قراءة في كتاب : ” السيادة في القرن الواحد والعشرين: اللاهوت السياسي في عصر النيوليبرالية والشعبوية” للكاتب كارل راسكي
عبدالله الساورة – ناقد سينمائي مغربي.
تتعدد اسهامات الكاتب كارل راسكي ( Carl Raschke) بشكل كبير على الفلسفة السياسية، خاصة في مجالات السيادة والعولمة والنيوليبرالية، بكتب متخصصة و متعددة أبرزها ” النار والورود: ما بعد الحداثة وفكر الجسد ” (1996) و ” الثورة الرقمية وظهور الجامعة ما بعد الحداثة ” (2012) و ” قوة الله: اللاهوت السياسي وأزمة الديمقراطية الليبرالية ” (2015) و ” و”السيادة في القرن الواحد والعشرين: اللاهوت السياسي في عصر النيوليبرالية والشعبوية”(2024)[1].
يناقش كتاب ” السيادة في القرن الواحد والعشرين: اللاهوت السياسي في عصر النيوليبرالية والشعبوية” (240 صفحة ) للكاتب كارل راسكي تأثير السياسات النيوليبرالية على مفهوم السيادة في القرن الحادي والعشرين. ويوضح كيف أن الاقتصاد الحر والأسواق العالمية تفرض تحديات جديدة على الدول في الحفاظ على سيادتها. ويتناول تأثير الشعبوية على السيادة الوطنية وإبراز كيف أن الحركات الشعبوية تستفيد من فكرة السيادة لاستعادة السلطة الوطنية وتقليص التأثيرات الخارجية. يربط راسكي بين مفهوم السيادة واللاهوت السياسي، موضحًا أن السيادة لا تتعلق فقط بالقوانين والسياسات ولكن أيضًا بالقيم والأخلاق الدينية. ويقدم الكتاب استراتيجيات لتحرير الشعوب المهمشة من السيطرة السياسية والاقتصادية، داعيًا إلى سيادة مستدامة ومرنة تتناسب مع التحديات العالمية الحالية.
ومن الجوانب الأساسية التي يستعرضها الكتاب، التطورات التاريخية لمفهوم السيادة وتأثيرات العولمة والسياسات الاقتصادية الحديثة عليها. و يقدم تحليلًا معمقًا لمفهوم السيادة في السياق السياسي والديني، مع التركيز على العلاقة بين السلطة والسيادة. و يقترح راسكي استراتيجيات جديدة لمفهوم السيادة تكون أكثر استدامة وقابلة للتطبيق في العالم المعاصر، بما في ذلك تعزيز التعاون الدولي والمرونة السياسية. ويمثل الكتاب إضافة هامة للأدبيات الأكاديمية حول السيادة، حيث يقدم رؤية شاملة ومعاصرة للمفهوم في ظل التحديات العالمية واستراتيجيات قابلة للتطبيق لتعزيز السيادة الوطنية من خلال التعاون الدولي والتكيف مع التحولات العالمية. يستخدم راسكي أسلوبًا أكاديميًا معتمدًا على التحليل والنقد، مع تقديم أمثلة واقعية ودراسات حالة لتوضيح النقاط الأساسية.
وينتظم الكتاب بشكل منهجي يعرض النقاط بشكل تسلسلي ومنطقي، مما يسهل على القارئ فهم التطورات المعقدة لمفهوم السيادة.
- التاريخ والتحليل السياسي:
يستعرض راسكي التحولات التي شهدها مفهوم السيادة عبر التاريخ، بدءًا من السيادة المطلقة في العصور الوسطى وصولاً إلى السيادة الحديثة في عصر العولمة والنيوليبرالية.
و يوضح كيف أن السياسات النيوليبرالية في القرن الحادي والعشرين تؤدي إلى تقويض السيادة الوطنية من خلال التأكيد على الحرية الاقتصادية وتقليل دور الدولة.
ففي العصور الوسطى، كانت السيادة مرتبطة بالملوك والحكام الذين يملكون السلطة المطلقة داخل حدودهم و لم يكن هناك تدخل خارجي في الشؤون الداخلية للدول.
وتعتبر معاهدة وستفاليا (1648) نقطة تحول تاريخية حيث تم التأكيد على مبدأ السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. ومع تقدم العولمة، أصبحت السيادة أكثر تعقيدًا، فالدول أصبحت مترابطة بشكل غير مسبوق، سواء كان ذلك من خلال التجارة الدولية أو التفاعلات السياسية.
