الدولة والاحتجاجات الاجتماعية
من يريد الشر لهذا البلد؟
عبد المولى المروري – كندا
من مشكل اجتماعي بسيط وعادي.. إلى أزمة مجتمعية وأمنية معقدة!!!
كثيرة هي القضايا الاجتماعية السهلة والبسيطة والعادية التي تتوحل فجأة إلى احتجاجات بسيطة، ثم مظاهرات واسعة، ثم مواجهات عنيفة، ثم اعتقالات تعسفية، ثم محاكمات غير عادلة، لتنتهي بأحكاما قاسية بالسجن أو الحبس، ثم يتحول كل ذلك إلى قضايا انتهاكات لحقوق الإنسان، وبعدها إلى تقارير دولية ووطنية تدين هذه الأوضاع، ثم ينفجر الإعلام بين مؤيد لاختيارات وأحكام الدولة وبين معارض ومدين لها.. وهكذا..
من مشكلة اجتماعية صغيرة، إلى أزمات سياسية معقدة وكوارث حقيقية مؤسفة، واحتقان خطير ومأساوي.. والدولة خلالها تدور في حلقة مفرغة، لا هي تستطيع حل المشاكل الاجتماعية التي تسببت فيها، ولا هي تتجه في اتجاه احتواء الاحتجاجات بحكمة ورزانة حتى لا تنفجر وتخرج عن السيطرة، ولا هي تضمن للمحتجين والمعتقلين محاكمات عادلة، ولا هي تؤطر الإعلام حتى لا يؤجج الوضع ويزيد من منسوب الاحتقان والتوتر..
مناسبة هذا الكلام هو اعتقال السيدة فاطمة أحنين والحكم عليها بشهر حبسا نافذا مع الإفراج عن زوجها وباقي أفراد عائلتها.. وذلك بسبب وقوع خصومة أو شجار أو سوء تفاهم بين أفراد هذه العائلة وأحد رجال السلطة بالمنطقة التي تقطنها السيدة وعائلتها.. هذه المنطقة التي دمر فيها الزلزال منازل وبيوت مئات أو آلاف السكان.. ثم يأتي بعض مسؤولي الدولة (غير المسؤولين) ليدمروا ما تبقى من حياتهم بعجرفتهم وسلطويتهم وتعسفهم وفسادهم..
الموضوع يتعلق إذن بالأوضاع الاجتماعية القاسية والصعبة التي تعيشها أسر وعائلات ضحايا زلزال الحوز، بل إن الأمر -حقيقة- يتعلق بعدم التزام الحكومة والسلطة (الدولة) بمعالجة آثار الزلزال وفق التزاماتها وتعهداتها أمام الشعب المغربي والجهات الدولية المانحة للمساعدات، واستمرار مئات الأسر في أوضاع اجتماعية وإنسانية واقتصادية مأساوية وكارثية تحت رحمة مختلف التقلبات المناخية التي عرفها المغرب منذ الزلزال، أمطار وبرد خلال فصل الشتاء، وحرارة مرتفعة خلال فصل الصيف، مع انعدام كل المرافق الصحية ومصادر المياه الصالحة للشرب..
ليس هذا فحسب، بل صَاحَبَ هذا الوضع المزري الكثير من حالات المحسوبية والفساد والتعسف وإهدار كرامة الضحايا خلال معالجة آثار الزلزال، وحرمان المئات من الأسر من حقوقهم القانونية في التعويض وفق ما ينص عليه قانون الكوارث.. وظلت أسرٌ أخرى بأبناءها وذويها في العراء أو تحت رحمة المطر والبرد القارس أو لهيب الحرارة المرتفعة دون حماية إنسانية أو حل اجتماعي.. ورغم كل النداءات والتوسلات والزيارات والاتصالات ظلت السلطة محافظة على منهج التجاهل بالنسبة للحالات المتضررة، ومنهج المحسوبية والامتياز بالنسبة لآخرين.. ومنهج القمع والتعسف لأولئك الذين لم يطيقوا صبرا في مناسبات عديدة.. دون مراعاة لمشاعر الضحايا وأوضاعهم الإنسانية والاجتماعية. فما المتوقع من أسر تعاني كل أنواع المآسي والمعاناة، ليس بسبب الزلزال فقط، بل بسبب إهمال الحكومة وفساد السلطة وتعسف رجالاتها ومسؤوليها، وتحت قهر الطبيعة وصعوبة العيش؟
للأسف الدولة لم تستفد بعد لا من تجربة سيدي إيفني (2008)، ولا من تجربة اكديم إيزيك (2010)، ولا من أحداث الريف (2017)، ولا من أحداث جرادة (2018)، ولا من الأحداث التي كانت في عهد الحسن الثاني؛ الدار البيضاء 1981 وغيرها من الأحداث التي لا يتسع المقام لجردها نظرا لكثرتها..
تُرى ما هي الأسباب التي تجعل الدولة معرضة عن الاستفادة من كل هذه الأخطاء الأمنية التي كلفت المغرب – دولة وشعبا – الكثير من الخسائر على مستوى الحريات والثقة والسمعة، ثم التنمية.. هذا دون الحديث عن الأموال الطائلة التي تصرفها الدولة نفسها لمعالجة المشاكل الأمنية التي تسببت فيها وتولدت عن اختياراتها، مصاريف التدخلات الأمنية، والمحاكمات، ومصاريف السجون التي عرفت ارتفاعا مهولا في ميزانياتها بسبب بناء وحدات أخرى والرفع من عدد موظفين هذا القطاع..
