العفو الملكي
بين قراءة موضوعية وقراءة عدمية
عبد المولى المروري – كندا
العفو الملكي على الصحافيين والمدونين بمناسبة الذكرى 25 لعيد العرش حدث استثنائي ومتميز، ومن الأكيد أنه يحمل دلالات وتطلعات بالنظر إلى حجم المؤشرات التي يحمل، ونوعية الإشارات التي يرسل..
والعفو الملكي أسال العديد من الكتابات والتعليقات.. بين التأييد والترحيب، وبين التبخيس والتهكم.. كما أصاب البعض بالبكم والعقم في التعبير والتعليق.. تحت تأثير هول الخبر وعظم الحدث ..
وحدث كبير مثل هذا يفرض علينا التعليق عليه بما يناسبه، وإبداء الرأي فيما راج من ردود فعل متباينة من أجل توضيح الأمور بكل مسؤولية وشجاعة، وبما يقتضيه ذلك من وضوح وصراحة..
وأول ما يجب الإشارة إليه، أن العفو الملكي جاء في وقت حرج ودقيق.. وطنيا ودوليا.. ويعرف فيه المغرب تحديات اقتصادية واجتماعية يرتقي بعضها إلى مستوى الأزمة.. خاصة ما نتج عن ذلك من اتساع رقعة الفقر وتدني القدرة الشرائية للمواطنين.. هذا دون التنكر للعديد من الإنجازات المهمة التي غيرت وجه المغرب على المستوى البنيات التحتية والطرق والمشاريع الكبرى..
وقد جاء العفو الملكي في سياق احتقان اجتماعي آخذ في الاضطراب والتوتر تسببت فيه الاجراءات والاختيارات الحكومية غير الشعبية.. وفي سياق اختناق سياسي وحقوقي تسببت فيه السياسية الجنائية والأمنية التي كانت موضوع مآخذات شعبية ودولية.. فمن الموضوعية ألا ننكر ذلك ونقفز عليه أو نتجاهله..
وهنا يأتي دور العفو الملكي كإجراء يتسم بالحكمة البالغة أمام كل هذه التحديات، عفوٍ ذي دلالات وأبعاد كثيرة وعميقة تستدعي الوقوف عندها بكل موضوعية وصراحة..
والسؤال هنا؛ كيف يجب أن نتعامل مع العفو الملكي؟
هل هو عفو اضطراري، أم عفو اختياري؟
هل هو عفو جاء تحت ضغط سياسي وحقوقي وشعبي، أم جاء بمبادرة ملكية حرة ومستقلة؟
هل يستدعي التعامل مع العفو الملكي باستخفاف وتبخيس بالنظر إلى استمرار اعتقال نشطاء حراك الريف وجرادة والنقيب محمد زيان وغيرهم، أم يجب الترحيب به والثناء عليه مع التذكير بضرورة العفو على باقي المعتقلين؟
هل يجب أن يقف العفو الملكي عند المعتقلين، أم يجب أن يلامس المنفيين والمغتربين والفارين بسبب الملاحقات والمضايقات الأمنية؟
لماذا ابتلع التيار الأمني لسانه ولم يعبر عن رأيه في تلك المنابر الصفراء التي تعرف إسهالا فظيعا عندما كان يتعلق الأمر بالصحافيين والنشطاء خلال اعتقالهم؟ هل تحول الإسهال الحاد والفيضان الكبير الذي أغرق الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بالسب والشتم والافتراء والتهكم إلى جفاف وتصحر؟ لماذا لم يشارك هذا التيار الغامض الشعب المغربي فرحته وابتهاجه بالعفو الملكي؟
لقد كان المعتقلون وأهليهم ومن خلفهم الشعب المغربي يترقب في كل المناسبات الدينية والوطنية صدور العفو الملكي.. وكان في كل مناسبة «تخيب الآمال» وتنكسر الخواطر.. وهذا شعور طبيعي ينفجر في كل لحظة يأس أو إحباط.. شعور لا يستحضر التوازنات وموازين القوى والتجاذبات الداخلية الخفية التي لا تقع عليها عين المواطن العادي.. وتغيب عن الفهم والتحليل نظرا للبساطة التي تعلو الفكر الشعبي وتطفو على سطح الرأي العام..
ما يجب الاعتراف والإقرار به ومن خلال تتبعي للمشهد السياسي المغربي أن العفو الملكي كان مبادرة ملكية خالصة، جاء دون تدخل من أي جهة سياسية أو اجتماعية، أو شخصيات وطنية تاريخية.. نعم لقد كانت هناك نداءات وملتمسات، ولكنها لم ترق أبدًا إلى مستوى التدخل أو التأثير.. وهذا راجع بالأساس إلى ضعف الأحزاب السياسية، وجبن الكثير من قادتها وزعماءها.. إلى درجة العجز من أجل التقدم بمبادرة جادة في طلب العفو، أو ممارسة ضغط سياسي من أجل ذلك..