ويبدأ الكتاب بشرح مفهوم السيادة التقليدية التي تعني السلطة العليا داخل الحدود الوطنية، حيث لا تتدخل أي قوة خارجية في الشؤون الداخلية للدولة. هذا المفهوم كان سائداً في القرون السابقة عندما كانت الدول القومية هي الفاعل الرئيسي على الساحة الدولية.
ويناقش راسكي كيف أن السياسات النيوليبرالية تفرض قيودًا على السيادة الوطنية من خلال تعزيز الحرية الاقتصادية وتقليل دور الدولة في الاقتصاد. ويؤكد أن العولمة الاقتصادية تجعل الدول تعتمد على الأسواق العالمية، مما يقوض قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة.
ويقدم أمثلة على تأثير الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية الدولية على السيادة الوطنية، وكيف أن هذه الكيانات يمكن أن تفرض شروطًا على الدول تؤثر على سياساتها الداخلية.
- الشعبوية والسيادة:
يناقش الكتاب صعود الحركات الشعبوية في الدول الغربية وكيف تستخدم هذه الحركات مفهوم السيادة لاستعادة السلطة من النخب السياسية العالمية التي يعتقد أنها بعيدة عن مصالح الشعب.. ويبرز راسكي كيف أن الاحتجاجات والحركات الشعبية يمكن أن تؤدي إلى إعادة تشكيل مفهوم السيادة من خلال الضغط على الحكومات لتكون أكثر استجابة لمطالب الشعوب.
ويناقش الكتاب كيف تستخدم الحركات الشعبوية مفهوم السيادة لاستعادة السلطة من النخب السياسية موضحا كيف أن الشعبوية تعتمد على فكرة السيادة لإعادة التركيز على السياسات الوطنية والمحلية. ويشرح راسكي كيف تتعارض الحركات الشعبوية مع العولمة، حيث تسعى للحفاظ على السيادة الوطنية من خلال تقليل التبعية للعوامل الخارجية والضغوط الدولية.
وتعتبر الشعبوية رد فعل ضد النخب السياسية التي يُنظر إليها على أنها بعيدة عن مصالح الشعب. ويستخدم القادة الشعبويون، السيادة لإعادة توجيه السلطة نحو السياسات الوطنية والمحلية. وتسعى الحركات الشعبوية لاستعادة السيطرة على السياسات الوطنية من المنظمات الدولية والنخب الاقتصادية العالمية حيث يوجد تعارض كبير بين الحركات الشعبوية العولمة لأنها تؤدي إلى تقليص السيادة الوطنية. هذا يشمل معارضة الاتفاقيات التجارية الدولية والتحالفات العسكرية التي يُنظر إليها على أنها تقييد للسيادة.
وتدعو الشعبوية إلى حماية الصناعة المحلية من المنافسة الخارجية من خلال فرض رسوم جمركية أو قيود على الواردات. الهدف هو تعزيز الاكتفاء الذاتي الاقتصادي والحفاظ على الوظائف الوطنية. وتدعم الكثير من الحركات الشعبوية سياسات إغلاق الحدود أو تقييد الهجرة بهدف الحفاظ على السيادة الثقافية والاجتماعية. ويُنظر إلى هذه السياسات كوسيلة للحفاظ على الهوية الوطنية والسيطرة على الموارد. ويمكن للسياسات الشعبوية أن تؤدي إلى عزلة الدولة عن المجتمع الدولي، مما قد يؤثر سلباً على العلاقات الاقتصادية والسياسية.
وتعميق الخطاب الشعبوي يؤدي الانقسامات داخل المجتمع، حيث يتم تصوير المعارضين كأعداء للدولة. يمكن أن تؤدي الحركات الشعبوية إلى زيادة تمكين المواطنين وإعادة تركيز السياسات نحو احتياجاتهم ورغباتهم. وتسعى الشعبوية للحفاظ على الهوية الوطنية والثقافة من خلال سياسات تركز على القيم الوطنية.
- اللاهوت السياسي:
يربط راسكي بين مفهوم السيادة واللاهوت السياسي، موضحًا أن السيادة لا تتعلق فقط بالقوانين والسياسات، بل تشمل أيضًا القيم والأخلاق الدينية التي تؤثر على كيفية إدارة الدول. ويناقش تأثير الإيديولوجيات الدينية على السيادة وكيف يمكن للسيادة أن تكون وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية من منظور ديني.
