“لَهْدِيَّة”..
منعم وحتي – المغرب
كنت ابن السبع سنوات، حين انتابتني فجأة حالة هلع هستيرية وأنا أركض كفأر مذعور، لا ألوي على شيء، اقتفي أثر موكب عرس عائلة بالبلدة، وقد تجمد الدم في عروقي، تتسارع نبضات قلبي وكلي أتصبب عرقا؛ وكامل جسمي يرتجف رغم أن خطواتي تحاكي سرعة النمور.. لم تنفرج أسارير وجهي إلا حين لمحت “لَهْدِيَّة” على مرمى البصر، في كامل زينة حشدها البهي، لم أتمالك نفسي حين اختلط الرعب بالفرح وأنا أدنو من موكبها، اخترقت الجَمْعَ بسرعة البرق، وأنا أتخطى الصفوف كقشة تعصف بها سرعة الرياح وسط أغصان الأشجار.. وجدتني أمام عربة “لَهْدِيَّة”..، قفزت وسطها مبعثرا الحلويات وقناني العطر رَفْساً على ثياب عروس البحر، لا أخشى لومة لائم، حتى أبصرت “شكارتي” (محفظتي المدرسية) وسط ركام الهدايا، لأطلق صرخة هستيرية “وجدتها وجدتها”، كما فعل أرخميدس ذات زمن متأبطا حقيقة التاج الذهبي، مع فرق بسيط جدا أنني تأبطت محفظتي المدرسية التي تركتها سهوا في زحمة “لَهْدِيَّة”..
إليكم الحكاية..
لا أعرف لماذا تٌجْمِعُ عادات المغاربة على اختيار توقيت البعضِ من معيشِهم، على اتفاقات عُرفية مقدسة، فمن المستحيل أن تجد عربة بائع النقانق الشعبي صباحا أو زوالا، لكن أدخنة خلطاته السحرية تنبعث من بعيد كما أدخنة مجمع القساوسة في الفاتيكان، وكل ذلك دائما بين العصر والغروب.. ذات الشيء بالنسبة ل “لَهْدِيَّة” فلا تجد موكبها المُشِعَّ بالفرح لا صباحا ولا ليلا، بل في نفس التوقيت المغربي المقدس للسعادة بين العصر والمغرب، ولن نستغرب في جِنَاسِ كلمة المغرب المُحِيلَة على التوقيت وكلمة المغرب التي ترمز للبلد…
كانت الساعة تشير إلى منتصف الزمن بين العصر والمغرب، حين غادرنا حجرات الدرس، كما تتحرر الشعوب المضطهدة من نير الاستعمار، وسُحُبُ الغبار تملأ المكان حين خروج جحافل هذا النمل الصغير بمحافظه المدرسية، كَنَقْعِ حوافر الخيول في معركة وادي المخازن.. كنتُ صُحبة بعض الصعاليك الصغار من زمن الشنفرى المغربي، حين لمحنا نواةً قيد التشكل ل “لَهْدِيَّة”، وللتذكير فهي موكب احتفالي يتشكل من نواة عائلية للأقارب والجيرة، في الغالب خلف عربة يجرها حصان، محملة بالهدايا (حلوى، عطر، حناء، زبيب، علكة، ملابس للزينة، أكياس سكر، “دّْهَازْ” -الذي يشكل جهاز تهيئة العروس-،..)، والكل مُرتب بشكل بديع في أطباق تقليدية مصنوعة بتشبيك نبتة الدوم..، ويتقدم الحشد حامل اللواء، عفوا حامل قصبة طويلة يِعُلوها ثوب أبيض أو أخضر ملفوف على كومة صغيرة من النعناع،.. وحسب تيمة الفرح : خطبة، زواج، حج، ختان، نجاح في الباكلوريا،.. يرافق الوفد ثور على قرنيه بالونات ملونة،.. يبتدأ ازدياد عدد الملتحقين بموكب الفرح مع استمراره في المسير، واشتداد إيقاع الطبل و”الغيطة” (زمارة شعبية مغربية)، كانت “لَهْدِيَّة” مغناطيسا جاذبا للروح الإنسانية والرقص والانغماس الصوفي في نوبة مقدسة من الفرح السامي، والمتعالي على كل سوقية الرغبات المكبوتة، حيث تنخرط النساء والأطفال والشيوخ ومحيط المارين في الانتشاء بهذا الطقس المغربي الراقي، وكل الأسرة من الأبوين إلى الأعمام والأخوال والجيران يحتضنون لمة تقاسم السعادة، بأقصى جذوة الفرح، لكن أيضا بمنتهى درجات الاحترام والرقي الإنساني.. فلا صوت يعلو على صوت السعادة البشرية…
تسلل الصعاليك الثلاثة بين صفوف “لَهْدِيَّة” وصولا لبؤرة الرقص المتقد على مقربة من الطبال والغياط، لم أتمالك نفسي حين ألقيت محفظتي المدرسية فوق العربة بين أطباق الدوم، لأصبح جزء من مَجَرَّةِ الرقص البديع وغناء نسوة البلدة بتناغم مع ترديدنا للازمة تلك المقطوعات الشعبية الحالمة، والتي لا زال صداها يملأ دواخلي حتى الآن.. كنا خارج الزمن حين قطعنا مسافة طويلة، لأنتبه أنني ابتعدت كثيرا عن منزلنا، تَثَاقَلْتُ في خطاي، لأجد نفسي في نهاية الموكب رفقة الصعاليك الصغار..
غادرنا الموكب منتشين بالاغتسال الروحي على إيقاع ثلاثي الموسيقى والرقص والغناء، وأخذتنا حِمْيَةُ الحديث عن جرأة قيادتنا للحشد المبارك، والأنامل الساحرة لموحا الغياط، ليتحول حديثنا إلى مغامراتنا الطفولية وشغبنا المدرسي. مع اقترابنا من بيوتنا الواطئة على حد تعبير الروائي محمد زفزاف، سأنتبه فجأة إلى أنني نسيت محفظتي المدرسية بين أطباق عربة “لَهْدِيَّة”، لينقلب كل جو الفرح والمرح الإنساني إلى لحظة رعب حقيقية..
“فين الشكارة ؟”
بقية الحكاية تعرفونها..
من مرويات “لَهْدِيَّة” :
يُحْكَى والعُهدة على الرَّاوي، أن عَرَبَةً محملة بالهدايا وبأهل العريس والعروسة، كان يجرها في مقدمتها جرار بسائق معروف في البلدة اسمه “عبيقة” (تصغير لاسم عبد القادر)، حين اشتدت وطأة غناء الغيطة والطبل وتَمَايُلِ الأجساد رقصاً، لم يتمالك عبيقة نفسه وقد احتوت جسده رعشة الإيقاع الشعبي الساحر، ليترك عجلة قيادة الجرار وهو متحرك في وضع تشغيل، استمر الرقص الجماعي مدةً مع عبيقة داخل العربة.. لينتبه الجميع أن الجرار يتحرك دون سائق.. لحسن الحظ أن قَدَرِيَّةَ الفرح الجميل كان لها مفعول سحري لإنقاذ الروح الإنسانية المرحة..
فالفرح منقذ للبشرية.