نيتشه وأبيقور
الجزء الثاني
ذ. المعانيد الشرقي ناجي
سيرا على منهج أبيقور وضده فيما سيأتي من الأجزاء في هذه السلسلة بحسب فلسفة نيتشه، يقيم هذا الأخير تمايزا بين ما نريده وما يُراد لنا في هذا الوجود، إن الإرادة بهذا المعنى، هي إرادة القوة ليس إلا، إرادة الذات المتفوقة المتعالية على نفسها حتى في أعتى لحظات انحطاط الذات وسقمها، لأن الألم ليس دائما، بل لحظيا وينتج عنه الإبداع، فلولا الألم ما شعر الإنسان باللذة، وأن اللذة التي احتفى بها أبيقور كانت نتيجة نفيه للموت في ظل وجوده داخل عالم الحياة، غير أن أبيقور انتصر بحسب نيتشه إلى نبذه للأفكار المثالية التي تنفي الوجود المادي وتعتبره نسخة من عالم فوقي مثالي كرس وجوده أفلاطون.
إن الحياة السعيدة ليست هي تلك التي نشعر فيها بفرح وحبور عابرين، بل هي تلك التي تتولد من المعاناة في أقسى خطورتها، وأن الذات التي تنتصر للحياة الفردية بإمكانها أن تنجب القوة عبر شحذ وتسليح الإرادة لمواجهة أخلاق الإنحطاط وكل ما هو سافل ومنحط يمثله السواد الأعظم من الرعاع، يقول نيتشه في هذا الصدد: ” إن الرعاع تفوح منهم رائحة نتنة. ” إن الرعاع وبتوصيف دقيق، يشبهون الدهماء والقساوسة لأنهم ينفتون سمومهم في كل بقعة من الأرض داستها أقدامهم. وعلى الإنسان الأعلى الإنتصار على ذاته دوما ودائما، ولا يخضع لأخلاق الشقفة على الإطلاق، لأنها تجعل منه كائنا يمثل مرضا جلديا للأرض.
بنفس الطريقة نعثر على أشخاص يعانون ويشعرون بضيق كبير إزاء اليومي الرتيب الذي تفسده شخصيات سياسوية مثلا، تثير لدى الشعوب المتخلفة الإحساس بالقرف المنوم الذي يخلقه العدم والهدوء أثناء السبات العميق، باختصار، يعتبر نيتشه الأشخاص الأقوياء على ذواتهم انتصارا على الألم، الذي لم ولا ولن يكون سوى الخير الأسمى، هو أم القيم، هو حتما أكثر الأشياء التي يمكن بلوغها إيجابية، هو الإيجابي نفسه.
ففي كثير من الأحيان نجد رجلا يمارس السياسة ليس كفعل نبيل يقتسم بموجبه تدبير الشأن العام بعقلانية، لكن من أجل أن يتقوى على حساب الحشود وينفر منها ويعتبرها متلاشيات ويتخندق داخل القطيع الميسور لكنه متعفنا إلى أبعد الحدود، القوي بذاته ليس هو هذا النمط من الرجال، بل ذاك الذي لا يعتدي على أحد، إنه الشخص الذي يتألم لذاته وللآخرين، حتى ينتصر على إرادة القبح الجماعي الذي يصنع داخل دهاليز السياسة النفعية لزمرة من الأنانيين الذين تحركهم نرجسيتهم داخل مملكة النفاق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
هكذا جعل نيتشه من أبيقور ذلك المعلم الكبير للحكمة الوجودية، لقد كان مثله يتفلسف بجسد مريض، ولو أن المرض حسب نيتشه، هو فترة نقاهة الجسد كي يستعد لخوض أكثر المعارك ضراوة على الأرض. إن قراءة فُصولٍ من شذرات نيتشه، تكتشف أنك بصدد حكيم يصعق بضربات المطرقة، بما يتركه في ذات القارئ النهم الناقد، من مفاهيم تمثل ذخيرة حية، حيث قال ذات مرة: ” إن فلسفتي مثل السحابة، علَّت واحلولكت، ولا محالة سترسل البرق فيما سيأتي من أيام.” إن نيتشه ذهب في فصول حياته على منوال أبيقور وبستانه الذي أسسه واتخذ منه فصلا دراسيا للعموم، حيث كان نيتشه كثير التجوال بين سانتا ماريا وباريس الأماكن المفضلة لديه، التي تطل على الماء والإخضرار، وكان مهووسا بالكتابة ليلا لأن الصباح يكون بالنسبة إليه فترة استراحة، وبعدها يكون قد أعد للقراء موادا دسمة يجدون فيها ضالتهم، وهي الكتابات التي كان يُطلق عليها، فلسفة ما بعد الظهيرة.
كما أن نيتشه لا يتخذ له رفاقا من الدهماء، بل كان يوصي برفاق من ذكاء متقد ووهاج، حيث قال: ” إن الرفيق لا يتخذ له رفاقا إلا إذا كانوا مثله مبدعين، لا يريدهم قُطعانا مؤمنين، بل يريدهم أقوياء أشداء يحملون معاولهم ورفوشهم فوق أكتافهم يكونون مستعدين مهما دعاهم للهدم. ”
يتبع..