الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

ذَهَبُ الحوز وذَهَبُ طاطا: زلزال وغرق 

 

 

 

د. فؤاد هراجة

 

 

 

في المغرب قد تقدم مئات المحاضرات، وتكتب مئات المقالات في موضوع غياب العدالة الاجتماعية عامة والعدالة المجالية خاصة، ولا يأبه بك صناع القرار. لكن، يكفي لكارثة طبيعية أن تكشف واقع الحال وتبدي كل سَوْءاتِ السياسات الاقتصادية والاجتماعية العوراء والعرجاء التي لاتزال في مغربنا تبحث عن طريق التنمية منذ ستينيات القرن الماضي؛ فإما أن هذه السياسات تاهت وضلت الطريق، وإما أنها أخطأت جيوب المواطنين وسلكت طريق باناما وسويسرا .

 

في السنة الماضية وقع زلزال الحوز فكشف عن هشاشة البنيات التحتية وهشاشة البنية الاجتماعية في كل من إقليم الحوز وتارودانت ووارزازات، وضع لخصته إحدى المتضررات من الزلزال حين صرحت في تسجيل مصور: الحمد لله لي وقع هاد الزلزال عندنا ولقيناكوم تعاونونا أما كون وقع عندكوم راه ماعندناش باش نعاونوكوم”. بهذه البساطة عبرت هذه المرأة عن غياب العدالة الاجتماعية وغياب العدالة المجالية وأكدت أن المغرب مغارب. لم تندمل جراح زلزال الحوز بعد، حتى باغثتنا فياضانات الجنوب الشرقي لتكتمل صورة المغرب المنسي والمهمش. أتفادى استعمال عبارة المغرب غير النافع لأنها عبارة تركها المستعمر ليوهمنا أن هذه المناطق تفتقر لأي ثروة طبيعية تمكنها من سد حاجيات سكانها، وعلى ذلك المسار الإمبريالي سارت السلطة بعد تسلمها الحكم من المستعمر.

 

إن أقاليم الحوز وتارودانت وطاطا ووارزازات ظُلِمت مرتين؛ الظلم الأول كونها لم تنل نصيبها من العدالة المجالية ومن ثم حظها من التنمية، أما الظلم الثاني فهو عدم استفادة ساكنتها من الثروات الطبيعية المكدسة تحت وفوق الأراضي في المناطق المذكورة. ويكفي أي مواطن مغربي أن يقوم ببحث بسيط عن “مجموعة مناجم” الرائدة في استغلال المناجم في المغرب وإفريقيا ليقف على الأرقام الخيالية التي تحققها من منجم كماسة للزنك، ومنجم تيزرت للنحاس، ومنجم بوزار للكوبالت أو ما يسمى بالذهب الأزرق.

 

كيف لمناطق تتوفر على مناجم ناذرة الوجود في العالم من حيث نقاء معدنها وكمية مخزونها أن تكون مهمشة وأن يعيش أهلها الهشاشة؟ فهل يا ترى هو تهميش مقصود تتستر من ورائه الشركات المستغلة لهذه الثروات حتى تبقي على هذه المناطق معزولة لا يعرف عنها المغاربة أي شيء؟ أم هو احتقار للمواطن والنظر إليه على أنه لا تستحق الاستفادة من ثروات بلاده؟

 

يكفي هنا التذكير بأن منجم الكوبالت قد بدأ بالإنتاج في المغرب منذ عام 1928، وهو المنجم الوحيد في العالم الذي ينتج هذا المعدن بجودة عالية من النقاء المنقطعة النظير، ما دفع كل شركات تصنيع السيارات الكهربائية تتهافت على اقتنائه لأنه يوفر لها بطاريات الشحن عالية الجودة، وقس على ذلك مناجم الذهب في طاطا والحوز والتي تحتوي على مخزون هائل كشف الزلزال الأخير عن بعض منه في بعض المناطق الجبلية التي تبرجت وكشفت عما تكتنزه من ذهب خالص.

 

أمام هذه المعطيات الاقتصادية كيف يمكن أن تعيش هذه المناطق البؤس والفقر المدقع والهشاشة والعزلة وغياب البنيات الأساسية؟ وكيف لم تتغلب بعد سنة على مخلفات زلزال الحوز؟ وكيف لازالت الأمطار تهدد حياة المواطنين في أقاليم تسبح فوق ثروات هائلة من المعادن النفيسة؟

 

وبالعودة إلى فيضانات إقليم طاطا يتجلى لنا حجم التهميش الذي طال هذا الإقليم رغم توفره على منجم الذهب وهو منجم تودرار الكائن بأفقر قرية بالمغرب اسمها “أنكارف” والذي تستغلة شركة “أقا غولد مايننج” التابعة لمجموعة مناجم السالفة الذكر. ومن المضحك المبكي، أن الطريق الرابط بين تودرار وإسافن وهو طريق متواضع جدا أقامته الساكنة المحلية بإمكاناتها البسيطة لتسهيل التنقل إلى سوق الثلاثاء لعلها تقتني بعض ما يقيم صلبها ويبقيها حية في بيوت بنيت من طين تلمع في كثير من الأحيان مع أشعة الشمس لاختلاطه بذرات الذهب، فيا للمفارقة!