للأسف الشديد، أصبحت تهيمن على قناعتي الداخلية أن داخل الدولة (العميقة) تيار له نفوذ قوي جدا له جنوح رهيب نحو الاختيارات الأمنية لحل بعض المشاكل الاجتماعية البسيطة، مع علمه ويقينه أن هذا التوجه خطير على أمن واستقرار البلد، وله تكلفة مرتفعة وباهضة على سمعة المغرب وحرية أبناءه، هذا فضلا عن تعطيله لقطار التنمية الذي يعرف حقيقة أعطابا بنيوية معقدة..
ويبدو أن لهذا التيار أجندة خاصة به، لا علاقة لها بمصالح المغرب، بل بمصالح زعماءه وقادته في أبعادها السلطوية/الأمنية والمالية/الاقتصادية، وربما بمصالح بعض الجهات الخارجية الداعمة لهم، والمتربصين بالمغرب، منها الإمبريالية والصهيونية على وجه الخصوص.. فهؤلاء هم أكثر استفادة من أي اضطراب أو توتر أو احتقان اجتماعي يعرفه المغرب، حتى يبقى هذا البلد مضطربا وضعيفا وتابعا، وخاضعا لنفوذهم وسياساتهم..
في الحقيقة لم أجد تفسيرا منطقيا ومقنعا غير هذا.. وقد ينظر إلي البعض على أني أبالغ في اعتماد نظرية المؤامرة في هذا التحليل.. ولهؤلاء أقول: كفى من السذاجة المفرطة والمبالغة في التحليل السطحي.. المؤامرات حقيقةٌ موضوعيةٌ، والخيانة أمرٌ واقع عبر التاريخ.. وأحد أهم وسائل إضعاف الدولة هو افتعال قضايا أمنية والتسبب في احتقان اجتماعي تافه ليتحول إلى أزمة سياسية تنشغل بها الدولة عن بناء صرح ديمقراطي قوي وتنمية منتجة ومستدامة في أبعادها الاجتماعية والإنسانية قبل الأبعاد والمظاهر المادية..
وإلا فبماذا نفسر أن طلبا بسيطا وممكن التحقيق مثل بناء مستوصف صغير، أو فك العزلة عن قرية ببناء بضع كيلومترات من الطريق، أو إعطاء حقوق قانونية وطبيعية لذويها… كل ذلك على بساطته، يتحول فجأة إلى تعسف واحتجاجات ومظاهرات واعتقالات ومحاكمات وسجون.. ومآسي اجتماعية وانتهاكات حقوقية.. والملاحظ أن ذلك أصبح يكتسي طابع التكرار والاستمرار والنمطية في جل الأحداث المشابهة، إن لم يكن كلها .. فأي ساذج هذا الذي سيصدق أن ذلك أمر عادي ولا يخفي أي مؤامرة تحته!!
سرعة تحول قضية اجتماعية بسيطة إلى أزمة أمنية ومجتمعية وسياسية ظاهرة تستدعي الدراسة والتحليل.. عن جذورها وأسبابها؟ وطريقة سرعة تحولها؟ ومن يقف خلفها؟ ودراسة نتائجها ومآلاتها؟ لأنها أحد الأسباب المباشرة في تعثر الكثير من المشاريع التنموية والبرامج الإصلاحية.. بسبب سيطرة العقل الأمني على الحياة العامة، ومن ضمنها المشاريع الاقتصادية والتنموية وحتى الاجتماعية..
ولابد من دراسة الفعل الأمني داخل الدولة (العميقة)، هل هو أداة ووسيلة؟ أم هو عقل يفكر ويخطط؟ هل يشتغل لمصلحته الخاصة؟ أم هو تابع لجهات أخرى قد تكون داخلية وخارجية؟ وما علاقته بالأوليغارشية المغربية وأذرعها الإعلامية؟ وأهم سؤال يجب البحث فيه؛ لماذا يسارع العقل الأمني (المتمثل في السلطة وأذرعها) إلى الحلول الأمنية وما يترتب عليها من انتهاكات وتجاوزات؟ ولماذا لا يترك المجال للفاعل السياسي والمدني لتدبير هذه الملفات والقضايا التي تعتبر من صميم اهتماماته ومجالات عمله؟
إن توجيه الدارسين في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية من أجل دراسة وتحليل هذه المظاهر ستكون له فوائد ونتائج مهمة وجيدة لفهم الظاهرة الأمنية المغربية في أفق وضع حد لها، ومراجعة أدوارها، وإرجاعها إلى وضعها الطبيعي في حفظ الأمن والاستقرار، بدل الإسراع والمساهمة في زعزعتهما.. مع تأطير تدخل هذا الجهاز الأمني وجعله في خدمة الفاعل المدني والسياسي عندما يقتضي الأمر ذلك.. وترك موضوع التنمية والحلول الاجتماعية للفاعلين السياسيين والمدنيين.. الذين تربطهم مع الشعب تعاقدات والتزامات ناتجة عن انتخابات حرة ونزيهة… هذا هو المشهد الطبيعي، وليس ما نراه من تدخلات أمنية لا تراعي ظروفا، ولا تحمي حقوقا، ولا تحفظ استقرارا..
إن قضية السيدة فاطمة أحنين هي من ضمن القضايا التي تمت معالجتها بالمقاربة الأمنية الخاطئة، بدل المقاربة الاجتماعية والإنسانية اللازمة، وعليه فإن اعتقالها ومحاكمتها وإدانتها كل ذلك يندرج في إطار هضم الحقوق وانتهاكها، الأمر الذي يستلزم على الفاعل السياسي والحقوقي تحمل المسؤولية كاملة في مؤازرة والدفاع عن هذه السيدة باعتبارها ضحية من ضحايا استخفاف الحكومة وعدم التزامها بوعودها تجاه ضحايا زلزال الحوز.. فإذا كان جزء من الحركة الحقوقية يقوم بدوره في هذا الشأن، فأين هو الفاعل السياسي في هذه القضية؟