الأنثروبولوجيا والتاريخ
علال بنور – المغرب
لم يعد من الممكن اليوم داخل الحقول المعرفية الفصل بين الأنثروبولوجيا والتاريخ .و مع ذلك لا يزال كل واحد منهما يندرج في شعب منفصلة ،و باختصاصات متباينة على المستوى الاكاديمي .هذا الفصل يمنح لكل واحد منهما مشروعية الاستقلالية ، فمهمة الأنثروبولوجيا الاجتماعية هي دراسة المجتمعات الصغيرة الراهنة، ذات التاريخ غير المكتوب ،ولعل من بين اهتماماتها الرموز المشتركة ورصد الدلالات التي يقوم بها افراد المجتمع بتوليدها والحفاظ عليها او بتغييرها وإعادة انتاجها .كما أنها تبحث في الكيفية التي تؤثر بها ضوابط التنظيم الاجتماعي والاقتصادي ،مثل اللامساواة الاجتماعية .
من بين اهتمامات الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ابراز الظواهر والضوابط التي يتكرر حدوثها في المجتمع المدروس، والعلاقة بين انساق المعتقدات والنشاط الاجتماعي، والتحكم في انساق الرموز. لذلك يستند المنهج في الأنثروبولوجيا الاجتماعية على الدراسات العينية المباشرة لحقل المجتمعات الصغيرة، وذلك من خلال حضور الباحث ميدانيا. كما تهتم الأنثروبولوجيا الحديثة بالخيار الوظيفي، إذ صار من المفروض على الباحث الأنثروبولوجي، أن يعيش التجربة بين افراد المجتمع الصغير ويمارس طقوسه ويدرس ثقافته في الزمان الآني، دون الالتفات إلى الخط الزمني الرابط لماضيها.
ومن نافل القول فمصطلح الأنثروبولوجيا يدل على أنها حقل معرفي يختص بدراسة الانسان في مختلف اشكال ارتقائه وتطوره وانتظامه. ومن تمة يمكن أن نطرح مجموعة من الأسئلة من قبيل:
– ما طبيعة العلاقة بين علم التاريخ وعلم الأنثروبولوجيا؟
– ما هو موقع علم التاريخ في دراسة المجتمعات الصغيرة، التي تتناولها الأنثروبولوجيا بالدرس والتحليل؟
– هل يؤدي غياب أثر الكتابة إلى طمس التاريخ عن المجتمعات الصغيرة، كما تذهب بعض الاتجاهات الأنثروبولوجيا إلى القول إنها مجتمعات لا تاريخية؟
– هل يبدأ التاريخ مع الكتابة والتدوين أم قبل ذلك؟
– كيف يمكن تحديد ورصد تاريخ هذه المجتمعات ومعرفتها علما بأن هناك غيابا تاما لوثائق تكشف عن مراحل التطور التاريخي لهذه المجتمعات، ما خلا بعض النقوش المصورة؟
– من الذي بوسع الأنثروبولوجيا أن تقدمه لعلم التاريخ؟
بالعودة إلى المصنف التاريخي لمحمد أبو المحاسن عصفور “معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم” وفي الفصل الأول منه، ثمة إشارة واضحة لرفضه، لتسمية ما قبل التاريخ، حيث أنه لا يتفق مع هذا التصنيف، باعتبار أن تاريخ الانسان، يبدأ مع لحظة ظهوره على الارض، إذ انه يفضل اسم عصر ما قبل الكتابة او التدوين، وإذ يرفض عبد الله العروي تعبير ما قبل التاريخ، فكذلك يرفض محمد أعفيف عبارة المجتمعات البدائية، مفضلا تعبير المجتمعات الصغيرة من دون ان يعني بذلك أن لا تاريخ لها.
