الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

قضية الصحراء بين التدبير
المخزني والمشروع الوطني التحرري

 

 

يوسف بوستة/المغرب 

 

 

لقد شكلت القضية الوطنية منذ أواسط السبعينيات قضية اختلاف بين طرح الطبقة الحاكمة المهادن والمتخادل في استكمال واقرار السيادة الوطنية في الشمال والجنوب والشرق، وبين طرح الحركة الاتحادية الأصيلة، ومن بعدها حزب الطليعة الديمقراطي الإشتراكي وحزب فدرالية اليسار الديمقراطي كامتداد لحركة التحرير الشعبية، من خلال ربطه الجدلي بين السيادة الوطنية والسيادة الشعبية. فرغم القمع والاستبداد والتآمر الداخلي والخارجي، فقد ظل هذا الموقف الوطني التحرري صامدا ووفيا دون أن ينخدع لشعارات “البؤرة الثورية” التي رفعها رفاقنا الأوائل قبل أن تتم تصفيتهم بعد دخول النظام الجزائري على الخط، وتحويل نضال الشباب الصحراوي ذو العمق الوطني التحرري، إلى حركة انفصالية مدعومة من عدة دول في المعسكر الشرقي، على رأسها الاتحاد السوفياتي، وكانت الرسالة التي وجهها الشهيد عمر بن جلون الى حزب لينين، ردا على الدعم اللامشروط لحركة الانفصال في الصحراء ووضعها في مصاف حركات التحرر العالمية، في غاية الوضوح للموقف الثوري التحرري، باعتبار دعم حركة انفصالية في الصحراء خطأ استراتيجيا يستهدف حق الشعب المغربي في تقرير مصيره، و يشكل عرقلة أمام استكمال مهمة التحرير.

 

هذه المهمة التي أجهضها نظام الحكم نفسه منذ الخمسينيات من خلال محاصرة وتصفية جيش التحرير بالجنوب، واختياره لاستراتيجية نقيضة للتحرر ومعادية للوحدة الوطنية من خلال مشروع قرار التقسيم الذي تم التفاوض بشأنه مع الاحتلال الاسباني بخصوص الصحراء، والتسليم الكلي لجزر الخالدات، والاتفاقات السرية التي تمت مع نظام بومدين بخصوص المناطق الشرقية التي ظمها الاستعمار الفرنسي الى الجزائر قبل الحماية، مقابل تجفيف منابع المعارضة المغربية بالجزائر.

 

كل ذلك من أجل الاعلان عن المسيرة الخضراء وتحويل الهزائم الى بطولات لتكتب بمداد من فخر للطبقة الحاكمة، وهو ما عارضه الشهيد عمر كذلك واقترح البديل التحرري عبر حرب التحرير الشعبية، الموقف الذي كلفه حياته.

 

إن تعقد هذا الملف وظهور مواقف متعارضة بين مساند ومعارض في الداخل والخارج، بل وحتى وسط قوى اليسار الجديد، إنما جاء نتيجة تأرجح مبادرات الحكم واستفراده بالقرارات ذات الصلة، وأصبح الموقف الوطني التحرري يوضع في مصاف “التحالف المخزني” كما هو الشأن لموقف حركة 23 مارس والحركة الاتحادية الأصيلة وامتدادهما في حزب الطليعة سابقا و فدرالية اليسار الديمقراطي حاليا، في حين ظل موقف حركة الى الأمام ومعها بعض التنظيمات اليسراوية، بمثابة “الموقف الثوري” لا لشيئ سوى كونه معارض لموقف النظام، وتم التسويق الخارجي والدولي بشكل واسع للطرح الانفصالي، مستغلا ضعف وأخطاء الديبلوماسية الرسمية للدولة وعمق من تبعيتها للدوائر الامبريالية، مما أفقدها القدرة على اتخاد المواقف الضرورية لتدارك أخطاء الماضي والدفاع عن الجدار الأخير.

 

وهكذا جعلت الولايات المتحدة الأمريكية من المغرب حليفا استراتيجيا في تنفيذ سياستها عربيا وإفريقيا منذ عقود، خاصة إبان الحرب الباردة، مما دفع بالعديد من حركات التحرر الوطني في افريقيا حتى بعد وصولها الى السلطة في الطرف المناهض لحق المغرب في صحرائه، في حين كان النظام الحاكم حريصا على كسب ثقة “الصديق الوفي” بالسير في الخط المعادي لقوى التحرر داخليا وخاجيا، والتذكير باستمرار بكونه أول من اعترف باستقلال أمريكا، و”بالعلاقات الجيدة” مع بعض الجماعات اليهودية من أصل مغربي رغم نفوذها الضعيف بالمقارنة مع الجماعات الأخرى، في حين أن البيت الأبيض كيفما كان الرئيس الذي يمسك بمفاتيحه، لا يهمه كل ذلك التاريخ، بقدر ما تهمه المصالح السياسية والاقتصادية لبلده، ولا يتوانى في استعمال كل الطرق والوسائل لتحقيق ذلك، إرضاء لمجموعة الضغط صانعة القرار السياسي المعادية بطبيعتها لمصالح الشعوب ولكل قوى التحرر في العالم، وقد تأكد هذا الموقف بالملموس في عدة مناسبات آخرها مشروع القرار المتعلق بتوسيع صلاحيات المينورسو، ومع ذلك سيستمر الاعتقاد بأن أمريكا كانت وستبقى الحامي الدائم لحقوق المغرب في الصحراء، بالرغم من كل التوترات التي تحصل بين الحين والأخر.

