المهدي المنجرة فى الذّكرى العاشرة لرحيله
المُثقّف الحَصيف والإنسان الذي لا يطوله النّسيان
د. محمّد محمّد الخطّابي *
*- كاتب وباحث ومترجم من المغرب ،عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.
فى الثالث عشر من شهر يونيو الجاري (حزيران) 2024 حلّت الذكرى العاشرة لرحيل المفكّر المغربي الحصيف،وعالم المستقبليات الذائع الصّيت المهدي المنجرة رحمه الله ، هذا الرجل ” الفلتة” كان ذا عقل راجح بشهادة غير قليلٍ من العلماء والمفكّرين الأجانب والعرب المرموقين ، إلاّ أنه قوبل بنوعٍ من الجُحود والتغاضي والنكران من طرف بعض أبناء جلدته، وبني طينته،وقومه ، ولا غرو، ولا عَجب فلا كرامة لنبيٍّ بين قومه..!
وفى ذات السياق كانت قد نُسِجتْ وحيكت أباطيل وإدّعاءات ومزاعم،وترّهات حول مدى صحّة تكوينه العلمي ،ومستواه الأكاديمي ،( فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَیَذۡهَبُ جُفَاۤءࣰۖ وَأَمَّا مَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَیَمۡكُثُ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ ) ، إذ أنه على الرّغم من هذه المضايقات أمكنه أن يتسنّم منازلَ عليا، وأن يتبوّأ مراتبَ رفيعة، وأن يُدرك أسمىَ المنابر العلمية على الصعيد الوطني والدولي وأن يحظى بالتالي بتقديرالأوساط الثقافية، والعلمية، والفكرية، والسياسية فى مختلف أرجاء المعمور، وقد طفق نجمه يسطع عندما بدأ يتحدّث عمّا أصبح يُطلق عليه اليوم ب ” حرب الحضارات”، ولقد إعترف له فى هذا الجانب بالتألق،والتفوّق المفكر الأمريكي المعروف “صمويل هنتنغتون”، ونوّه بقصب السّبق الذي أدركه فى هذا المجال فى كتابه الشهير “صدام الحضارات” كما هو معروف .
هيامُه الأندلس
قيّض الله لي أن أتعرّف على المهدي المنجرة فى مدريد فى أواسط الثمانينيّات من القرن الفارط، حيث كان شغوفاً، ومُداوماً على زيارة هذه الحاضرة الأوربية التي كان يشطّ بنا الحديث خلال وجوده بها عنها، وعن تاريخها، وإشعاعها،وماضيها العريق ،ذلك أنّه كان يعرف أنّ هذه المدينة الجميلة تتميّز بخاصّية فريدة بإعتبارها العاصمة الأوربية الوحيدة التي تحمل إسماً عربيّاً أو أمازيغياً ،كما أنها من بناء المسلمين،وكان الحضورالعربي، والأمازيغي الإسلامي فيها حضوراً قويّاً، ونابضاً، وزاخراً،وقد أمست اليوم من أكبر الحواضر الأوربيّة ، أسّسها تحت إسم ” مجريط” في القرن التاسع الميلادي الأمير محمد بن عبد الرّحمن الثالث ،خامس الأمراء الأموييّن في الأندلس كثغر أعلى لردّ وصدّ الخطر الداهم دائماً من الشمال.
كان المهدي المنجرة مولعاً كذلك بزيارة بعض المدن الإسبانية الأخرى بين الفينة والأخرى خاصّةً فى منطقة الأندلس فى الجنوب الاسباني لإلقاء بعض المحاضرات فى العلاقات الدّولية، والعلوم المستقبلية ،أو المشاركة فى العديد من الملتقيات،والمناظرات، والندوات الثقافية وسواها من مجالات المعرفة، ولقد كتبتُ عنه،وعن أنشطته، ومشاركاته فى بعض هذه الملتقيات فى بعض الجرائد العربية الدولية الكبرى الصّادرة فى لندن التي كنتُ أكتبُ فيها بإنتظام إبّانئذٍ، كتبتُ عنه إيماناً منّي بفكره النيّر،وإعجاباً بعلمه المستنير، وبمداخلاته القيّمة، وإسهاماته الرّصينة فى هذه الملتقيات على وجه العموم .