من البديهي القول، أن كل الثقافات التي تجتمع في مفهوم الحضارة الإنسانية التي عرفتها البشرية منذ مرحلة اللقاط إلى الآن إنما هي حضارة ومجتمعات تاريخية. فالقول بانعدام التاريخ عند المجتمعات الصغيرة، يعني بالضرورة، القول بانعدام وجودها، ومن هنا، فالمجتمعات الصغيرة هي بالضرورة مجتمعات تاريخية، وإن كانت لم تعرف التدوين الخاص بها، كما لا يصح نعتها باللاتاريخية. ولقد اثار هذا الموضوع إشكاليات معاصرة حول علاقة علم التاريخ بالأنثروبولوجيا أمام العديد من المؤرخين.
كيف بوسع المؤرخ إذا اتخاذ المجتمعات الصغيرة موضوعا للبحث والدراسة، طالما أن إعادة بناء ماضيها مسالة متعذرة أصلا، نظرا لغياب الوثيقة المكتوبة كمرجع للدراسة والتحقيب؟ وعلى مستوى آخر، كيف بإمكان الأنثروبولوجيا الانطلاق من مقاربة الحقيقة باعتمادها إلى المنتوج المعرفي المعاصر بغية فهم المنتوج المفترض للمجتمعات البشرية الصغرى، من أجل كتابة تاريخها الماضي والاني. وفي غياب شرط التواصل الضروري مع انعدام الزمن الماضي؟
يبدو أن المؤرخ والأنثروبولوجي، لقد ضلا المؤرخ الانثروبولوجي، فيما يبدو، عاجزين عن تقديم صورة واضحة حول مراحل تطور المجتمعات الصغيرة، على الرغم من أن هذا الاخير منح لنفسه، حق المغامرة في البحث عن هذه المجتمعات والمرء لا ينكر عدم الوصول إلى مجموعة من الحقائق رغم أنها بحسب المؤرخ تضل في حدود النسبية الضعيفة. من جهة أخرى، تؤكد الأنثروبولوجيا الحديثة على أن المجتمعات الصغيرة تشكل انساقا قائمة بذاتها، وغير قابلة للمقارنة بمجتمعات أخرى. إذ هذا حسب التصور الوظيفي فالمجتمعات الصغيرة، ليست موضوعا لعلم التاريخ، بحسبان أن لها بعدا زمنيا محددا في إطار الراهني، بمعنى أن أهميتها، تعود إلى ما هي عليه في الزمن المعاصر. لكن، هل يمكن تناول أي مجتمع بشري ودراسته بمعزل عن تاريخه؟
يحاول الأنثروبولوجي نقل المجتمعات الصغيرة من زمنها الماضي إلى مجتمعات تعيش على الدوام في زمن سكوني دائري. باختصار إنه يريد نفي التاريخ عنها. فإذا كانت المجتمعات الصغيرة، بمعنى من المعاني، لم تخلق تاريخها فهي، من ثمة، ليست موضوعا لعلم التاريخ. وإذا، ما هي القيمة العلمية لمعرفة الوظائف الجزئية والوظائف الكلية لإنسان البناء الاجتماعي إذا لم تكن مستندة على قاعدة التطور التاريخي؟ من المستحيل عزل التاريخ عن مفهوم التطور، بغض النظر عن توافر التدوين او عدمه. لعل الفرق الأساسي بين التاريخ والأنثروبولوجيا، ليس فرقا في الموضوع ولا في المنهج، إذ أن الموضوع المشترك بينهما هو الحياة الاجتماعية، وهدفهما هو فهم الانسان، ومنهجهما هو البحث عن المتغير. غير أن الفارق بينهما، هو مفهوم الزمن التاريخي المبني أساسا على التطور.
بشكل خاص، يختلف الأنثروبولوجي عن المؤرخ، إذ يرتب هذا الأخير معطياته المتعلقة بالحياة الاجتماعية الواعية، فيما يرتب الأول معطياته حسب شروط الحياة غير الواعية. وبذلك صار المؤرخ يعتمد على بعض المفاهيم المجردة التي هي من اختصاص الأنثروبولوجي، مثل المفاهيم المجردة عن طبيعة المعتقدات الدينية والعلاقات السياسية.
لعل الفصل بين علم التاريخ وعلم الأنثروبولوجيا، إنما هو في حقيقة الامر فصل تعسفي، بحسبان أن علم التاريخ لا يمكن أن تنحصر اهتماماته في تغييرات الحياة الواعية بالاستناد إلى مختلف اشكال الشاهدة، فقد تكون تعبيرات الوعي عرضة للشك. وعليه، فالمؤرخ مدعو للاهتمام بالشروط الاجتماعية الموضوعية المحيطة بالحدث التاريخي، والمتحكمة في سيرورة تطوره.
إذا كان من مهام الأنثروبولوجي الكشف عن البنيات الاجتماعية اللاشعورية، فإن مهمة المؤرخ هي دراسة ما طرأ على هذه البنيات من تطور وتحول. ولهذا، تأكد عند كل من المؤرخ والأنثروبولوجي، أنه لا يمكن دراسة المجتمعات الصغيرة بدون دراستها تاريخيا. إذا، كيف بوسع الباحث الانثروبولوجي فهم وتفسير وتحليل هذه البنيات، من خلال معاينة ممارسة الطقوس من سحر ورقص واحتفالات الزواج من دون قراءة ماضي وحاضر المجتمعات الصغيرة؟ على أن ما يميز الأنثروبولوجي، هو القراءة والفهم العميقين في اللامفكر فيه، والوصول إلى ما وراء الصورة الواعية التي يكونها الناس عن صيرورتهم.
استناد إلى ما تقدم، يمكن القول إن الصفة التاريخية عند الأنثروبولوجي ليست بالضرورة مشروطة بوجود نص تاريخي مكتوب، بل يكفي قراءة المعيش الثقافي الآني بغية الوصول إلى قراءة البنيات التاريخية اللاشعورية للتفكير البشري، عبر قراءة اشكال الرموز التي تعبر عن الذاكرة الجماعية، من حيت كونها افرازا لحركة التاريخ. فالقراءة الأنثروبولوجيا للمجتمعات الصغيرة إنما هي قراءة تاريخية، ولا يمكن أن تكتمل إلا بتكاملية المنهجين: المنهج التاريخي والمنهج الأنثروبولوجي.
لقد فكك تطور البحث التاريخي اليوم ذلك الإشكال الأبستمولوجي الذي كان قائما حول انفصالية العلوم الإنسانية والعلوم الحقة عن بعضها البعض، حيت صارت العلوم مكملة لبعضها البعض، مثلا: أصبح علم التاريخ يعتمد على العلوم المجاورة التي أكدت عليها مدرسة الحوليات الفرنسية، لفك سنن تساؤلاته الاجتماعية والاقتصادية والذهنية. لقد تأكد اليوم مع مدرسة التاريخ الجديد، الذي هو امتداد لمدرسة الحوليات، ضرورة التقاطعات بين التخصصات، مما شكل الوحدة العضوية للموضوعات المهتمة بالإنسان، في امتداده في المكان والزمان.
يتساءل العديد من الباحثين عن التقاطعات الأبستمولوجية بين التاريخ والأنثروبولوجيا، وقد تأكد أن هذه الاخيرة تشكل شبكة من المعارف الإنسانية حول الانسان، بما هو كائن الاجتماعي، على درجة كبيرة من التعقيد، كما هوالشأن بالنسبة للتاريخ. لذلك، ما مدى استفادة التاريخ من الأنثروبولوجيا والعكس؟ يمكن تحديد التقاطعات على عدة مستويات، منها المنهجية والمعرفية على سبيل الحصر. وقد طرح ليفي ستراوس تصورا للتقاطعات بين التاريخ والأنثروبولوجيا البنيوية، حيث أكد على أن التاريخ ينظم معيقاته مع التعبيرات الواعية فيما تنظم الانثروبولوجيا معطياتها بالمقارنة مع الشروط اللاواعية للحياة الاجتماعية. وعلى الرغم هذا التمايز والتفرد، ثمة تداخل بين التاريخ والأنثروبولوجيا، حيث يشكل التاريخ في هذا التداخل جزءا من الأنثروبولوجيا. يستنتج من هذا الرأي، أن التاريخ مكمل للأنثروبولوجيا. على أن مفهوم التاريخ عند ليفي ستراوس، لهو مجرد مقاربة مجزأة عن الواقع ليس إلا.
يواصل ليفي ستراوس تأكيده على أن معالجة الحدث التاريخي تتم بالتجريد والاختيار. كل حدث تاريخي في نظره يتجسد في عدة ظواهر فردية. بهذا المعنى، يقتصر التاريخ جزئيا على السرد الكرونولوجي. يستخلص من هذا، أن ليفي ستراوس في تصوره يرفض التاريخ كعلم، إذ بالنسبة له فالتاريخ ماض ليس غير.
بعكس ليفي ستراوس عمل ميشال فوكو على هدم علم التاريخ من داخل حقله. فقد رفض في مؤلفه ” حفرية المعرفة ” مجموعة من المفاهيم التاريخية، كالتقليد والتأثير والتطور والحقب، معتبرا إياها مفاهيم كسولة، وعوضها بمفاهيم من العلوم التجريبية، مثل الأركيولوجيا والرواسب والجنيولوجيا، كما أكد على عدمية الأسئلة التقليدية، التي كان يطرحها التاريخ من قبيل الروابط التي تجمع بين احداث مشتتة. وبذلك يمكن مقارنة أوجه التشابه بين التاريخ والانثروبولوجيا على مستويين:
* المستوى المنهجي: لقد ولى التصور القائل بأن مناهج العلوم الاجتماعية بعيدة كل البعد عن الحقل المنهجي الذي يتحرك فيه التاريخ، كما أن التاريخ الجديد رفض النظرة المرتكزة على اختزال المنهج في تقنيات البحث. ولم تعد الوثيقة هي تلك المخلفات المكتوبة التي ورثها الحاضر عن الماضي، بل توسع مفهوم الوثيقة من المادي إلى الرمزي إلى الشفاهي. لذلك، توسع مفهوم الوثيقة أكثر مع التطور الترابطي بين التاريخ والأنثروبولوجيا بحيث أصبحت الوثيقة تعني كل ما خلف الانسان من مكتوب ورموز وشفاهي ومصور وهذه الوثيقة تتكامل مع الثقافة الشعبية بكل تمظهراتها، وتعتبر شرطا ضروريا للمؤرخ من أجل معرفة الواقع لفهم الماضي.
والمؤرخ عندما يصادف كثرة الوثائق يعتمد على أسلوب الانتقاء، وهو ما يطرح عنده صعوبة الاختيار، لذلك يستعير من الأنثروبولوجيا للاعتماد على أسلوب العينة. على أن عينة المؤرخ لا تشبه عينة الأنثروبولوجي، كما يستعير المؤرخ أسلوب وضع الفرضيات، لكنه لا يسعى إلى تأكيدها أو نفيها بالتجربة، كما هو الشأن عند الأنثروبولوجي. ولإن كان المؤرخ يستعير أسلوب وضع الفرضيات، فإنه لا يسعى إلى تأكيدها أو نفيها مثلما هو الشأن بالنسبة للأنثروبولوجي، وإنما ليجد فيها وسيلة لتوسيع مساحة تساؤلاته. ولقد أصبح المؤرخ يوظف الأسلوب الكمي المستعار من الاقتصاد الذي قلب العديد من الثوابت في الكتابة التاريخية.
*على المستوى المعرفي: أصبح المؤرخ يشتغل على المفاهيم والمواضيع والاشكاليات الأنثروبولوجية، من قبيل، مفهوم الثقافة، لكون التاريخ سلسلة من الثقافات التي تشكل الحضارة الإنسانية، كل ثقافة تولد من تاريخها. فالمؤرخ في دراسته للثقافة في فترة معينة، يعتمد على ما انتجه الانثروبولوجي، كما أنه صار يعتمد على مفهوم الذهنية لدراسة العائلة. هكذا، سنجد أن موضوعات المؤرخ تشمل العادات والتقاليد الموروثة أو المتجددة أو المبتكرة في ثقافة المجتمع، بمعنى أن كل ما ينتجه المجتمع إنما هو موضوع للتاريخ.
ماذا أخدت الأنثروبولوجيا من التاريخ؟
بما أن المؤرخ يمد الأنثروبولوجيا بالوثيقة وكيفية التعامل معها وأسلوب توظيفها في البحث عن الحقيقة، بما أن الانثروبولوجيا الحديثة استعارت من التاريخ جملة من المفاهيم التاريخية، كالتطور والصيرورة والفترة والحدث والأزمنة وكرونولوجية الظاهرة والخط الزمني. كذلك استعارت من المنهج التاريخي، الحماية من الرواية الأحادية الجانب وضيق الأفق والنفعية في التحليل.
هكذا، فرضت الاهتمامات بالثيمات التاريخية والأنثروبولوجية، تعدد التساؤلات وطرح الإشكاليات والتراكمات المعرفية والمنهجية، وتعدد وسائل البحث وغيرها التي عرفتها المعرفة التاريخية والأنثروبولوجية والمعارف المجاورة لهما. إذ لا تكمن الأهمية في اغناء الرصيد المعرفي، وانما في اخضاع التساؤلات للتمحيص وبلورة إشكاليات وأدوات منهجية.
علاقة علم التاريخ بباقي العلوم المجاورة له:
تأسست المدرسة التاريخية الماركسية منذ القرن التاسع عشر في زمن تفوقت فيه ألمانيا على فرنسا في انتاج المعرفة، على قاعدة مشروع فكري، يدمج عدة علوم إنسانية في إطار واحد، كما يقوم على وحدة منهجية قابلة للتطبيق على كل العلوم الإنسانية. هكذا تقر المدرسة الماركسية بوجود تقاطعات بين ثيمات العلوم الإنسانية. ولذلك اتسمت انتاجاتها بالشمولية، لحد أن المؤرخ الفرنسي Pierre Vilar، المتخصص في تاريخ العائلة، يؤكد أن ماركس يتحدث عن التاريخ مثلما يتحدث عن السياسة. من هنا فالماركسية إنما هي صاحبة مشروع كلي تتوحد فيه العلوم الإنسانية مع علم التاريخ، علما بأن التاريخ جزء من العلوم الإنسانية. علاوة على ذلك، فقد أكد عالم الاجتماع الفرنسي، Raymond Aron، على أن الرأس مال، كتاب في الاقتصاد وعلم الاجتماع، وفي الوقت ذاته تاريخ فلسفي للبشرية.
وإذا، فالماركسية تؤمن بمبدأ الوحدة بين الواقع المعرفة، ووحدة الطبيعة مع الانسان ثم وحدة العلوم الإنسانية، وفق منهج ينطلق من مبدأ الوحدة.
لقد فرضت الاهتمامات، تعدد الصياغات التساؤلية وطرح إشكاليات وتراكمات معرفية ومنهجية، وتعدد وسائل البحث، التي عرفتها المعرفة عامة وعلوم الأنثروبولوجية والتاريخ خاصة، ليس فقط الاسهام في اغناء الرصيد المعرفي، بل اخضاع ذلك إلى تساؤلات ابيستيمولوجية، وبلورة إشكاليات وأدوات منهجية في بعدها الشمولي. وهذه العلاقة بين الانثروبولوجية والتاريخ تشكل القاعدة التي تحدد الخلفيات المعبر عنها ضمن الحقل الفكري.
إن ما خلصت إليه مدرسة الحوليات الفرنسية هو أنها قامت بتكسير عقلية التخصص لتشجيع وحدة العلوم الإنسانية. على أن هناك قضايا رفضتها مدرسة الحوليات في المدرسة الماركسية مثل قضية أن الفاعل الاقتصادي يقوم على تفسير التطور الاجتماعي والسياسي. ومن المجالات المعرفية التي استفادت منها من المدرسة الماركسية، كونها استعارت أدوات التحليل لخدمة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي. كما تبنت النظرة الكلية للمجتمع عوض التجزيئية، مع استخدام مفهوم الصيرورة.