 

إلا أن المثير في الموضوع هو الارتباك الذي أصاب النظام السياسي وهو المسيج بالقرار الأممي رقم 690 الصادر في أبريل 1991 الذي على أساسه جاء اتفاق الإطار أو ما سمي بالخيار الثالت المحتفى به، دون أن يلغي بالمطلق حق “تقرير المصير” المؤجل الى حين، وبذلك انقضت فترة الإنتشاء بالتنويه الذي لقيه من طرف حلفائه الغربيين وثنيهم على التجربة المغربية “الفريدة” وسط إعصار الربيع العربي، ذلك الارتباك لم تسلم منه الأحزاب السياسية المخزنية القديم منها والجديد، المنهمكة في الإعداد لكعكة الانتخابات، وهي تخوض معارك دونكشوطية بين بعضها البعض، مصوبة منصات اطلاق المنشطات الصحفية كل صباح في كل الإتجاهات، وبتصريحات وتصريحات مضادة جعلت القارئ والمتتبع في حيرة من أمره، فلا حكومة واضحة المعالم ولا برلمان بأغلبية طبيعية مساندة، ولا معارضة برلمانية حقيقية منتقدة.

 

وبمجرد ما طلعت علينا الإدارة الأمريكية بمشروعها المثير للجدل تغير الوضع الداخلي بشكل سوريالي، فلم تعد هناك لا أزمة اقتصادية خانقة، ولا عفاريت وتماسيح يهدفون إلى إجهاض التجربة المغربية الاستثنائية، فرفعت الأقلام وجفت الصحف وتوحد الجميع لنصرة القضية الوطنية، واتجهت كل الشتائم الموجه لبعضهم البعض، موحدة لشتم المشروع وصاحبه، وانطلقت الجذبة من جديد، وبدأت الزيارات المكوكية في كل الاتجاهات، إعلانا لحالة استنفار واسعة في الأوساط الحزبية والنقابية والجمعوية والشعبية لإعداد العدة للرد.

 

وهكذا دعا البلاط الملكي وبشكل مستعجل إلى حشد العديد من الأحزاب من كل طيف ومن جميع الاتجاهات، حتى تلك الكائنات التي لم نسمع عنها من قبل، جيء بها لتعبر عن وطنيتها الغير المشكوك فيها، وهذا طبيعي أن يعبر الجميع أحزابا وحكومة وشعبا عن قوة الانتماء للوطن كلما كان الخطب جللا، وهو كذلك بالفعل ومنذ عقود، لأن ما حيك وما يحاك ضد الوطن والشعب في الداخل والخارج بما فيها أخطاء نظام الحكم نفسه، يستدعي حالة استنفار حقيقية، لا يجب أن تتوقف إلا بتعبيد الطريق بلا رجعة لوضع الوطن والشعب في مأمن من كل المؤامرات
.الامبريالية والصهيونية والرجعية، وكل مظاهر الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

 

وبمجرد ما تم التراجع عن الصيغة الاولى للقرار أنطلقت تباشير أكذوبة “الانتصار المغربي” في التهليل على نطاق واسع وسادت أجواء النشوة للإحتفال بالنصر في معركة وهمية، لتعود الصراعات السياسوية والحزبوية الى الواجهة لإلهاء الشعب من جديد في مسلسل حلقاته قصيرة هذه المرة، عنوانه “الاستقالة الحكومية حقيقة أم مزحة”.

