دراسة السلوك الإنساني علميا. الجزء الثاني
بقلم: ذ. المعانيد الشرقي ناجي
يشكل النمو النفسي مجموع التغيرات الجسمية والفيزيولوجية التي تطرأ على الأطفال من حيث الطول والوزن والحجم والتغيرات العقلية المعرفية والوجدانية، ثم التغيرات السلوكية الانفعالية والاجتماعية التي يمر بها الفرد في مراحل نموه المختلفة. لذلك، سنحاول الإجابة على الأسئلة التي طرحناها في الجزء الأول من مقالنا، بحيث نذكر بالسؤال الأول كما يلي:
ما طبيعة سلوك الطفل؟ وكيف يُنتج الطفل سلوكاته؟
لماذا يَسْلُكُ الطفل هذه الطرق لإنتاج سلوكاته التي يُبلورها في إطار أفعال؟ ما طبيعة هذه الأفعال؟ هل تدخل في إطار التعزيز أم الرفض؟
للإجابة على السؤالين الأول والثاني يتطلب الأمر منّا وصفاً دقيقاً وواقعياً لما يقوم به الطفل أي؛ وصف سلوكه من خلال أفعاله. والإجابة على السؤال الثالث تتطلب البحث عن الظروف التي تعتبر مقدمات سبقت السلوك ورافقته ويؤدي فهم السلوك إلى التنبؤ به مسقبلاً وبالتالي التحكم فيه. فإذا تمكنا مثلاً من معرفة السلوكات المنحرفة، وعرفنا أن بعض الأطفال الصغار ما بين سن السابعة والثامنة عشرة ينحرفون كثيراً مما يُوقعهم في مشاكل مع محيطهم (المجتمع)، واكتشافنا لماذا ينحرف هؤلاء الأطفال، فإنه يمكننا التنبؤ بالسلوكات المنحرفة في الفرد عموما بشكل دقيق وعلمي. وبالتالي أمكننا التحكم في طبيعة السلوك الذي ينتجه الأطفال والتحكم فيه باتخاذ مراحل وخطوات للوقاية والعلاج، عبر خلايا التتبع والإنصات داخل المؤسسات التعليمية المنوطة بتقديم السلوك المرغوب وتعزيزه ودحض السلوك المرفوض وتقويمه بآليات التصحيح والمواكبة.
تقوم دراسة سلوك الطفل في مراحل نموه المتتابعة على نتائج البحوث العلمية القائمة والتجارب العيادية والإكلينيكية الخاضعة لكل ما هو علمي بالأساس. وتتناول أغلب البحوث في علم النفس، دراسة سلوك الأطفال ونموهم الطبيعي في إطار العوامل الوراثية والعضوية التي تؤثر فيهم. كما تستحضر هذه الدراسة النفسية العلمية العوامل البيئية كمحيط عيش الأطفال؛ أو ما نسميه المحيط السوسيوثقافي للأفراد، دون إغفال دراسة أساليب وأشكال التوافق الاجتماعي والانفعالي والعوامل المؤثرة في هذا التوافق.
إن إنتاج أنماط مختلفة من السلوكات لدى الأطفال يُعزى بالأساس إلى النضج على مستوى العمليات العقلية والوجدانية، وقد تحدث عالم النفس السويسري جان بياجي بهذا الخصوص عن المرحلة ما قبل عملياتية وما بعد عملياتية، حيث يتمكن الطفل من توسيع إدراكاته تبعا للمحيط والأفراد الذين يشكلون مجال القرب بالنسبة للطفل وطبيعة تكوينهم ومستواهم المعرفي. نحن نعلم كمدرسين بأن التعلم هو التغيير الذي يطرأ في السلوك نتيجة للخبرة والممارسة، ويتعلم الأطفال بشكل مُستمر الجديد من أنماط السلوك كلما وجدوا المُدرس الذي يهتم بفضولهم المعرفي ويضعه على مشرحة التحليل والقياس عبر آليات التفسير والفهم من خلال الاقتراب من وجدانهم وطرد الغرابة من جنبات الصف وتعويضها بالألفة حتى يعتاد الأطفال ويستأنسون بمعلمهم أولاً وبالمحيط الذي يضمهم.
تتضمن العملية التعليمية التعلمية التركيز على النشاط العقلي الذي يُمارس فيه الطفل نوعاً من النشاط من أجل اكتساب خبرات في شكل قُدرات قابلة إلى أن تُصرَّف إلى مهارات لمواجهة جمهور أو عائلة من المُشكلات تمكن الطفل من الاعتماد على ذاته وتمرنه على تكوين شخصيته بشكل تتحدد معالم بناء الوعي بالذات وبالمحيط لتحقيق التخارج ( Extériorisation). وهو الأمر الذي طرحه وتحدث عنه الكثير من فلاسفة الوعي أكان هذا الوعي فلسفيا أم نشاطا عقليا مشروطا فيزيولوجيا أم تيارا حيوياً كما هو الحال عند هنري برغسون.
يتفاعل كل من النضج والتعليم ويؤثران معاً في عملية النمو، فلا نمو بلا نضج ولا نمو بلا تعلم. وخير مثال على ذلك، فعل الكلام عند الطفل، فهذا الأخير لا يستطيع أن يتكلم إلا إذا نضج جهازه الكلامي وإلا إذا تعلم الكلام من أقرانه ومحيطه.
يصبح الطفل أكثر وعيا باستقلاله الجسدي وأقلُّ حاجة للوجود بالقرب من أمه في مراحل نموه الأولى قبل ولوجه المدرسة. وبعد أن يلج المدرسة يشرع في تلقي المعارف ممزوجة بأساليب تربوية تمكنه من أخذ السلوك المدني الذي يقذف به عبر مراحل التدرج الدراسي نحو تحمل المسؤولية، لذلك يعتبر المعلم خلال عملية التدريس القائد الأول لسفينة الدرس حتى يرسو بها في شطآن الأمان.
لا سبيل لخلق جيل متعلم ومُتشرب لأسس التربية إلا عبر التمكن المعرفي لأساليب التربية عبر استدماج نُظمها في سيرورات العملية التعليمية التعلمية بطرق تمتح من مختلف حقول وفروع علم النفس ومدارسه المختلفة وفق منهجيات مُعاصرة يكون فيها المدرس والتلميذ طرفان أساسيان والمعرفة تكمل المثلث الديداكتيكي بأبعاده الأساسية ليبلغ التعلم مداه الأقصى.
يتبع…