ولعل من سمات التاريخ الجديد الذي يعد امتدادا لمدرسة الحوليات الفرنسية، أنه بات من الضروري كتابة التاريخ من زوايا متعددة، يندمج فيها الاقتصادي بالسياسي بالطبيعي بالاجتماعي بالثقافي بالذهني بالحدثي. وليس هذا فحسب بل اقحام طرائق العلوم الحق والعلوم الطبيعية وباقي العلوم المجاورة في كتابة التاريخ، للدفع به إلى اقصى حدود الموضوعية. ومن سماته كذلك، عودة التاريخ الجديد إلى التاريخ الحدثي المرتبط بالمدة الطويلة، في هذا الصدد يقول المؤرخ فرنانديل بردويل: “لست مناهضا للتاريخ الوقائعي بشكل أعمى. أنا ضد التاريخ الوقائعي وحده”. إذ في نظره فقد اهتم التاريخ الجديد بالبعد الزمني، ذلك أن هناك عناصر ثابتة في التاريخ وأخرى تتحول ببطء وثالثة تتبدل بسرعة.
وعلى مستوى آخر ثمة انفتاح للتاريخ الجديد على عدة مناهج كالمنهج البنيوي وهو انفتاح كان مشروطا بالتركيز على عدم الفصل، بين تحليل الصيرورات الواعية وتحليل الأشكال اللاواعية للحياة الاجتماعية، ومن تم، لا يكفي الوقوف عند مناهج وأدوات ومفاهيم وطرائق البحث التاريخي لوحدها للوصول إلى الحقيقة التاريخية، بل عليها، أي هذه المكونات، أن تندمج مع مكونات باقي العلوم الأخرى، لبناء تاريخ علمي يندمج ضمن بناء كلي وليس تزاوجا.
تأسيسا على ما سبق، تقوم دعوة مدرسة التاريخ الجديد، على توحيد العلوم الإنسانية في علم الانسان، وصولا إلى استنباط منهجية واحدة تنطبق على جميع العلوم الإنسانية. وبطبيعة الحال هناك من المدعين من يرفضوا دمج المنهج التاريخي بباقي مناهج العلوم الأخرى، الشيء الذي سيؤدي إلى قتل استقلالية التاريخ وتعميق تبعيته للآخر.
————————————-
المراجع.
1/ حسن كربوب: “في الأنثروبولوجيا والتاريخ. مقارنة منهجية”. الفكر العربي ع .44/ 1986.
2/ ديل ايكلمان: “الأنثروبولوجيا والتاريخ ووضعهما في المجال الأكاديمي” – ترجمة محمد أعفيف. مجلة كلية الآداب – الرباط ع. 18/ 1993.
3/ عبد الله الحمودي: “الانقسامية والتراتب الاجتماعي والسلطة السياسية والقداسة: ملاحظات حول أطروحة كلنير”. ترجمة عبد الاحد السبتي وعبد اللطيف الفلق. مجلة كلية الآداب الرباط. ع.؟ السنة؟
4/ أرنست كلنير: “السلطة السياسية والوظيفة الدينية في البوادي المغربية”. مجلة الحوليات الفرنسية 1970.ترجمة عبد الاحد السبتي وعبد اللطيف الفلق. مجلة كلية الآداب. الرباط ع.11/ 1985.
5/ محمد أعفيف: “المغرب في الكتابة الأنثروبولوجيا”. مجلة كلية الآداب الرباط. ع 11/ 1985.
6 / التاريخ الجديد: تحت Sociétés in faire de l’histoire. T 1 éd. Gallimard 1974.
8/ Henri Moniot. L’histoire des peuples sans histoire .in faire de l’histoire. T 1. Gallimard .1974.