يربط راسكي بين السيادة والقيم الأخلاقية والدينية، حيث يرى أن السيادة ليست مجرد سلطة سياسية بل تشمل أيضًا القيم التي توجه تصرفات الدول.
وتلعب الأيديولوجيات الدينية تلعب دورًا في تشكيل السياسات الوطنية وتعزيز العدالة الاجتماعية. هذا يشمل استخدام القيم الدينية في صياغة السياسات العامة. ويوضح راسكي كيف أن الدين يمكن أن يكون أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز السيادة من خلال التمسك بالقيم الأخلاقية التي تحمي حقوق الأفراد.
- التحديات الحديثة والسيادة المرنة:
يقترح راسكي أن مفهوم السيادة يجب أن يكون مرنًا وقابلًا للتكيف مع التحولات العالمية المستمرة، مشيرًا إلى أن السيادة التقليدية لم تعد كافية في مواجهة التحديات الجديدة.
ويناقش الكتاب تأثير التحديات البيئية مثل تغير المناخ والأزمات الاقتصادية العالمية على السيادة الوطنية. ويوضح كيف أن الدول تحتاج إلى التعاون الدولي لمواجهة هذه التحديات العالمية، مما يتطلب إعادة تعريف مفهوم السيادة.
ويقترح راسكي أن الدول يمكنها تعزيز سيادتها من خلال تبني سياسات بيئية مستدامة تتوافق مع الأهداف الدولية للحد من التغيرات المناخية. وتؤثر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على السيادة من خلال التحكم في المعلومات والبيانات. ويؤكد أن الحكومات تحتاج إلى حماية بياناتها السيادية من التدخلات الخارجية. ويتطلب الحفاظ على السيادة حماية البنية التحتية الرقمية من الهجمات السيبرانية والقرصنة. ويجب على الدول تطوير سياسات لحماية خصوصية مواطنيها وتأمين بياناتهم في العصر الرقمي. ويمكن أن يساعد التعاون مع الدول الأخرى والمنظمات الدولية في تعزيز الأمان الرقمي وحماية السيادة.
- الحلول المستقبلية:
يؤكد راسكي على أهمية التعاون الدولي لتعزيز السيادة الوطنية. يقترح أن الدول يمكنها الحفاظ على سيادتها من خلال التعاون مع المنظمات الدولية وتبني سياسات تكاملية.
و يقدم الكتاب رؤى حول كيفية تطوير سياسات جديدة تساعد في تحقيق توازن بين السيادة الوطنية والالتزامات الدولية، مشددًا على ضرورة الابتكار في السياسات لتحقيق الأهداف المشتركة. يؤكد راسكي على أهمية الشراكات الدولية لتعزيز السيادة الوطنية. ويقترح أن الدول يمكنها الحفاظ على سيادتها من خلال التعاون مع المنظمات الدولية وتبني سياسات تكاملية تعزز من قدرتها على مواجهة التحديات العالمية.
ويقدم الكتاب أمثلة عملية على كيفية تحقيق التوازن بين السيادة الوطنية والتعاون الدولي، مثل الاتفاقيات التجارية والشراكات الاقتصادية.
ويقترح الكاتب تطوير سياسات مبتكرة تحقق توازنًا بين السيادة الوطنية والالتزامات الدولية مشددا على ضرورة الابتكار في السياسات لتحقيق الأهداف المشتركة وتعزيز الاستدامة. وغالبا ما تعارض الحركات الشعبوية مع سياسات العولمة التي تراها تقوض السيادة الوطنية. ويعبر الشعبويون عن قلقهم بشأن فقدان التحكم في القرارات الاقتصادية والسياسية لصالح المؤسسات الدولية. وتسعى الحركات الشعبوية لتقليص الاعتماد على الاتفاقيات الدولية التي يرون أنها تقيد حرية العمل الوطنية بأن يشمل الانسحاب من الاتفاقيات التجارية أو المنظمات الدولية التي تعتبرها تحديًا للسيادة.
ومن الأمثلة المعاصرة قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي(Brexit) يعتبر مثالاً على الحركة الشعبوية التي سعت لاستعادة السيادة الوطنية من المؤسسات الأوروبية.