مَنْ أَنْتَ..؟
الحديث عن هذا الشّخص النبيل، والمثقف الأصيل، والمفكّر الفذّ يحلو ويطول وهو دوماً ذو شجون يجرّ بعضه بعضاً ، ومن أطرف ما كنّا قد سمعناه عن المهدي المنجرة وزاد إعجابنا به، وأحترامنا له أنه كان نشيطاً، يقظاً، ومشاركاً بحماسٍ منقطع النظير منذ نعومة أظفاره ، منذ أن كان ً طريَّ العود، غضَّ الإهاب، فى شرخ شبابه، وريعان عمره فى الحياة الطلاّبية، والثقافية، والإجتماعية، والسياسية، والشبابية ،وكان يحضر التجمّعات الشعبية التي ينظمها الوطنيّون،وكان يؤمّ طلباً للعلم والتكوين المدرسةَ و”الكُتّاب”( يُسمّى فى المغرب المسيد) فى آنٍ واحد.
وعندما ذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإستكمال دراسته العليا بجامعة ” كورنيل” ، كان لمّا يَزَلْ فى ربيع عمره ،كان شغوفاً بحبّ الإستطلاع، والفضول العلمي،والخوض فى مختلف حقول المعرفة، والتطلّع نحو إستبطان المجهول ،وإستكناه المستقبل، وسَبْر آفاق كلّ المعارف والعلوم ، وكان فضوله المبكّر العلمي، والمعرفي يدفعه دائماً إلى التطلّع والسُّؤال، والتساؤل والإستفسار بدون هوادة ، وبدون إنقطاع ، عن كلّ ما يخطر له على البال فى مرافق العلم، وحقول المعرفة، أو عن كلّ ما كان يعنّ له فى متاهات الحياة ،وذات مرّة ضاق أستاذه به ذرعاً وزاد إعجابه به فى هذه الجامعة لكثرة أسئلته وفضوله العلمي وتساؤلاته ، فما كان منه سوى أن صاح فيه بإنبهار : مَنْ أَنْتَ…؟ .. who are you? وأردفَ الأستاذ الأمريكي قائلاً له : تساؤلاتك الدقيقة المتوالية ستجلُبُ لك الكثيرَ من المعارف، ولكنها قد تجلب لك معها الكثيرَ من المتاعب أيضاً .!
كتابه قِيمةُ القيَم
وفى إطلالة عاجلة ولكنها لا تخلو من فائدة على فكر وبعض تأمّلات المهدي المنجرة فى المجتمع،والتنميّة، والثقافة،ومستقبل الثقافة، والإقتصاد، والعلم، والتعلّم التي تعتبر من المقوّمات الاساسية فى حياة الفرد والجماعة فى محيطه الإجتماعي، فى عرض قيّم، ودراسة متّزنة ورصينة لتقية محمّد فى هذا الصدد لكتاب ” قِيمَةُ القِيَم” للمهدي المنجرة نقرأ بكلّ إعجاب : ” أنّ المؤلف يُولي الاهتمامَ بمختلف القيم الموجّهة للمجتمع توجيهاً صواباً سواء من داخله أو حتى فيما يمكن أن يربطه بالخارج من علاقات”. وكذا : “… ورغم كثرة البرامج الدولية للتنمية، لاسّيما في أفقر الدول، حيث يزداد الإهتمام الدّولي، فإنّ المساهمة الوطنية نادراً ما تمثل أقلّ من سبعين في المائة من المجموع، وتبقى المساعدة الدولية التي تنتج عن هذا التعاون ضعيفة من ناحية الكمّ، إذن يصبح من الضروري القيام بمقاربة منظومية في التحليل لتقييم جودة التفاعل الثابت بين المستوى الوطني والمستوى الدولي، والمهمّ في هذه المساعدة الخارجية هي الأفكار، والتصوّرات الناتجة عنه والتجارب الصّادرة منه” . وبربط هذا المحتوى بالأحداث الراهنة خصوصاً بما يتعلق بدول صنفت إقتصادياً بـ (دول نامية) أو (في طور النموّ) ، فإنّ إشكالية تبعية الدّول النامية للدول (المتطوّرة) مستفحلة كلما إرتبطت بما يُسمّى “مساعدات” من هذه الدّول، وجعلت معتمدها الرئيسي عليها بالرّغم من ثبوت ضآلة مساهمتها في النهوض، خصوصاً بقطاع الإقتصاد الذي أصبح ركيزةً أساسيةً للإعتراف بوجود الدّول في معالم القوة. إذ أنّ أهمّ ما يمكن أن يساهم في “النهوض” إنطلاقاً من التعاونات بين الدول مرتبط بعالم الأفكار، والتصوّرات الناتجة عنها “.
الثقافة المتوسطيّة
ونقرأ كذلك – حسب العَرْض السابق – فى هذا الكتاب الرّصين من جهة أخرى حول أهمية “الثقافة المتوسطية” ” التي تربط بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط ، بل أكثر من ذلك ربط مستقبل هذه الدول ومستقبل قضاياها رهين بمستقبل الثقافة بها، على إعتبار أنّ الثقافة لها إرتباط عريق، و صلة وثقى بجميع جوانب الحياة، ولا يُمكن نسخ ثقافة مجتمع مّا، أو دولة مّا، في حيّز آخر تحت مُسمّى ” نقل الثقافة “، لأنّ التعدّد وارد بحكم أنّ لا شمولية لثقافة مّا من جهة،ومن جهة أخرى باعتبار الثقافة نسبيّة، والموروث الثقافي هو مفتاح من مفاتيح التنمية، وبالتالي فإنّ أيَّ محاولة لتعميم ثقافة مّا، أو نقلها ،أوإستنساخها، وإجبارها ما هي إلاّ محاولة للتشتيت، والتفرقة، والهدم وليس البتّة البناء”.
ويقول المهدي المنجرة فى هذا المجال :” إنّ إحدى القضايا الأساسية بالنسبة لدُول حَوْض البحر الأبيض المتوسط، تتعلق بمستقبل ثقافاتها،لأنّ هذا المستقبل مرتبط بجميع الجوانب الأخرى للتنمية الإستراتيجية، والسياسية ، والاقتصادية، والاجتماعية،والثقافية إلخ..أضف إلى ذلك أنّ هذا المستقبل غير قابل للإنقسام، لأنّ هناك ثقافة متوسطيّة بكل ما تحملُ هذه الكلمةُ من معاني سامية”.. وعليه فإنّ مفهوم “الثقافة” بما تضمره من أبعاد – حسب المنجرة – لها وقعٌ عميق على مستقبل الشعوب ووجودها وارتباطاتها فيما بينها، وذلك نظراً لما لها من جذور ضاربة في عمق التاريخ، وما تكتنزه لواقع المستقبل، ويؤكّد المنجرة فى هذا القبيل كذلك : “إن الفرَضية السّابقة قد يظهر فيها شئ من المبالغة بالنسبة لأولئك الذي لا يهتمّون بالماضي، ولا بالإطّلاع على كتب التاريخ، وحسب تجربتي، فإننّي أدرك أنّه كلما إزددتُ إهتماماً بالدراسات المستقبلية، زادني ذلك الشعور بالحاجة لترسيخ رؤيتي على أسس تاريخية صلبة ” .
الهويّة الثقافية
وفى مَعْرِض حديث المنجرة عن “الهويّة الثقافية” التي يعتبرها سبباً في وجود “منظومة القيم” وبغيابها تفشل المجتمعات في إثبات ذاتها أو هُويّتها يقول :” بأنّ هناك فترات يؤدّي فيها الانفتاح التلقائي وليس الإنتقائي إلى غزو كبير، وإضعاف أعزّ ما للإنسان وهي هُويته الثقافية ” .
ويركّز المفكّر المنجرة – حسب تقية محمّد – على ضرورة صَيْرُورَة حَرَكية ” التعلّم ” من المهد إلى اللّحد، منبّها إلى ما يُمكن أن يجابه أو يعوق المسيرةَ العلمية بين هاتين المحطتين مستقبلاً، مشدِّداً على أنّ أهمّ عنصر من عناصر التعلّم هي (القيم) مشيراً فى هذا المضمار: “وأهمّ عناصر التعلّم هي القيم، وعندما نشير إليها كعناصر، فإنّنا نؤكّد على دورها الفعّال في عملية التعلم، فقيمة البقاء مع الكرامة يمكن أن تكون ذات آثار مباشرة في التوجيه، وأنّ ظهور القيم هو ظهور الحدّ الفاصل بين الذاتية، والموضوعية، وبين الحقائق، والأحكام، وبين ما هو كائن، وما يجب أن يكون، وبين العلم والأخلاق، والأحكام وبين العلوم الحقة والعلوم الإنسانية، وبين الغايات والوسائل، وبين المعقول، واللاّمعقول”.
المفرد حين يغدو جمعاً
قال عنه “ميشال جوبير” وزير الخارجية الفرنسي السّابق المزداد فى مدينة مكناس ( المغرب) ذات مرّة: ” إنّ الجلوس بجانب هذا ” المنذر بآلام العالم ومآسيه ” لساعاتٍ طويلة يترك لديك انطباعاً بأنّك أمام رجل يشتغل في شباب كامل، مثل تلميذ يعالج واجباته المدرسية كما يليق”. جاب هذا الطائر الحكيم أزيدَ من مائة وأربعين دولة عبر العالم في تجربته الغنية مع الحياة ،والمعرفة، حاور ثقافات، وجاور معالم حضارية، ولامس أفكاراً وناظرعقولاً، وعاد ليجلسَ على كرسيّ صغير في غرفة ضيّقة تحوطها كتب بكل اللغات ليقول لك الخلاصة: ” بهذا يعرف الله ” ! إنه المهدي المنجرة رجل واحد بصيغة المجموع ، أو إنّه المفرد حين يغدو جمعاً “.
وقيل فيه، أو بالأحْرَى قيل عنه كذلك : ” من حسن حظ المغاربة أنّ المهدي المنجرة هو واحد منهم، وإذا كانت لدى جنوب افريقيا مناجم الذهب ،ولدى مصرالأهرام ،ولدى البرازيل القهوة، فلدى المغرب الفوسفاط والسّمك والمهدي المنجرة. يرى بعيداً مثل صقرالثاقب النظرويحلّق عاليا كطائرويتكلّم مثل حكماء الجبال في الصّين .
شهادات
كانت جمعيَّة “أماكن”، المغربيية قد نظمت بالمدرسة العليا للتعليم التقني بمدينة الرّباط منذ بضع سنوات لقاءّ فكريّاً ثريّاً على إثر رحيل المهدي المنجرة، قدّم خلاله ثلّة من الاساتذة، والباحثين والمفكّرين المغاربة الذين عرفوا المنجرة شهادات، ومداخلات حول فكره،وأعماله،ومسار إبداعاته ، كما تمّ خلال هذا اللقاء الإعلان عن خلق مؤسّسة تُعنى بفكر المفكّر الر!احل. وأشار الباحث الأستاذ مصطفى محسن أثناء هذا الملتقىَ فى هذا السياق : ” لقد كان المهدي المنجرة مثقفًا مستقلًا، يستعصِي حصرهُ في أيِّ زاوية، وحريصاً كبيرَ الحِرص على مجابهة الغوغائيَّة، والانتهازيَّة وتحنيط الأفكار، وذلك تحديدًا ما جرَّ عليه نقدًا عنيفًا “.
ورصد الأديب الباحث يحيى اليحياوِي – من جهته – فى نفس المناسبة على وجه الخصوص علامتين إثنتين طبعتا فكر المهدي المنجرة ،وعملَه، وأشتغالَه،ومباحثَه، أولى هاتين الخاصّيتين الإيمان بالمنظومة، كما يتبدَى ذلك في أعماله بدءاً من ستينيّات القرن الماضي، إلى أنْ أنهكه المرض سنة 2010،كما أنه حسب تعبير الأستاذ اليحياوي: “كان موقنًا أنَّ التطرّق إلى أمرٍ من الأمور لا يمكنُ أنْ يتحقق دُون ربطه بباقي العناصر الأخرى”.
وفى معرض الشهادات، والمداخلات التي قدّمها المثقفون المغاربة، فى مختلف المناسبات منذ رحيل المنجرة أشاد أوالمتدخّلون بهذا المثقف الموسوعي، وإستحضروا الفكر الخلاّق لهذا الرجل الذي- عكس ما كان يعتقده البعض- كان زاهداً فى المناصب العليا وذلك ما ذهب إليه، وأكّده الباحث الأستاذ عبد الرحمن لحلُو، حيث أشار فى هذا الصدد :”إنَّ المهدِي المنجرة هو الذِي كان زاهدًا فيها بالأحرى، مختاراً لنفسه ملازمة الكلمة الحرّة، التي تضيقُ بقالبٍ مؤسّساتي ينزعُ إلى توجيهها، كان إنساناً مبدئيّاً، وحتَّى لغات العصر المتداولة التي أتقنها، فنهل بها من الفكرالغربِي، لمْ تجعله ينصرفُ عن لغته، ولا هي جعلته يحجمُ عن الإنتصار لها “. إنّه المثقّف والمفكّر،الإنسان.
وأشار الباحث الأستاذ سعيد السالمي مُحقّاً ضمن مقال رصين نشره مؤخراً حول المهدي المنجرة : “ميزة المنجرة أنه كان يطوع التاريخ والاقتصاد والجغرافيا والسياسة والدبلوماسية والديموغرافيا والعوامل الثقافية لتحليل مجريات الأحداث، واستشراف المستقبل المتوسط والبعيد، بعيداً عن المعادلات الجيوبوليتيكية المُبسطة.. هذه الميزة هي التي جعلته يتبوأ مكانة مرموقة في الأوساط الفكرية السياسية الدولية “.
تضامنه مع قضايا التحرّر
كان المهدي المنجرة ذا طبع مرح، خفيف الظلّ ، يحبّ البسط، والنكتة الظريفة، والطرفة الطريفة، والمستملحة الحلوة ، ولم تكن البّسمة تفارق مُحيّاه ،وكان يتميّز بتواضعٍ جمّ يجعله يعلو فى أعين كلّ من كانت له حظوة التعرّف عليه عن قرب،وكان عطوفاً،حنوناً، بارّاً رحيماً على الشباب ،والطلبة المتعطشين للعلم والمعرفة والتحصيل. كان مدافعاً ومتعاطفاً ومتضامناً مع قضايا التحرير فى بلاده التي ذاقت الأمرّيْن من أجل تحقيق الإستقلال والإنعتاق من ربقة الاستعمار والتخلّص من نيره البغيض ، بدءاً بتأييده المطلق للحركة الوطنية حتى استقلال المغرب، وتعاطفه وإتضامنه مع حرب الرّيف التحررية الماجدة فى شماله ومع قضية فلسطين المقدّسة و مع سائر المعارك الكبرى الباسلة التي خاضها الشعوب المغاربية وعرفتها مختلف مناطق بلاده شرقاً وغرباً ومن أقاصي شمال المغرب إلى أقاصي جنوبه باستكمال وحدته الترابية بل وفى مختلف أنحاء المعمور.
أمّ الحواسيب ” يَطّو”
كان المهدي المنجرة رحمه الله يستعمل بإستمرار منذ ذلك الإبّان حاسوباً صغيراً يستخرجه خلال محاضراته ،ويسجّل فيه مداخلاته، ويدوّن ملاحظاته ، سواء كان مُحاضراً، أم مُشاركاً، أم مُستمعاً، ولم يكن يفارقه أبداً، رأيته عنده لأوّل مرّة خلال مشاركته فى لقاء دولي فى مدريد حول علم المستقبليات، علمتُ فيما بعد أنه كان قد وضع له إسماً أمازيغيّاً طريفاً إذ كان يسمّيه وينعته ب ” يَطّو “، ويطّو هو إسم إمرأة رّيفية لها شأن كبير فى تاريخ المغرب كانت قد لعبت دوراً هامّاً في مساعدة الجيش المغربي على إسترداد مدينة طنجة من قبضة الإنجليزعام 1095 هجرية كما يؤكّد العالم والمؤرّج الرباطي الجهبذ الجليل سيدي عبد العزيز بنعبد الله رحمه الله فى كتابه القيّم الصادر فى بيروت عام 1981 بعنوان ( شقراء الريف) ،(أنظر مقالي فى ” القدس العربي” حول هذا الموضوع العدد 8125 بتاريخ 4 يونيو(حزيران)2015) .
