقدة.
يركز هذا الفصل بشكل خاص كيف يمكن للأفراد تبني هويات عابرة للحدود نتيجة للتدفقات الاقتصادية والثقافية. وتستعرض أونغ أمثلة على رجال الأعمال الآسيويين الذين يستخدمون استراتيجيات الهجرة وتراكم رأس المال كوسيلة لتعزيز مصالحهم. هؤلاء الأفراد يجسدون مبدأ “المواطنة المرنة” حيث يتمكنون من التنقل بين الدول والأنظمة الاقتصادية المختلفة بمرونة عالية، مستفيدين من الفرص التي تقدمها العولمة.
كما تبرز أونغ في هذا الفصل كيف أن الدول نفسها عليها أن تعتمد على سياسات مرنة للتكيف مع النظام العالمي المتغير. وتقدم أمثلة على الدول في منطقة آسيا والمحيط الهادئ التي تتبنى سياسات اقتصادية وليبرالية جديدة لتعزيز التنافسية الاقتصادية وجذب الاستثمارات الأجنبية. تعكس هذه السياسات قدرة الدول على إعادة تعريف مفاهيم السيادة الوطنية في سياق العولمة.
وتناقش أونغ كيف أن وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة أسهمت في تشكيل هوية عالمية جديدة، مما يخلق ثقافات هجينة تجمع بين العناصر المحلية والعالمية. تسهم هذه الثقافة العبر وطنية في تعزيز مفهوم “المواطنة المرنة” حيث يصبح الأفراد قادرين على التكيف مع بيئات متعددة والهويات المتعددة.
ديناميات تشكيل مفهوم المواطنة المرنة:
يضع الفصل الأول أساساً نظرياً لفهم الديناميات الثقافية والاقتصادية التي تشكل مفهوم “المواطنة المرنة”. ويبرز أهمية التكيف والتعلم المستمر في مواجهة التحديات والفرص التي تفرضها العولمة. من خلال الجمع بين البحث الإثنوغرافي والتحليل البنيوي، تقدم أونغ رؤية عميقة ومعقدة حول كيفية تأثير العولمة على الأفراد والدول على حد سواء.
وبالإنتقال إلى الفصل الخامس الذي يعتبر من أهم فصول كتاب “المواطنة المرنة: المنطق الثقافي للعولمة”، حيث تستكشف إيهوا أونغ العلاقة المعقدة بين المنظمات الدولية والسيادة الوطنية. وتركز أونغ على كيفية تأثير العولمة على قدرة الدول على الحفاظ على سيادتها، وتشرح كيف يمكن للمنظمات الدولية أن تشكل تحديات وفرصًا للدول الأعضاء.
تبدأ أونغ بالحديث عن المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي كيف تلعب أدوارًا حيوية في تشكيل السياسات الاقتصادية والسياسية للدول النامية والمتقدمة على حد سواء. وتوضح أن هذه المنظمات تعمل كمنتديات للتعاون الدولي حيث يمكن للدول العمل معًا لحل المشكلات العالمية مثل الفقر، وتغير المناخ، والصراعات الإقليمية. ومع ذلك، تشير أونغ أيضًا إلى أن هذه المنظمات يمكن أن تفرض قيودًا على سيادة الدول من خلال الشروط والإصلاحات الهيكلية التي تفرضها.
وتعرض أونغ في هذا الفصل أمثلة على الدول التي تمكنت من استخدام عضويتها في المنظمات الدولية لتعزيز مصالحها الوطنية. من خلال المشاركة النشطة في هذه المنظمات، يمكن للدول الصغيرة والنامية الحصول على دعم مالي وتقني يعزز من قدرتها على التنافس في الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، تشير أونغ إلى أن هذا الدعم غالبًا ما يأتي بشروط قد تؤدي إلى تغييرات جوهرية في السياسات الوطنية، مما يثير تساؤلات حول مدى استقلالية صنع القرار الوطني.
أحد النقاط الرئيسية التي تطرحها أونغ هي أن المنظمات الدولية غالبًا ما تكون ممثلة بشكل غير متساوٍ، حيث تميل الدول الكبرى والمتقدمة إلى امتلاك نفوذ أكبر في صنع القرارات. هذا التوزيع غير المتساوي للسلطة يمكن أن يؤدي إلى سياسات تفضيل الدول القوية على حساب الدول الضعيفة. تشرح أونغ أن هذا الوضع يضعف من قدرة الدول النامية على الحفاظ على سيادتها الكاملة ويجعلها أكثر عرضة للتأثيرات الخارجية.