ويعكس هذا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي رغبة الشعب البريطاني في استعادة السيطرة على السياسات الاقتصادية والهجرة.
وركزت حملة الرئيس السابق دونالد ترامب على شعار ” أمريكا أولاً ” لتعزيز السياسات الحمائية وتقليل الاعتماد على التجارة الدولية. وتهدف هذه السياسات إلى تعزيز الصناعة الوطنية وحماية الوظائف الأمريكية من خلال فرض تعريفات جمركية وتقييد الهجرة. وتسلط الحركات الشعبوية الضوء على التوتر بين العولمة والسيادة الوطنية، حيث تسعى لاستعادة القوة الوطنية في مواجهة التأثيرات العالمية.
وعلى الرغم من التحديات التي يمكن أن تفرضها الشعبوية، فإنها تعكس مطالب مشروعة للمواطنين للحصول على تمثيل سياسي أكبر واستعادة السيطرة على السياسات الوطنية. وتسلط الحركات الشعبوية الضوء على التوتر بين العولمة والسيادة الوطنية، حيث تسعى لاستعادة القوة الوطنية في مواجهة التأثيرات العالمية.
وعلى الرغم من التحديات التي يمكن أن تفرضها الشعبوية، فإنها تعكس مطالب مشروعة للمواطنين للحصول على تمثيل سياسي أكبر واستعادة السيطرة على السياسات الوطنية.
تعارض الشعبوية بشدة أي تدخل خارجي في الشؤون الوطنية. يرى دعاة الشعبوية أن العولمة تفرض قيودًا على قدرة الدول على اتخاذ قرارات مستقلة تتماشى مع مصالحها الوطنية. وتنتقد الحركات الشعبوية في غالب الأحيان الاتفاقيات التجارية الدولية مثل NAFTA أو TPP، مشيرين إلى أنها تضر بالعمال المحليين وتفقد الدول السيطرة على اقتصادها. ولتقليل الواردات وحماية الصناعة المحلية، تدعو الشعبوية إلى فرض رسوم جمركية عالية على المنتجات الأجنبية بهدف تعزيز الإنتاج المحلي وزيادة فرص العمل.
وتدعم الشعبوية السياسات التي تشجع على الاستثمار في الصناعات المحلية من خلال تقديم حوافز مالية ودعم حكومي. وغالبًا ما تدعو الحركات الشعبوية إلى سياسات صارمة بشأن الهجرة، مثل بناء جدران أو تقييد الهجرة. وترى أن التحكم في الحدود هو عنصر أساسي للسيادة. وتدعي الشعبوية أن إغلاق الحدود يقلل من المخاطر الأمنية ويحمي السكان المحليين من التهديدات الخارجية. ويمكن أن تؤدي السياسات الشعبوية إلى توتر العلاقات مع الدول الأخرى وتقليص التعاون الدولي مما يؤثر سلبًا على التجارة الدولية والتحالفات السياسية.
ويميل الخطاب الشعبوي إلى تقسيم المجتمع إلى “نحن” و”هم”، مما يزيد من الاستقطاب والانقسامات الداخلية. وتسعى الشعبوية سعيا لإعادة التركيز على مصالح المواطنين العاديين، مما قد يؤدي إلى سياسات أكثر شمولية وعدالة.
وتشجع الحركات الشعبوية المواطنين على المشاركة في العملية السياسية، مما يزيد من التفاعل بين الجمهور والحكومة. وتدعو الشعبوية تدعو إلى الحفاظ على القيم والثقافة الوطنية، مما يعزز الهوية الوطنية والشعور بالانتماء. وتركز السيادة الثقافية على السياسات التي تركز على الحفاظ على اللغة والثقافة المحلية بإسهامها في تعزيز السيادة الثقافية.
و يشدد الكاتب أن الدول تحتاج إلى تطوير سياسات مبتكرة تعزز من سيادتها وتحقق التوازن بين المصالح الوطنية والدولية وعلى أهمية السياسات المستدامة التي تتيح للدول التكيف مع التحديات البيئية والاقتصادية مقترحا أن تكون السيادة مفهوماً مرناً يمكنه التكيف مع التغيرات العالمية والتكامل مع السياسات الدولية.
[1]Carl Raschke. Sovereignty in the 21st Century: Political Theology in an Age of Neoliberalism and Populism