ذكريات تستعصيّ على النسيان
فى ختام هذا العرض – والختم مِسك كما يقال -حريٌّ بنا ، بل لا مفرّ ولا مهرب ولا ملاذ لنا من أن نستحضر بعض الذكريات الرغيدة ، والهُنيهات السّعيدة التي قيّض الله لنا أن نعيشها فى الديار الإسبانية فى الثمانينيّات من القرن المنصرم إلى جانب هذا المفكّر الفذّ،والمثقّف الجسور رفقة الصديقيْن العزيزيْن الأديب الوزيرالسّفير محمّد العربي المسّاري، والكاتب المبدع فى لغة سيرفانتيس محمّد شقور رحمهم الله تعالى جميعاً، وكاتب هذا المقال . خلال إحدى زياراته لمدريد ذهبنا ذات ليلة نحن الأربعة لنتعشّى فى أحد المطاعم الكائن بأحيائها العتيقة ذات الطابع العربي الأصيل، وعندما ناولنا النادلُ قائمةَ الأطباق ،وألقينا نظرة ًعَجْلىَ على أسماء الوَجبات التي كان يعدّها هذا المطعم، طلب منه المنجرة شريحةَ لحمٍ بقري يسمّيها الإسبان de ternera Solomilloوتُنطق فى اللغة الأسبانية “سُولُو مِييُّو filet de boeuf ” فقال للنادل مداعباً بلغة سيرفانتيس : ( نَعَمْ أريد “سُولُومِييُّو ” لأننّي أريده أن يكون لي لوحدي.. !) أيّ ما معناه وكما يُنطق فى اللغة الإسبانية Solo mío …..))أيّ لي لوحدي، ،مستغلاً تقارُب، وتشابُه، ومضاهاة ،وتطابُق النطق فى الكلمتيْن،وإن كانت طريقة كتابتهما متباينة، فانخرط الجميع فى ضحكٍ مُسترسل ،وطالت بنا السّهرة .. ويا لها من سهرة، كنّا ضيوفاً على طعام مُزّ،وشرابْ مُرّ، ( كما كان يسمّيه الشاعر بشّار بن بُرد !)، وفِكرٍ خلاّق، وأدبٍ رّفيع، ومع فيضٍ من قبسات،وقفشات،وهمهمات، وتمتمات، وهمسات،وإشارات، وإرهاصات، واستكناهات،واستغوارات، واستبطانات خبايا “مِهنة” أو بالأحرى ” مِحنة” السياسة…!!
ومرّ ليلنا إختلاساً ،وجَعَلْنَاه قصيراً – كما يُقال بالعامّية المغربية – يعني أنّنا “قصّرنا”..قصّرنا فى ليلنا، ولكنّنا لم نقصّر قطّ فى صفاء صداقتنا، ونقاءعِشرتنا، وبهاء أنسنا، حافظين للذكرى الجميلة ، راعين لها ،حريصين على استحضارها وصَوْنها فى كلّ وقتْ وحين ما حيينا…! وأنستنا هذه الأمسية اللطيفة الحافلة باللحظات السّعيدة ،والهنيهات الرّغيدة، والأحاديث الشجيّة، والأقاويل الطليّة، أنستنا ليالي مدريد الشتويّة القارصة ،وملأها أوعوّضها دفء وصايا “أبي حيّان التوحيدي” ف كتابه الشهير “الصّداقة والصديق” لمدّ حبل هذه الصداقة دوماً طويلاً ومتيناً، والحفاظ على شعلة المحبّة،وجذوة الأخوّة متأججتيْن مع هذه الصّفوة الخيّرة من المُفكرين أو مع مَنْ يُسمّيهم أو يُطلق عليهم أبو القلسفة الحديثة الفرنسي ” رينيه ديكارت” إسمَ : ( أنبل النّاس) ..!. رحم الله هذا العبقريّ الطيّب النبيل ، والمثقف الحصيف الأصيل ، والإنسان الذي لا يطوله النّسيان !