قصة قصيرة
“العجوز و القط“
محمد عجرودي – باريس
النافذة مشرعة على الساحة الفارغة، إلا من بعض الأثاث القديم، المتآكل بفعل الرطوبة… ودالية ذابلة أوراقها، أغصان الدالية ما تزال متمسكة بالجدران العالية للساحة. العجوز عينها على النافذة، وحيدة تتأمل زوايا البيت، وحيدة تتأمل كبة خيط صوف رمادية، الكبة على الطاولة الوحيدة في زاوية البيت، وفي الركن الآخر كرسي هزاز، هدية عيد ميلادها الثمانين…
الكرسي وحيد يتأمل العجوز الوحيدة… عينها مرة أخرى على الهاتف الذي لا يرن إلا قليلاً.
القط عند الظهيرة ينام على عتبة النافذة المطلة على الساحة الفارغة، يستيقظ بكسل، يلوي ظهره، يتكور آخذاً شكل قوس، رؤيته تغري فضول العجوز… القطط لا تهرم ولا تشيخ… القط يمدد قدميه الأماميتين، ينظر إلى النافذة، يتأمل العجوز بعينين حزينتين… يقفز إلى داخل البيت البارد، ينط فوق السرير قرب العجوز، تمرر أناملها النحيفة المرتعشة على فروة شعره المتشابكة، يداعبها بمخالبه الصغيرة، ثم يستلقي على ظهره عند إحدى قدميها، تتأمل حركاته، تبتسم، القط ينظر إليها بعينين مشاكستين…
القط بقفزتين: الأولى على سجاد البيت والثانية فوق الطاولة حيث كبة خيط الصوف الرمادي، يرتطم بها، يدحرجها إلى الأسفل، محاولاً الإمساك بها، تغوص مخالبه الصغيرة في أعماقها، يحاول عبثاً التخلص منها، كلما حاول، زادت تمسكاً بمخالبه…
فيختلط خيطها ويتشابك. العجوز ترمقه، تصرخ، لا تقوى على الصراخ، القط غير مبال، يدحرج كرة الخيط، يسلها خيطاً خيطاً، يبعثرها، يركلها مرات عديدة… ينظر إليها بعين قط ماكر، يتأمل وحدتها القاتلة داخل الصمت، ووحشة المكان… يهمس في داخله (الأمكنة بساكنيها)…
يغادر عبر النافذة، مسرعاً إلى الساحة الفارغة إلا من بعض الكراسي العتيقة المتآكلة بفعل الزمن والرطوبة، متسلقاً تلك الدالية الميتة أوراقها… القط يغادر متى شاء… القطط لا تستأذن حين تأتي، ولا تستأذن حين ترحل…
العجوز وحيدة على الكرسي الهزاز تحاول عبثاً فك تشابك كبة خيط الصوف المعدة لقميص شتوي لن يكتمل… بيدين مرتعشتين تحاول فك الخيط، مرت ساعة، ساعتين، ثلاث ساعات دون جدوى… رن هاتفها وهي في غفوة خفيفة، أجابت: “ابني، تعال، هناك مشكلة مستعصية وطارئة… ويداي ترتعشان…”
بعد يومين، اندلف ابنها إلى داخل البيت، فك كل خيوط الصوف، رتب البيت، غسل بعض الأواني، فتح علبة الحساء المعدة سلفاً، قام بتسخينها… قبل جبهتها، تمسكت بيديه، ارتعشت لدفئهما… ثم رحل في صمت، الأبناء يرحلون متى شاؤوا… ويعودون متى شاؤوا…
القط عند الظهيرة، مستلقٍ فوق عتبة النافذة المطلة على الساحة الفارغة، إلا من بعض الأثاث المكسور ودالية… يستيقظ، يقفز على السرير، تداعب فراء شعره المتشابك، يقفز على الطاولة، يركل كبة الخيط، يحاول التخلص منها، يعبث بخيوطها، تتشابك… العجوز لا تقوى على الصراخ… القط يغادر…
رن الهاتف: “ابني تعال… يداي ترتعشان…” بعد يومين، اندلف إلى البيت، فك تشابك كرة الصوف المعدة لقميص شتوي لن يكتمل… رتب البيت، غسل بعض الصحون، غير ملابسها، أعد لها وجبة حساء بنكهة الطماطم… عانقها، قبل جبهتها، ارتعشت يداها لدفء يديه… غادر البيت، واختفى… بعد يومين لم يأت القط، كما كان يعودها كل ظهيرة. العجوز تراقب النافذة، تتأمل كبة الصوف، تدحرجها على الأرض، تلتقطها، تسحب رأس الخيط، فينسلخ إلى آخره، تعبث به، تخرج ما بجوف الكبة، فتختلط خيوطها… العجوز بنية مبيتة تعيد اللعبة… كل يومين يعاود ابنها زيارتها، ليعيد الخيط كما كان، بعد ساعات طوال… يقبلها ثم يغادر… القط الآن عند الظهيرة، مستلقٍ على عتبة النافذة، عند جارتها العجوز… يراقب العجوز بعينين مشاكستين ماكرتين، يتأمل البيت البارد، صمت المكان، يتأمل كرة الخيط…
محمد عجرودي / باريس 22/05/2024