 

إذا كان الوطن يتعرض لمؤامرات دولية وإقليمية تنازع في صحرائه الغربية، واستمرار الاحتلال لمدنه وجزره في الشمال، نتيجة الأخطاء القاتلة لنظام الحكم عبر عقود وتزايد الأطماع الإقليمة والدولية، فإن الشعب المغربي وقواه الديمقراطية، قد تعرض وما يزال لمؤامرات تستهدفه حقه في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ولا يستقيم الأمر أن نطلب من القوى الوطنية المغيبة قسرا عن تذبير ملف القضية الوطنية، من الشعب الأعزل والمسيج بأغلال الاستبداد والظلم الاجتماعي والاقتصادي، أن يتجندوا جميعا لحماية وطن أو أجزاء منه، وهم فاقدين فيه لأبسط حقوق المواطنة والمساواة، فلا قيمة لوطن بلا شعب حر، شعب لا يتمتع بحقه في تقرير المصير، إنها الحقيقة التي يدركها الخصوم في الداخل والخارج، ويستغلها دعاة الانفصال لتبرير اختياراتهم بدعوى رفضهم العيش في كنف الاستبداد، وتشبتهم بحق تقرير المصير، وهو حق مشروع لكل الشعوب في كل بقاع الأرض وطموح لكل الأحرار في العالم، وعندما يتلق الأمر بقضية وحدتنا الترابية نصاب بالهلع كلمنا سمعنا هذا المطلب الحق، دون أن نعطيه مدلوله الحقيقي ونسعى إليه بأنفسنا.

 

إن حق تقريرالمصير للشعب المغربي، مطلب ظل يراوح مكانه لأكثر من نصف قرن، وشكل محور الصراع السياسي ببلادنا بين قوى الاستبداد وقوى التحرر، وكان ولا يزال السبيل الوحيد لحل النزاع المفتعل بلا رجعة وردع كل الأطماع الإقليمية والدولية، وذلك بإقرار السيادة الشعبية من خلال دستور ديمقراطي وانتخابات حرة ونزيهة، تفرز مؤسسات تشريعية حقيقية وحكومة قوية بمشروعيتها الشعبية والديمقراطية، مما سيكسبها القدرة والشجاعة للدود عن وحدة الوطن وتحرير ما تبقى من الأجزاء لاستكمال السيادة الوطنية.

 

هذا هو الطريق القادر على خلخلة أطروحات الانفصال المعلنة منها أو المضمرة، وزرع بذور الثقة في كل أبناء الوطن الواحد لبناء دولة وطنية ديمقراطية، تكون فيها السيادة للشعب، عندها سينجلي الخوف من المجهول بتغير الظروف التي أنتجت فكرة “البؤرة الثورية”، وإن أصر البعض ممن لا زال أسير تلك الأطروحة على إقرار حق تقرير المصير تحت راية “تصفية الاستعمار” في حالة قضية الصحراء، فليكن على الطريقة الدوغولية بالجزائر بالرغم من وجود الفارق تاريخيا وجغرافيا، فليجرى استفتاء شعبي لجميع المواطنين المغاربة من طنجة إلى لكويرة بمن فيهم المحتجزين في مخيمات تندوف، للتصويت على بقاء أقاليمنا الجنوبية في حاضرة الوطن أو الانفصال، بنفس الطريقة التي استقلت بها الجزائر عن فرنسا، عندما قرر الجنرال دغول في ظل تصاعد المقاومة، طرح قضية استقلال الجزائر للإستفتاء على الشعبين الجزائري والفرنسي للتخلص من العبئ الثقيل الدي خلفته الفترة الاستعمارية، ولا شك أن المتنفذين في قصر المرادية من جنرالات الحرب ستخرص ألسنهم إلى الأبد، كما أن الأطماع الإمبريالية ستنكسر على صخرة ملحمة التحرير بلا رجعة، أما الاستكانة إلى هكذا مبادرات تحت سقف القرارات الأممية، بما فيها الحكم الذاتي نفسه ذون أن يكون مقرونا باقرار السيادة الشعبية، و السعي فقط وراء استجداء من يوصفون بالأصدقاء لمباركة تلك المبادرات ليلا والتنكر لها نهارا، سيعيدنا في كل مرة إلى نقطة الصفر وانتظار الأسوأ، والمزيد من الإبتزاز والتحرش الذي لا ينتهي، فلا يمكن الإطمئنان للشرعية الدولية وحدها لحل قضية الصحراء، لأن التاريخ والوقائع أثبتت عدم مشروعية العديد من القرارات، وما تمخض عنها من تقسيم للأوطان، وتفريخ للشعوب وهو ما لا نرضاه للوطن والشعب على حد سواء، خاصة أمام التضحيات الجسام التي قدمها وما يزال الشعب المغربي على مدى قرن من الزمان.

 

وأمام قصور التدبير المخزني في إقرار السيادة الوطنية على كامل التراب الوطني، والتفافه على اقرار السيادة الشعبية، فإن معركة التغيير الديمقراطي الذي تخوضها القوى المناضلة منذ عقود وما قدمته من تضحيات جسام من أجل التحرير والديمقراطية، يفرض عليها اليوم وضع استراتيجية وطنية شعبية، وأخد المبادرة بعيدا عن السقوف التي صنعتها الشرعية الدولية وباركها نظام الحكم، في ربط جدلي بين النضال الديمقراطي والنضال الوطني كسبيل لتحرير الأرض والإنسان.

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات