نيتشه وأبيقور
الجزء الثالث
ذ. المعانيد الشرقي ناجي
ملحوظة: هذه السلسلة من المقالات، هي مقدمات لمؤلف ملغوم بالتعبير النيتشوي.. قريب الصدور..
ليست الفلسفة بالنسبة للفيلسوف الفيلولوجي فريدريك نيتشه خلودا للراحة والإسترخاء الفكري، بل هي على النقيض من ذلك، علم مرح وفي المناطق الباردة وعلى قمم الجبال، وقد أكد على ذلك في أكثر من مناسبة حين ربطها بالأعالي، وستجدون ذلك في كتابه الرائع ” هكذا تكلم زرادشت ” والضبط في الجزء الرابع منه وتحديدا في الأختام السبعة حينما قال: ” لقد حلَّقتُ آلاف الأميال لكل ما يُعرف بلغة الشعر.” لقد احتفى نيتشه بالشعر والموسيقى واعتبرهما الحياة بكثافة تعبيرا عن مرح الجسد وامتداده للخارج عبر الرقص على أنغام موسيقى فاغنر، بالرغم من انقلابه على صديقه الموسيقار هذا، في أواخر أيامه حين حل به المرض والوهن، دونما أن أدخل في حيثيات ذلك.
وبالرجوع إلى علاقة نيتشه بأبيقور ودائما في إطار فلسفة اللذة والحياة السعيدة التي يغذيها الألم، سنجد نيتشه انقلب على فلسفة أبيقور رأسا على عقب، خصوصا لما ربط اللذة وقاسها بقيمة الأشياء، أو الألم الذي يصاحب اللذات عموما، هي رؤى رديفة لحالات فكرية سطحية وساذجة، وهي تُحايت أخلاق الضعفاء والقطيع بشكل عام، بينما ينظر نيتشه إلى هذه الأنساق الفلسفية نظرة ازدراء وشفقة، خصوصا لما ألقى عليها نظرة من فوق؛ من أعالي القمم والشموخ، تلك هي نظرة الفيلسوف الذي يمقت قيم العامة والدهماء، لأن في جوهرها خنوع وخضوع لقوى أخرى تسيطر على الوضع برمته من خلال فرض قيم بديلة تم استقدامها من عالم مثالي يظن أصحابه أنه بمثابة شجرة أنساب تجد تحققها في جذور الميتافيزيقا، هذه الأخيرة تتباهى بأنها منفلتة من قبضة الأصابع، وتعتبر نفسها ازدادت مكتلمة الأغصان والأركان منذ سقطتها الأولى، وأن لا أحد بإمكانه زحزحزة جذورها التي تستند عليها منذ أن قهرت وأبهرت خُدام ديونيزوس. ( أفلاطون وسقراط وبعضا من فكر أرسطو..). إن القيم انفلتت من قبضة أبيقور في الوقت الذي لم ينتبه بحسب نيتشه أنها وُضعت على سلم تراتبي، خير / شر ، حقيقة / سيمولاكر ( نسخة ) وهكذا..
إن الجينيالوجيا منهج استند عليه نيتشه للكشف عن ضعف الحقائق التي أبهرت الإنسان والفلاسفة القدامى، دون الإكثرات منهم على أنها أوهام، بل جيش متحرك من الإستعارات والتشبيهات نسي الإنسان أنها كذلك. يقول نيتشه في كتابه ( جينيالوجيا الأخلاق ): ” إن الجينيالوجي طبيب ومُشرع وفنان، فما أن يسمع بالفضيلة والخير، حتى يستحصر استراتيجيات الهيمنة.” هكذا هي القيم التي انفلتت من قبضة المعاصرين والقُدامى ومنهم أبيقور، هي بكل معنى، تقطن داخل عالم انسيابي ونسبي منفلت من التحديد وهارب من قبضة الجدوى والغاية، بل المعنى حتى. إن نيتشه بنقده للقيم على أساس اللذة أو الهروب من بعبع الميتافيزيقا، هو خطأ جسيم وفاذح، لأنه بكل بساطة، كانت الحقيقة في الفلسفات الكلاسيكية جوهرا ومعنى دقيق، وهناك من اعتبرها غولا أخلاقيا، غير أن زمننا الحاضر بالتعبير النيشوي للمفهوم، يعتبر الحقيقة قوة، بل إرادة للقوة، فمن يمتلك هذه القوة؛ أعني المعرفة والعلم، يسيطر على العالم بأسره، وقد تبين لنا ذلك عبر هذا التدقيق المفاهيمي من خلال إحكام القبضة على العالم من لدن قوة علمية وقطب أحادي وفي كثير من مناحي الحياة، فمن يحتكر القوة ويقيم داخلها، يفرض قيمه على الآخرين، وليس القيم فقط، بل مجالات كثيرة يتم فيها أخذ قصب السبق..
يقول نيتشه بهذا الخصوص، ” هناك إمكانيتان في هذا الوجود ومنذ القدم، وتتمثل في أن نحابي القدامى فيما ذهبوا إليه ونلوك مفاهيهم ونهضمها رغم عسر الهضم، لكن زمننا الباهر أتاح لنا إمكانية ثالثة، أن نرقص. ”
هكذا انقلب نيتشه على أخلاق اللذة عند أبيقور، واعتبرها عسرا في الهضم، وأن الفيلسوف الحقيقي، هو ذاك الذي يجدد مفاهيمه في كل لحظة وحين عبر خوضه غمار التفلسف بضريات المطرقة، حيث قال في هذا الصدد: ” أنا لست إنسانا، أنا عبوة ديناميت، أحترق وآكل نفسي، رماد كل ما أتركه، إني لهيب حقاً. ” إن الفيلسوف بالتحديد النيتشوي، هو الذي يرسل ذخيرة حية إلى أعتى خصومه، ويستطيع أن يقذف جميع الغرائز الشريرة خارج ذاته، ويحتفظ بالباقي لنفسه ويدعو البقية للصمت، الذي يعدوه الإنفجار المدوي من أجل تفتيت الأنساق البالية وتأسيس متون فكرية صلبة على أنقاضها عسيرة التصدع، وفق أسلوب جذري وكتابات شذرية مكتفة المعنى عميقة الغاية والجدوى.
يتبع..
هوامش:
* هكذا تكلم زرادشت، نيتشه
* إرادة القوة، نيتشه
* جينيالوجيا الأخلاق، نيتشه