دور الفلسفة في تكوين الفكر النقدي.
ذ. المعانيد الشرقي ناجي – المغرب
يتساءل كثيرون عن دور الفلسفة في علاقتها بتكوين الفكر النقدي وتعلم آليات النقد عبر إقامة المعنى والجدوى من التفلسف عموما، بالرغم من أن من يتساءل ليس غريبا عن حقل الفلسفة، بل يقيم داخلها وينتعش بفكرها ومفاهيمها التي تتساوق حينا وتتكامل وتتنافر حينا آخر ليس اختيارا منها أو من روادها، بل لتأسيس خطاب يكون فيه النقد قد بلغ مداه.
ولذلك، ينبغي تأسيس رؤية فلسفية بمعية المفاهيم داخل حقل الفلسفة لتحديد معنى الفلسفة أولا ثم معنى النقد ثانيا لكي نفرز الغاية من ممارسة النقد وتعلمه عبر التفلسف الذي لن يكون سوى العمل بأدوات فعل التفلسف، لتسعفنا العبارة ونخرجها من ضيقها إلى أن تجد مكانها المنطقي داخل خطاب عقلاني يهدم الخطاب الهش ويبني على أنقاضه نصا نقديا مثينا، يُقَعدُ على أرض صلبة تُدعى اليقين.
ولما كان الأمر بهذه الطريقة في اتباع آليات للتفلسف، فلن نستمر في الكتابة ما لم نطرح الأسئلة الموجهة لتبيان الغاية من الفكر النقدي على وجه الخصوص، ودور الفلسفة في تكوينه.
ما الفكر النقدي؟ وما علاقتهُ بالفلسفة؟
وكيف يمكن للفلسفة أن تعمل على تكوين الفكر النقدي؟
قبل أن نخوض في دور الفلسفة في تكوين الفكر النقدي، لا بأس بأن نُقدم تعريفا للفلسفة ولو بشكل مبسط، الفلسفة اشتقاقا هي محبة الحكمة، بينما اصطلاحا، نجد لها عددا كبيرا لا حصر له من التعريفات بقدر عدد الفلاسفة عبر تاريخها الطويل، لكن سأكتفي بتعريف جامع نسبيا للفيلسوف إمانويل كانط، حيث عرفها بأنها ” علم العلاقة بين كل المعارف والغايات العُظمى للعقل البشري.” وما دامت الفلسفة هي علم العلاقة بين كل المعارف في ارتباطها بالعقل، فلن يكون خطابها إلا عقلانيا منطقيا، والعقل بهذا المعنى يشتغل على عقلنة الخطاب وجعله مفهوما، بحيث يبلغ إقناع المتلقي بآليات منطقية لن تخرج عن الدهشة والشك والتساؤل.. ولما كانت علاقة الفلسفة بالنقد تتحدد في آليات التلفسف المذكورة آنفاً، فلن نجد من سبيل إلى إقامة العلاقة بين الفلسفة ودورها في تكوين الفكر النقدي إلا بتعرف النقد وتحديد مميزاته وغاياته وطرق ممارسته، لأنهُ ليس من المنطقي أن نطلب من عامة الناس ممارسة التفلسف، بل هو حرفة أو مهنة من وجد له إقامة جبرية داخل الغابة السوداء ( الفلسفة ) بتعبير الفيلسوف الألماني الوجودي المعاصر مارتن هايدجر.
إن النقد ممارسة فكرية عقلية منطقية تستوجب النباهة الفكرية واستعمال فكر الفكر لقراءة ما بين السطور في الخطاب الموجه للنقد. وهذا الأمر، يجعل من النقد آلية هدم وبناء من جديد، بمعاول الحفر التي تتكون من الدهشة أولا والشك المنهجي ثانيا، وثالثا طرح التساؤل المبني على إقامة المعنى والجدوى من النقد. إن العلاقة بين الفلسفة والنقد الفكري علاقة ذات طبيعة تلازمية، فلا بناء فكري من دون نقد، فالفلسفة منذ نشأتها مع اليونان بدأت بالنقد، وتم فرز خطاب الميتوس على خطاب اللوغوس، وبدأ نمط جديد في التفكير يتجاوز السابق ويبني الحاضر ويتطلع للاحق وما قد يأتي من إشكالات..
والنقد بمعنى من المعاني أيضا، هو إعادة إنتاج خطاب جديد على حساب خطاب أصلي، يتم تجاوز أفكاره بالوقوف على طبيعة بنائه وزوايا النظر التي تحيل على معناه ومضمونه. النقد أعتبره حفرا أركيولوجيا في النص، وإعادة تأسيسه وبنائه بجهاز مفاهيمي رصين يعطي للمنطق أولوية خاصة في تماسك بنياته بحيث يصير سورا رصينا صعب التصدع والإنهيار.
لا يمكننا أن نحصر النقد في مجال معرفي محدد، بل كل الأجناس الأدبية الأخرى تشتغل بالنقد، غير أن موضوعنا هذا، يفرض علينا التقيد بمفاهيمه، حتى نتمكن من تحديد دور الفلسفة في تكوين الفكر النقدي، ذلك أن الفلسفة نصبت نفسها سدا منيعا ضد الجاهز، وهي تؤمن بأن لا كيانات راسخة داخلها بل تطبعها الصيرورة على الدوام، والفكر النقدي بهذا المعنى هو إقامة التمايز بين السذاجة والتأمل، والخروج إلى دروب التفلسف دون إيمان راسخ بأن هذه الفكرة دائمة، بل كل ما ينتجه الإنسان من عمل، فهو موجه للنقد أساسا.
تلعب الفلسفة أيضا دورا هاما في تكوين الفكر النقدي، بإيمانها العميق بأن لكل عصر من العصور إشكالاته الخاصة، ولما كان الأمر كذلك، فالتفكير النقدي يبقى رهانا أساسيا لمعالجة كل إشكال على حدة، دون نسيان ربط الفلسفة بالواقع المادي الذي تتشكل مواده الطبيعية وفق المرور من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، عبر عقلنة أدوات الإشتغال لبناء الخطاب النقدي.
هكذا تستطيع الفلسفة تكوين الفكر النقدي عبر ممارسة التفلسف بأدواته المعروفة؛ الدهشة، الشك، التساؤل، ثم الوعي بالذات وبالعالم والفعل فيهما بعقلانية ومنطق.
والفلسفة وهي تعلمنا التفكير النقدي، لا تؤمن بكيانات دائمة أو مفاهيم ثابتة، بل تضع نصب أعينها بأن النص كيفما كانت طبيعته، فهو إنتاج للمعنى و يجب إعادة النظر في هذا المعنى لصناعة معنى المعنى أو الجدوى من إنتاج الخطاب وفق ما يطرحه الواقع الإنساني من تحديات.