الملائكة تحلق حول نوران،
بقلم: عبد الصمد الشنتوف
عدت إليكم يا سادتي بعد غيبة طالت ثمانية أشهر ونيف. كنت خلالها في سفر غامض. سفر ليس كباقي السفريات. لا تسألوني عن وجهة سفري بالضبط، لأنني لست أدري. كل ما أعرفه أنني كنت مغتربا عن الواقع. لا أحس بما هو محيط بي. يكاد عقلي لا يدرك ما حولي، وكأنني أعيش خارج جسدي. كنت عالقا في الفراغ. خلت نفسي أحلق عاليا في عالم النيرفانا. شعور غريب يصعب علي وصفه.
كانت روحي ترفرف في فضاء سعادة عارمة، تهتز وتترجرج مثل مركب عائم يحاول الرسو في مرفأ “النشوة القصوى”.
انتظرت تسع سنوات على وجه التحديد، مرت ببطء شديد، كانت ثقيلة علي، وكأن الزمن انحبس في قارورة ليستريح بعض الشيء. كل سنة مرت علي بمقدار عشرة أعوام. صحوت بعدها على حلم هنيء لمعت له عيناي من الدمع. انتابني شيء يشبه سكرة الفرح. استولت على ذهني حالة سرحان قوية، صرت فيها ضئيل التركيز، مما اضطرني لمغادرة الكتابة إلى حين. شعرت وكأن عقلي استحال إلى قطعة جماد. شعور كثيف مر بي كسحاب عابر. ما إن أخذت تتلاشي ملامحه حتى حذتني الرغبة في العودة من جديد.
جئتكم وبداخلي قلب خفوق يهفو إليكم، حنين هائل يداهمني شوقا إليكم. غبت عنكم دون أن أنساكم. لم تفارقوا بالي ولو لحظة. كنت دوما أستحضر صوركم وملامحكم في خيالي.
في غيبتي، خامرتني نوبات حنين عجيبة. كنت خلالها مستغرقا في حلم طويل. أحلم أنني أصعد قمة الجبل. أغمض عيني، أفتح ذراعي، فأتخيلني بجناحين طليقين، ثم أقفز من علو شاهق. أحلق في السماء مثل طائر الرفراف، فأقع على صفيح النهر. ما ألبث أسبح بين ثنايا الماضي البعيد، وأغوص في تاريخ حافل بالأحداث. تاريخ ركدت أحجاره الثقيلة في قعر الذاكرة، قبل أن أستفيق لأجدني أمام حدث جلل.
حل بي طارئ جديد. أبت الحياة إلا أن تجود علي بحادث هز وجداني وأعاد إلى ذهني ذكريات قديمة.
عدت إليكم، وقد ملك شوق الكتابة علي نفسي. الجميع يعلم أنني اقتحمت هذا المجال بشكل مباغت، ومن غير استئذان. فتحت الباب عنوة، ولما أبصرت قدامي طريقا مشيت فيه. انطلقت بلا وجهة محددة، لكنني لبثت أمشي بلا كلل إلى أن بلغت خيمة منتصبة مكتوب عليها “عشيرة الكتاب”. ويا لها من عشيرة! منهم من فرح بي، ومنهم من تضايق مني متجنبا الحديث معي، قلت في نفسي: ذاك لعمري حال معظم البشر. ثمة من يحضنك وثمة من يلفظك. دأبت على مجالستهم ومحادثتهم إلى أن تعودت على أصواتهم، وألفت مزاجهم، متخذا من بينهم أصدقاء. لا أنكر أنني أحيانا كنت أحس كجسم غريب سقط عليهم من السماء. ولم يمض وقت طويل حتى صرت واحدا منهم. وبالتالي، أصبحت كاتبا بمحض الصدفة، وبسبب كورونا تحديدا.
في الواقع، الكتابة ليست بالأمر الهين. عالم عجيب بالغ الحساسية. أذكر أنني قرأت في كتاب ما: “الكتاب أشخاص يعانون من عقد نفسية حادة، والناس يحبونهم لأنهم يحملون نظارات طبية”. زممت شفتي في امتعاض، إذ هالني كثيرا ما قرأت. بصراحة، ألفيته كلاما مريعا إن لم يكن مستفزا، لا سيما أنه صادر عن كاتب مشهور. شخصيا، أرى أن عالم الكتابة تعتريه كل أشكال الغرابة والتعقيد، ومختلف تماما عن عالم كرة السلة.
عندما كنت أهاجم وأقذف بالكرة من بعيد، ثم أسجل النقط في سلة الخصوم، كان هؤلاء المدافعون يلتقطون الكرة، ويستمرون في الركض دون ضيق أو حرج. فيما حين أكتب نصا مثيرا يدفعك إلى ذكر فلان أو علان، يتلقف أحدهم كلماتك بغضب، وحنق شديد يحسبه قذفا شنيعا في حقه، حتى ولو كان النص يدور حول حدث تاريخي شائع لدى القاصي والداني. ومن هنا يبدأ مسلسل المتاعب قد يصل بك إلى حد التصادم. بقدر ما تجلب الكتابة لك المنفعة، قد تجلب لك أيضا بعض العتب وصداع الرأس، لتجد نفسك ترشح عرقا في مواجهة خصومات مع شخوص لم يخطروا لك على بال.
انتهيت إلى أن الكتابة حقل شائك ممتد، يتعين عليك أن تكون فيه حذرا طوال الوقت، كما لو أنه طريق مزروع بألغام موقوتة قد تنفجر في وجهك في أي وقت. أشعر وكأنني التمست طريقا مستقيما، يستحيل إلى منعرج خطير، ممكن يفضي بك إلى منحدر الجبل أحيانا.
هذا الصباح، كما كان متوقعا حللت بمصحة “سبارطيل” خائر القوى، لم يزر النوم عيني إلا قليلا.
كان اليوم خميس. أواخر شهر أكتوبر.
أنا الآن في موعد مع حدث فريد. دقت ساعة المخاض. عقارب الساعة تزخف نحو الزوال. خيم طقس جميل على طنجة رغم قدوم الخريف، حتى أن السماء بدت ضاحكة خالية من الغيوم، متزينة بزرقة صافية. كانت أوراق الشجر متناثرة على الأرض، والشمس ساطعة تطل من كبد السماء لتغمرنا بأشعتها الدافئة. يشهد وسط المدينة جلبة وصخبا فائقين. شوارع ضاجة بمرور الدراجات والمركبات، وأرصفة غاصة بحركة طلاب المدارس والمارة على حد سواء.
ألقيت تحية ودودة على حارس أشيب نحيف، كان واقفا متسمرا قدام باب المصحة وكأنه مومياء محنطة. هز رأسه ورد علي بتحية باردة قبل أن يدلني على صالة الانتظار. مشيت خطوات قليلة إلى أن بلغت فضاء يعج بحركة المرضى ومرافقيهم، في الوقت الذي كان فيه طاقم طبي متحفز يذرع القاعة جيئة وذهابا على وقع منبهات سيارات الإسعاف.
التفت حولي في تثاقل. رمقت أريكة فارغة بجوار نافذة زجاجية تطل على ميدان إيبيريا. اقتعدتها في هدوء ملقيا بجسدي المتعب فوقها. أسندت رأسي إلى كفي اليمنى، ثم غبت لحظات طويلة مستغرقا في التأمل.
وما هي إلا ربع ساعة حتى التهمني السأم، فنهضت متوجها نحو نافذة عريضة، بدت خلفها صومعة إيبيريا تلوح في الأفق معانقة عنان السماء. لبثت برهة أرسل بصري متأملا مجرى الحركة في أركان الميدان البديع.
فجأة، بعد ساعة من الانتظار، دوى صراخ من وراء الجدار ملأ الغرفة ضجيحا وعويلا. خرجت ممرضة مفعمة بالحيوية من غرفة الولادة لتنادي علي بصوت عال. سرعان ما هببت واقفا على الفور، كما لو نودي علي في جلسة المحكمة. صافحت عيناها عيني وقد افتر ثغرها بابتسامة حانية. شعرت بقشعريرة دافئة تسري في جسدي. كان قلبي يرتج ويخفق غبطة وحبورا. لم تمهلني الشابة سوى ثوان معدودة حتى تطلعت إلي قائلة: يسعدني أن أبشرك بأنك رزقت بمولودة في خلقة كاملة وصحة جيدة. يمكنك الولوج إلى الغرفة لتفقد صغيرتك، والقيام بطقوس استقبال المولود الجديد على مألوف العادة.
توقفت هنيهة عند طرف السرير أركز بصري على وجه ملاكي الجديد. طوقني إحساس غربب، إذ خيل إلي أن الملائكة تحلق حولها. ارتأى لي صفاء وبراءة النبي يوسف يشعان من محياها.
ما لبثت أن تقدمت نحو أذنها اليمنى لأهمس فيها بصوت خافت مؤذنا، ثم بعدئذ انتقلت إلى أذنها اليسرى مقيما الصلاة. وعلى حين غرة، نظرت إلي الممرضة، فلقيت عيني ملتمعتين بدموع منحبسة، فما كان مني إلا أن تبرمت تجاه النافذة مخفيا عنها دموعي التي كانت على وشك الفرار من مقلتيهما. كانت لحظات مشبعة بخشوع مؤثر، فيما كانت الملاك مغمضة العينين. تصرخ وتصرخ، ترفرف بيديها ورجليها معا في تناسق تام مثل جناحي فراشة. كانت تتحرك وتصرخ بلا توقف، وكأنها ترفع صوتها احتجاجا على مجيئها إلى هذا العالم الموحش الغادر.
سألتني الشابة في فضول: لعلك اخترت اسما عذبا يليق بهذا الطائر الوافد من الجنة. لذت بصمت قليل قبل أن أجيب: نعم، إسم ظل يختمر في ذهني لأشهر عديدة. فردت علي متسائلة، وما هي المفاجأة؟
قلت لها في انشراح واضح: اخترت لها إسم “نوران”. سرعان ما أضاءت وجهها ابتسامة حنونة ثم أردفت: ولماذا لم تسمها “نور” على وجه المفرد؟، فجاء ردي بلسان واثق:
بل هي نوران بصيغة المثنى، ذلك أنها تحمل بين جنبيها نور أبيها ونور أمها معا.
فأجابتني الشابة بلطف عميق:
-راقني جوابك كثيرا، لا يسعني إلا أن أقول لك: مبروك عليك نوران! ترعاها الملائكة وتكبر في عزك!
غادرت المكان وقد غمرتني بهجة عارمة. لم تفارق الابتسامة شفتي قط، كلما ابتعدت عن المصحة بخطوات حثيثة، كلما تردد صدى كلمات الممرضة في ذهني: مبروك عليك نوران، ترعاها الملائكة! مما زادني يقينا أنني رأيت الملائكة تحلق حولها.
طنجة/ 29 يونيو 2024