وتناقش أونغ أيضًا دور المنظمات غير الحكومية (NGOs) في السياق الدولي وكيف يمكن أن تؤثر على السيادة الوطنية. تشير إلى أن المنظمات غير الحكومية تلعب دورًا مهمًا في تعزيز حقوق الإنسان والتنمية المستدامة، لكنها أيضًا يمكن أن تكون أدوات للضغط الدولي. في بعض الحالات، قد تجد الدول نفسها تحت ضغط من هذه المنظمات لتبني سياسات معينة تتماشى مع الأجندات العالمية، حتى لو كانت تتعارض مع المصالح الوطنية.
وتسلط أونغ الضوء على الحاجة إلى التوازن بين التعاون الدولي والحفاظ على السيادة الوطنية. تشير إلى أن الدول يجب أن تكون قادرة على العمل مع المنظمات الدولية لتحقيق الأهداف المشتركة دون التضحية بالاستقلالية في صنع القرار الوطني. وتعزز أونغ أهمية تطوير استراتيجيات مرنة تمكن الدول من التكيف مع التحديات العالمية مع الحفاظ على هويتها وسيادتها.
تأثير العولمة على الهويات الوطنية والسيادة:
يتمحور كتاب “المواطنة المرنة: المنطق الثقافي للعولمة” للكاتبة إيهوا أونغ حول مفهوم “المواطنة المرنة”، والذي يشكل الخيط الرابط والأساسي لمواضيعه وأفكاره. في إطار هذا المفهوم، تستكشف أونغ كيفية تأثير العولمة على الهويات الوطنية والسيادة، وكيف تتكيف الدول والأفراد مع الضغوط والتحديات الناتجة عن البيئة العالمية المعقدة والمتغيرة. ويقدم الفصل الخامس رؤية معمقة ومتشابكة حول كيفية تأثير المنظمات الدولية على السيادة الوطنية، ويسلط الضوء على الديناميات المعقدة التي تشكل العلاقات بين الدول والمنظمات الدولية في عصر العولمة.
ويعبر الخيط الرئيسي والناظم للكتاب عن الكيفية التي يتكيف بها الأفراد والدول مع تعقيدات العولمة بينما تسعى الدول والافراد للحفاظ على هويتهم وسيادتهم. أونغ تؤكد على أن العولمة ليست مجرد عملية اقتصادية، بل هي ظاهرة ثقافية وسياسية تُعِيد تشكيل جميع جوانب الحياة المعاصرة.
ومن أبرز المفاهيم المؤطرة للكتاب نجد مفهوم “المواطنة المرنة” حيث يغدو للأفراد قدرة على التنقل بين الدول والهويات الاقتصادية والثقافية المختلفة بسهولة ومرونة. وكيف تؤثر التغيرات الاقتصادية العالمية على السياسات الوطنية والهويات، وكيف يتكيف الأفراد والدول مع هذه التغيرات.
وتواجه الهوية الوطنية والثقافية تحديات متعددة في ظل العولمة، وكيفية تكييف الهويات الشخصية والجماعية مع هذه التغيرات. وتبرز كيف تؤثر المنظمات الدولية على السيادة الوطنية، وكيف يمكن للدول تحقيق التوازن بين التعاون الدولي والحفاظ على استقلالها. وتبرز بوضوح الديناميات السياسية والاجتماعية و كيفية تأثير العولمة على العمليات السياسية والاجتماعية داخل الدول، وأهمية تطوير سياسات مرنة ومستدامة.
تسعى أونغ من خلال هذا الكتاب إلى تقديم فهم شامل ودقيق لكيفية تأثير العولمة على الأفراد والدول، وتشجع على التفكير في طرق جديدة للتكيف مع هذه التحديات المعقدة دون فقدان الهوية والسيادة. يجمع الكتاب بين البحث الإثنوغرافي والتحليل البنيوي، مما يوفر رؤية متعمقة وثرية للعولمة وتأثيراتها.