غزة تغير ما بالأنفس

عبد المولى المروري

إن ما يقوم به الكيان من تقتيل وحشي وإبادة جماعية يزيد من عزلته على مستوى العالم بحكومات الغربية التي يزداد حرجها أما كل هذه الجرائم التي لم يشهد لها العالم مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية..

وإن نفاق الحكومات الغربية يزيد من عزلتها أمام شعوبها الحرة بعد أن أبانت عن نفاق مقيت وعجز غير مبرر عن إنقاذ شعب مظلوم أعزل وهي التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها..

ووكذلك إن تخاذل وتطبيع الأنظمة العربية يزيد من عزلتها أمام شعوبها أمام ما تبديه من خيانات وتخاذل وإمعان غير مفهوم في التطبيع وتعميق العلاقات مع الكيان المجرم دون سبب مقنع.. وهذا ما يتسبب في تحول عميق في وعي ووجدان الشعوب الرافضة لهذه المجازر، وهذا النفاق والتخاذل والتطبيع المصاحب لها..

لقد أصبح واضحا أن بعض الحكومات الغربية رغم نفاقها تتمنى لو تنقلب على دولة الاحتلال إن استطاعت إلى ذلك سبيلا، وأن الكثير من الشعوب الغربية تتمنى لو تنقلب على حكوماتها بسبب نفاقها ودعمها للاحتلال، وأن كل الشعوب العربية تتمنى لو تنقلب على أنظمتها المطبعة والمتخاذلة.. هكذا يحدث التحول العميق في خريطة العالم وتوازناته، وهكذا تتغير المعدلات التي تتحكم في الأنفس والواقع، وهذا هو التفسير الذي جاء في قوله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..

لقد بدأ ما بالأنفس يتغير تغيرا جذريا، سواء على مستوى العالمين العربي والإسلامي، أو على مستوى العالم الغربي، هذا التغيير يجب أن تواصل عمله دون توقف، وهي عملية متعددة الروافد، وإن كان أهمها المشاهد اليومية التي تبثها القنوات الدولية والإعلام العالمي، التي لا تجعل للضمير الإنساني فرصة للراحة أو لحظة للنسيان، أو إمكانية للتجاهل والإعراض، فلابد أن تدعم هذا الرافد روافد أخرى، أهمها رافد الوعي الذي يجب أن يشتغل عليه المثقفون والعلماء، لأن هذا الرافد يساعد الجماهير من مختلف بقاع العالم على تحقيق النضج في اتخاذ القرار المناسب أمام النفاق والتواطؤ الغربي، وأمام التخاذل والخيانة التي تمثلها الأنظمة العربية.

وإلى جانب رافد الوعي لابد أن يتحرك رافد الشجاعة والجرأة الشعبية من أجل حمل الجماهير على خطو الخطوة الأولى نحو التغيير الجذري.. هذا الرافد تشترك فيه كل القوى الحية في كل بلد، فإذا كان الوعي يزيل الغشاوة التي وضعتها الأنظمة على أعين شعوبها، ويحرر بصرها وبصيرتها لترى الحقيقة بعين العقل وبصيرة القلب، فإن رافد الشجاعة وبفعل عنصر التوتر الجماعي الجماهيري يزرع في الجوارح المشلولة والضعيفة الروح من جديد كي تتحرك بخطا ثابتة نحو خلاصها وحريتها التي كانت مسجونة في أقبية الأنظمة العربية الاستبدادية..

إن التغيير الذي يلامس الأنفس هو منطلق التغيير الذي يمتد إلى العقل وتوابعه، وإلى القلب ونبضاته وشرايينه، وإلى الجوارح وأعوانها.. فالنفس التي خلقها على الفطرة تتشوف بطبيعتها إلى الحق والعدل، وتمج الظلم والطغيان، وعندما يصل هذه النفس طَرَقات متواصلة وعنيفة من هذا الكم الهائل من الظلم الطغيان المجافي لفطرتها، تعمل هذه الطرقات على إسقاط الأدران التي علقت بها بسبب جرعات كثيفة ومركزة من التجهيل والتدجين والتضليل الذي عاشته في أقبية الأنظمة العربية المستبدة.. وتأخذ طريقها تدريجيا نحو الحقيقة والحرية..

الأكيد أن مقاومة وبسالة أهل غزة زرعت في كل شعوب العالم وعيا جديدا وروحا متجددة، ورسمت له صورة حقيقية وصادقة ليس لما يقع في فلسطين فحسب، بل لما يقع في العالم كله، وأزالت الغموض والالتباس ومنهج الضبابية الذي كان تتحرك فيه كل الحكومات الغربية المنافقة والمتواطئة.. ولاشك أن جبن ووحشية الكيان كشف سوأته أمام العالم، وساهم في كشف سوءات كل الأنظمة العربية الخائنة والمطبعة والمتخاذلة.. فلم يعد هناك ما يستر كل هذه الفظائع سواء ما تعلق بالجرائم أو التواطؤ أو الخيانة والتخاذل..

بل إن ما أبداه أهل غزة من صبر وإصرار على التحرر من طغيان الكيان واحتلاله رغم ما يعيشه كل لحظة من جرائم إبادة وتجويع وتهجير وتشريد أيقظ كل الأنفس الجماهيرية المخدرة، وصبرُ أهل غزة على ما تلقوه من ضربات أسقط الأدران العالقة في تلك الأنفس، وأرسل رسالة قوية وواضحة إلى وعيها ووجدانها مفادها أن إمكانية تحرر الشعوب العربية المقهورة من استبداد وطغيان أنظمتها المتواطئة أو المتحالفة مع الكيان الغاصب متاحة لمن طلبها بجد وصدق وسعى لها سعيها وهو مؤمن بالحرية والنصر.. وأعطى أهل غزة للشعوب العربية درسا بليغا في رفض الظلم والتمرد ومقاومة الطغيان، بل زرع في «أنفسهم» الأمل القوي في تحقيق الحرية وتغيير الواقع بمنهج مقاومة الظلم والاستبداد الذي أسسه الغزاويون بعد أن تسببوا لحكومة الكيان في أزمات خانقة وتناقضات عميقة تنبئ بانفجار داخلي قريب، وما كبدته المقاومة من هزائم نكراء بجيش العدو، أسقطت أسطورة وأكذوبة الجيش الذي لا يقهر، هذه الخدعة التي استخفوا وضحكوا بها على الحكام العرب..

التغيير في منحنى التاريخ أخذ انطلاقته مع 22 ربيع الأول 1445 هجرية الموافق ل 7 أكتوبر 2023.. وهي مرحلة تحول حضاري وكوني شامل وأكيد، شبيه بما عرفته أوروبا من تحولات عميقة كانت سبب نهضتها بدأ تقريبا سنة 1445 ميلادية.. وبسالة أهل غزة نقطة انعطاف في مجرى التاريخ المتدفق بأحداث عظام وتحولات جسام، سيكون هذا الانعطاف مسبوقا أو متزامنا مع انفجار بركاني كان خامدا لقرون، وسيتسبب في تغيير تضاريس وجغرافية العديد من مناطق العالم، وعلى رأسها المنطقة العربية.. هكذا يبدأ التحول العميق في مسار الحضارة.. والانطلاقة غزة..

(للإشارة فقط، 2023 – 1445 = 577 ، وولادة الرسول صلى الله عليه وسلم مؤرخة في ربيع الأول من سنة 571 ميلادية، وهذه بالتقريب هي وتيرة التحولات الحضارية الكبرى التي عرفها التاريخ البشري، انظر مقالي: الفجوة الحضارية الكبرى)..