وما يجب التنبيه إليه أن العفو الملكي وبالرغم من كونه قرارا سياديا خالصا للملك.. فإنه يستحضر الإكراهات والتحديات الداخلية، وقد تكشف ذلك مؤخرا وبالواضح، أن هناك اتجاهات وجهات أخرى تريد الإبقاء على وضع الاحتقان السياسي والتوتر الاجتماعي والاختناق الحقوقي.. لأسباب غامضة، فهذه الجهات تنتعش بشكل غريب في ظل هذه الأجواء المتوترة، وقد ظهر ذلك جليا في تجاهل العديد من المنابر التابعة لتلك الجهات، وكأن هذا العفو كان في دولة توجد في جنوب شرق آسيا وليس في المغرب!
لذلك فإني أعتبر – من خلال قراءتي الموضوعية- أن هذا العفو قرار ملكي شجاع وإنساني في الوقت نفسه، شجاع لأنه مبادرة حطمت كل العوائق والموانع والمتاريس التي كان أعداء الانفراج يضعونها أمام كل محاولة انفراج سياسي أو عفو ملكي.. وقرار إنساني لأنه لامس أحزان وآلام المعتقلين وداوى جراح أسرهم وذويهم بعد طول اعتقال..
وبحكم أن هذا العفو هو قرار إيجابي أدخل السرور والبهجة في قلوب كل المفرج عنهم وأسرهم، فمن الموضوعية والإنصاف أن نقابل هذا العفو بالإيجابية نفسها وبالفرح ذاته.. لأن ذلك من صميم الأخلاق الإنسانية، ولأن فرحتنا هي فرحة تابعة لفرحة المستفيدين من العفو وليس منعزلة عنها أو متصادمة معها..
وبحكم أن هذا العفو هو إجراء ملكي سيادي، فهو لا يرتبط بالإحكام القضائية، هل هي نهائية أم غير نهائية، ولا بمساطرها هل هي سليمة أو معيبة.. فالعفو الملكي من منطلق مركزيته ودستوريته هو فوق كل الأحكام والمساطر، لأن له نظرة شمولية واسعة ومهيمنة، تستحضر المصلحة الوطنية العليا، ولا يلتفت إلى الأحكام وإجراءاتها ومساطرها التي تظل شخصية وذاتية..
وهذا بخلاف القراءة العدمية التي تبخس هذا العفو، وتنتقص من أهميته السياسية وقيمته الإنسانية بحجة أنه استثنى وأقصى معتقلي الريف وجرادة والنقيب محمد زيان وغيرهم.. إن هذا النوع من القراءات يفتقد إلى الرؤية البعيدة، ولا يستحضر الكثير من المعطيات التي تغيب عن معظمنا.. وأهمها التوازنات والتجاذبات واللوبيات الكارهة لأني انفراج مغربي داخليا وخارجيا ..
فعلا، ككل المغاربة كنا نتمنى، وما نزال، أن يعم العفو ما تبقى من معتقلين، وأن تحقيق هذا الأمل لا يمر عن طريق التبخيس والاستصغار لهذه المبادرة الملكية..بل يقتضي الأمر الثناء عليها وشكرها وتدعيمها لتعم الباقين.. وهذا الأسلوب ليس تملقا، ولا نفاقا، ولا استرزاقا.. هذه حكمة في المعالجة، ورشد في الطلب، وتنشيط للجانب الإنساني بمزيد من التنويه والتشجيع.. فما فائدة تبخيس هذه المبادرة إذا لم يكن العودة إلى الاحتقان؟ وما هي نتائج الاستخفاف إذا لم يكن المزيد من التوتر المجاني؟ إن المبادرات الإيجابية لا يناسبها إلا المواقف الإيجابية.. وإن إدخال الفرحة لا يناسبها إلا الشكر والتقدير.. ومن دعا إلى خلاف ذلك فهو جاحد وحاقد.. والمعارك النضالية ترفض الجحود وتمج الحقد، لأن في عمقها نبل، وفي جوهرها خير..
فلا يسعني كغيري ممن ابتهجوا بقرار العفو الملكي إلا أن أعبر عن بهجتي وفرحي وامتناني.. وأتمنى كغيري من عشاق الحرية أن يعم العفو الملكي ما تبقى من معتقلين، وعلى رأسهم الشيخ محمد زيان والشاب ناصر الزفزافي وكل نشطاء الحراك الاجتماعي والمدونين والمظلومين..
وبما أن العفو الملكي هو عيد وطني، فسيبقى الأمل حاضرا دائما في عفو قريب عن كل من غادر وطنه المغرب مكرها أو مضطرا، وفيهم من تغرب لعشرات السنين، ويحلم بالعودة ذات يوم ليعانق أهله بالمغرب ويستنشق هواء وطنه ويسجد على ترابه، ويرتوي من ماءه العذب الزلال.. وينتعش تحت أشعة شمسه الذهبية.. هذا حلم وأمل.. ولا محالة أن الحكمة الملكية ستنظر قريبا في هذا الأمر الإنساني كما نظرت فيما قبله من قرارات عفو ذات نفس إنساني أسعد بها الشعب قبل المفرج عنهم..
فهنيئا للمغرب بالعفو الملكي، وهنيئا لكل المفرج عنهم وأسرهم، وقريبا سيعم الفرج والفرح الباقين، سواء داخل السجون أو خارج الوطن…