 

إن الحديث عن إقليم طاطا وأنت في الرباط أو طنجة أو البيضاء شيء، والعيش في دواويرها شيء آخر. لذلك، مهما عبّر الناس عن مواساتهم للمتضررين من الفيضان، ومهما أبدو من تألم لحال الغرقى والمفقودين والمنكوبين والموتى، لن يدركوا حجم المعاناة في هذا الإقليم المترامي الأطراف المعزول المهمش والممتد من تغجيجت غربا إلى فم زݣيد شرقا ومن حدود إغرم شمالا إلى حدود آسا جنوبا. إنني هنا لا أنقل معلومات من ويكيبيديا وإنما أنقل ما عشته خمس سنوات بهذه المنطقة و عاينت بأم عيني حجم المعاناة والتهميش التي تعيشه المنطقة وساكنتها على كل الأصعدة. فلولا عائدات العمال بالخارج وعائدات بعض التجار بالمدن الكبرى لعاشت العديد من الأسر تحت آخر نقطة تلامس خط الفقر. بَيْدَ أنني مع كل هذا، أرفع القبعة احتراما وتقديرا لأهالي المنطقة على منسوب الوعي الذي يتمتعون به، فرغم كل الظروف التي عاشوها ويعيشونها تمكن العديد منهم أن يتفوق في دراسته ويقتحم كل الصعاب حتى التحق بكبريات المعاهد والمدارس العليا ووصل إلى مناصب مهنية عليا.

 

إن الأمطار الرعدية والفياضانات والزلازل ستبقى مظروفة ومحصورة زمانيا، كما أن خسائرها ستظل معلومة وواضحة وآنية، لكن عوامل التعرية الاجتماعية والاقتصادية التي تمارسها سلطات الفساد والاستبداد غائرة ومستمرة ومخلفاتها وخيمة وحصيلتها مخزية. فلولا تفقير المنطقة، واستغلال ثرواتها، وحرمانها من أساسيات التنمية لما كانت بهذه الهشاشة التي تُجرف فيها البيوت، وتغرق فيها الطرق، وتنعدم فيها كل وسائل الإنقاذ التي تليق بالكوارث في القرن 21.

 

و السؤال الذي يفرض نفسه، إلى متى سيظل هذا الاستغلال الفاحش للثروات دون حسيب ولا رقيب؟ و إلى متى ستظل السلطات الحاكمة تلهث وراء السمعة الحسنة عند الخارج اعلى حساب تفقير وتجويع الداخل؟ ما الذي سنستفيده من بناء أكبر ملعب في العالم ومن تنظيم تظاهرة رياضية عالمية من حجم كأس العالم لكرة القدم، والمتضررون من زلزال الحوز لا يزالون يعيشون في خيام منكوبة؟ ما الذي سنستفيده من تشييد الملاعب بملايير الدولارات والمواطنون في أمس الحاجة إلى مستشفى ومدرسة وطريق وقنطرة وحافلة…؟ متى سيشبع الأخطبوط الذي يمتص كل ثروات البلاد، ليذهب إلى سبيل حاله ويترك الثروات الوطنية للمواطنين؟ إن من الموافقات التي صادفتها في هذا الموضوع أن أصل تسمية مدينة طاطا هو الاسم الأمازيغي “أسيف ن ولت”، الذي يعني واد التوبة والذي حُرِّف إلى وُلتَةَ فتاتا ثم طاطا.

 

فمتى إذن ستتوب هذه السلطة من آفة الزواج بالمال، وتترك الذهب الأصفر والذهب الازرق (الكوبالت) والنحاس والزنك والفوسفاط وغيرها من ثروات هذا الوطن لبناء الإنسان المواطن وإقامة دولة الإنسان التي تخدم الإنسان وتتحرك من أجل إسعاده ولو كان فردا واحدا في رأس الجبل أو في آخر ربوة رمل في الصحراء. هي أسئلة مشروعة لكنها ستبقى عالقة إن نحن استسلمنا وقبلنا بهجرة أماكننا عوض هجرة خوفنا وخنوعنا، وسعينا للهجرة إلى الخلاص الفردي عوض التفكير في الخلاص الجماعي، إنه لا مناص من لحظة تعليق الجرس حتى لا يستفرد الوحش بثروات وخيرات الوطن ويرغمنا على هجرة الوطن كرها لا طوعا.

 

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات