الدولة العميقة
وصناعة النخب الجديدة
عبد المولى المروري – كندا
في هدوء تام، وفي أجواء باردة سياسيا وثقافيا، ودون إثارة أي ضجيج أو زوبعة، وفي غفلة واضحة من نخبة المغرب الثقافية والسياسية.. يبدو أن الدولة العميقة تعمل بشكل سريع وممنهج على صناعة نخب جديدة، لأن النخب السياسية والثقافية الحالية أصبحت عديمة الفائدة، وفاقدة للجاذبية والتأثير بعد أن أقدمت الدولة على إنهاء صلاحيتها واستنزاف رصيدها الأخلاقي والاعتباري، واستهلكت ما تبقى لها من مصداقية «مخدوشة» بعد أن أقحمت هذه النخبة نفسها طواعية، أو بإيعاز من الدولة في قضايا هامشية وتافهة، وإصدار مواقف وآراء تحت الطلب تؤيد أو تساند بعض اختيارات الدولة، سواء على مستوى السياسات الداخلية أو الخارجية، أو إعطاء تبريرات لبعض تدابيرها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية الكارثية، ومحاولة إقناع الشعب بها، أو التغطية على أزماتها وانحرافاتها، سواء كانت هذه النخب من الجهة الموالية للسلطة أو “المعارضة” لها، علما أن المعارضة في عمومها خلال العهد الحالي هي معارضة استعراضية أكثر منها معارضة حقيقية أو مبدئية..
فالدولة على درجة كبيرة من الوعي بأهمية النخب، سواء منها الموالية للسلطة أو المعارضة لها.. وربما أكثر من وعي النخبة نفسها بأهمية دورها ووجودها.. لأن النخب وحدها القادرة على تنشيط الحياة السياسية والثقافية وتحريك بركها الراكدة دون غيرها من باقي فئات المجتمع، وأن خلو الدولة من هذه الفئة قد يشكل خطرا وجوديا على عليها في علاقتها بالشعب الذي يعاني من سياستها الفاشلة والكارثية.. كما أنها تلعب إلى جانب الأحزاب والنقابات وهيئات المجتمع المدني دور الوسيط بين الدولة والشعب..
فقبيل انتخابات 8 شتنبر المزورة بقليل، أخذت الدولة في صناعة نخب جديدة وفق مقاسها وحاجاتها ومتطلباتها، لأداء مهام دقيقة ومحددة، ومناسبة للمرحلة السياسية المقبلة، استعدادا لمجموعة من الاستحقاقات والقرارات والاختيارات والتوجهات الصادمة والمصادمة لهوية الشعب وقيمه ومصالحه.. فدور النخب الجديدة خلال المرحلة الأولى من هذه الاستراتيجية هو أن تحل محل النخب التي أصبحت بائدة ومنتهية الصلاحية، فمِن هذه النخبة من تم اغتياله رمزيا (المقصود المثقفون والمفكرون والعلماء والسياسيون)، ومنها من تم إبعاده عن المشهد بأدب، ومنها من تم الانتقام منه بطرق مرعبة وقاسية، ومنها من تم نفيه قسرا أو اختيارا.. المهم فإن جيل النخب القديم انتهى ولم يعد صالحا للمرحلة الحالية بعد أن فقد تأثيره، وخفت بريقه واختفى وجوده الفعلي في الحياة السياسة والثقافية، ومن ثم أصبح بلا جدوى، إن لم أقل إنه أصبح عبئا على الدولة، ويجب التخلص منه بأسرع ما يمكن، وبأي طريقة كانت..
صناعة النخب الجديدة للمرحلة الحالية والقادمة يستهدف الفئتين معا؛ الموالية للسلطة والمعارضة لها لإحداث نوع من التوازن في المشهد العام.. نخب تعمل على مساندة السلطة والدفاع عن أطروحتها وقراراتها وسياساتها.. ونخب أخرى إلى جانبها، دورها أن تمارس نوعا من المعارضة والنقد، ولما لا الاحتجاج إلى درجة الإزعاج..
