عن الطفولة أحكي
ثريا الطاهري الورطاس- المغرب.
كيف سأسترجع شريط ذكرياتي؟ ومن أين سأبدأ الحديث عن مرحلة من مراحل ذاك الزمن الجميل ؟ مرحلة الطفولة ، ذاك الحلم الطاهر واللفظ العذب ، فمع مرور الزمن نبتعد عن طفولتنا في شموليتها وبكل مكوناتها ، هذا في الوقت الذي لا تبتعد عنا ذكرياتها الشيقة ، وهو الأمر الذي يدفعني إلى الوقوف من اجل التساؤل : فهل نحن من نسكن طفولتنا ونرحل مع مرور الزمن عنها ؟ أم انها هي التي تسكننا حتى وإن رحلت وابتعدت عنا ؟ وكثيرا مانردد مع أنفسنا قائلين ياليتنا نملك حق العودة والإستعادة ، إعادة مرحلة الطفولة والصبا بكل تلاوينها ومحطاتها المتراوحة بين البراءة والتعنت ، إعادة تلك اللحظات الجميلة والشيقة ونجعل الزمن يتوقف عندها في عنفوانها وبهجتها وحتى ألمها ، بل وفي كل دقائق امورها ، فنسترجع من خلال لحظاتها كل
ما تعلقنا به من ذكريات واسعدنا ايما اسعاد .
وتبقى طفولتنا عربون الذكريات البسيطة والسعيدة، التي عشنا فيها الكثير من المحطات واستمتعنا فيها ومن خلالها مع العديد من اطفال جيلنا ذكورا واناثا ، فنحن الجيل الذي صنع من اللاشيء أشياء وأشياء ، وفي غياب تام لماهو متاح حاليا من ألعاب “البلايستيشن” ، وألعاب الحاسوب والهواتف الذكية ، معتمدين على اللعب الجماعي وحرصين على الالتزم بقوانينه المتعارف عليها ، أو المتفق عليها – حسب مختلف المناطق المغربية – وفيه تعلمنا الإعتماد على الذات، واكتساب الثقة بالنفس واحترام حقوق الآخرين ، والتقيد بضوابط اللعبة المحددة من طرف ” قائد / قائدة المجموعة” حتى لا يتم اللجوء الى الخديعة او الغش ، لأنه مرفوض في قوانيننا ومسلكياتنا .
فألعاب الزمن الماضي هي في جوهرها وسيلة للتربية والتعلم والانضباط والالتزام قبل ان تكون للتسلية أو تجزية الوقت فحسب ، فهي لاتقل أهمية عن القراءة والتعليم والتعلم لأنها تأتي لاتمام العمل الصفي الانضباطي، مركزة في كل ممارساتها على تحفيز النشاط الذهني وتحسين الموهبة الإبداعية التي كانت تظهر بجلاء في الكثير من الألعاب القديمة ، ومنها نذكر على سبيل المثال لا الحصر : صناعة العرائس بالقصب والتي كنا نلبسها مما يتبقى من قماش امهاتنا الخياطات، ونجتهد أكثر حين نصنعها بالقماش ونحشوها صوفا، ونصنع الخيام بالإيزارات ونطهو الطعام بيننا بفرح لا متناهي وكأنا نتدرب بشكل قبلي على تحمل المسؤوليات الاسرية المستقبلية هذا بالنسبة للبنات ، أما لعب الاطفال الذكور فحدث ولا حرج ، ومن لعبنا كذلك نذكر الشريطة، والتيلة وهو مايعرف عندنا نحن ساكنة المغرب الشرقي ب( الزلاقوف ) .ومما تجذر الاشارة اليه انا كبنات
كنا نشارك الأولاد الذكور ألعابهم الخاصة كالدينفري، الراوليكا ، اجمد ، الشق ، الغميضة، الترمبية ، البي mini bille ، وصناعة السيارات بأبسط الأشياء . ولم نقف عند هذا الحد ، بل كنا نشاركهم في المخيمات الصيفية عن طريق التنظيمات الكشفية المتعددة وفي تشاركية تامة خلقنا ألعابا كثيرة ، لن اسوق أسمائها لانها تختلف وتتعدد بتنوع جغرافية المناطق المغربية .
وانطلاق مما تقدم يحق لي أن اقول بانا نحن الجيل الذي يعتمد الواحد منا على ذاته – ودون إلغاء للسلطة الاسرية في بعدها الشمولي – فإذا ما حدث وانكسر فينا شيء او اصابه عطب ما ، فانا نحاول ان نصلحه ولا نرميه ، ونشتغل بشكل جماعي وتعاوني تكاملي وكأننا أبناء وبنات أسرة واحدة ، وحتى في اختلافاتنا او خصوماتنا لم نكن وقحاء ، ولم تكن الكلمات السوقية أو النابية تعرف طريقها إلى قواميس حواراتنا اليومية ، بل كنا نعمد إلى استعمال الأصابع بتحريكها فنهدد بالسبابة، ونشتم بالوسطى، ونتخاصم بالخنصر، ونتصالح بالإبهام ، ونعيب بحركات الوجه وميميته التعبيرية ، وكثيرا ما نستخدم الأصابع في التعبير بالإشارات وكأننا متمكنين من لغة الصم والبكم ، عكس أطفال اليوم التي أصبحت أصابعهم معطلة ومنشغلة بالآلات الإلكترونية التي كادت أن تنزع منهم روح الطفولة وعذوبتها، وتغرقهم في عوالم مجهولة تشحنهم/هن وتصب في قلوبهم القسوة والبغضاء وحتى العبث .
لقد كنا أطفالا وكبرنا وياليتنا لم نكبر أبدآ، حتى نكون نماذج حية لاطفال اليوم ، وينهلون منا مايمكن ان يفيدهم/هن ولكن هيهات هيهات فتلك دورة الحياة بمختلف تغيراتها السريعة والخطيرة ، التي قد ترمي بهم في عوالم غرائبية تهدد حتى ابسط القيمة الإنسانية .
لقد حاولت قدر استطاعتي الالتفات للوراء قليلا لأن في الخلف / الماضي أشياء جميلة وأحلام طفولة بريئة ونجاحات صغيرة هي بمثابة سعادات لاتنتهي مع أصدقاء وصديقات ، ووجوه جميلة لازالت حاضرة في ذاكرتنا وكأننا اخوة وأخوات ، لا ولم ولن ننساها ابدا ، ولعل الذي انسيناه في مسيراتنا الحياتية تلك هو ان نأخذ معنا قلوب الأطفال
– الذين كناهم ذات زمان مضى – ونحن نكبر
وتبقى تلكم الذكريات صورة من صور اللقاءات والذكريات التي مضت دون رجعة .