وبقليل من المتابعة والتدقيق، سيلاحظ المهتم والمتابع أن الإعلام الرسمي وشبه الرسمي أصبح يركز في السنتين الماضيتين على بعض الوجوه الجديدة، والإفساح المجال لها بإسهاب مبالغ فيه، وفي كل المناسبات.. حيث تساعد هذه المنهجية على غرس صورة نمطية في عقل ووجدان المواطن العادي، بأسلوب شيق ومؤثر، حتى يتم الاعتياد عليها، والقبول بها كوجوه جديدة مؤثرة وجذابة.. بتوظيف تقنية التكرار بجرعات متواصلة وتركيز شديد، مع إثارة مجموعة من المواضيع التي تتماشى مع أطروحة الدولة وأجندتها الخاصة.. لصناعة رأي عام موجه، ومن ضمن المواضيع والمثيرة للجدل حاليا: ورش إصلاح مدونة الأسرة، غلاء المعيشة وارتفاع أسعار العديد من المواد، ولا سيما المحروقات المحتكرة من طرف رئيس الحكومة، كرة القدم، قضية الوحدة الترابية، أزمة التعليم والنظام الأساسي، والقضية الفلسطينية والتطبيع مع الكيان بعد ملحمة 7 أكتوبر … كل هذه القضايا وغيرها تمت إثارتها في الإعلام الرسمي أو غير الرسمي الموالي للسلطة وفق رؤية الدولة، وفي اتجاه يبرر ويؤيد أطروحتها ومواقفها والتسويق لها، إلى جانب ممارسة «المعارضة» الاستعراضية بالأسلوب المغربي، التي لم ولن تتجاوز عتبة الحكومة ووزراءها..
المشهد الإعلامي والثقافي والسياسي المغربي – اليوم – يطغى عليه النموذجان، مع حضور قوي للجانب الموالي للسلطة، مع تأثيث المشهد العام بالمعارضة الاستعراضية لإضفاء نوع من «التوازن الشكلي» على هذا المشهد حرصا من الدولة على الاحتفاظ بجزء من المصداقية أمام الشعب المدجن، ولو كانت صورية..
فلابد أن يرى الرأي العام نوعا من الاختلاف، والصراع، والنقاش الحاد.. وغير ذلك من التجاذبات التي تساهم في تنشيط الحياة السياسية والثقافية.. حتى يستقر في ذهنه أن هناك توازنا بين القوى السياسية المختلفة، والتوجهات الفكرية والثقافية المتضاربة، ويؤمن بوجود حرية فكرية وحياة ديمقراطية حقيقية.. وهذا الأمر لن يتحقق إلا بوجود تيار فكري وسياسي موالي للسلطة، وآخر «معارض» له.. إلا أن هذا النقاش يبقى مضبوطا ومؤطرا تحت سقف الدولة (طبعا)، ودون أن يتجاوز عتبة الحكومة..
فإعداد وصناعة نخب جديدة يقتضي وجود «معارضةٍ» تظهر الكثير من «الشراسة» و«الحدة» في انتقاد الحكومة وبعض وزراءها.. مع التركيز على اثنين أو ثلاثة منهم دون وزراء وزارات السيادة (في إطار خطة ومنهجية تستهدف صناعة نخبة سياسية جديدة).. ولابد أن يقوم هؤلاء الوزراء بالتهجم على هؤلاء «المعارضين الجدد»، ولما لا تحريك مساطر قضائية ضدهم، مع الترويج لذلك إعلاميا على أوسع نطاق.. وترتفع بذلك أسهم هؤلاء المعارضين الجدد في بورصة السياسة استعدادا للاستحقاقات الانتخابية القادمة..وهي المرحلة الثانية من هذه الاستراتيجية، لأنه وفي غياب واقع سياسي وثقافي مُؤجَّج ونشيط مثل هذا سيصبح المشهد المغربي العام مملا ورتيبا، وعبارة عن واقع سياسي وثقافي محنط، تنعدم فيه الحياة، وتتوقف فيه الحركة..
الدولة تعمل بجدية كبيرة، وبإيقاع مرتفع على ملء الفراغ الذي تسببت فيه بتهميش النخب الجادة والملتزمة، وتعويضها بنخب على مقاسها ووفق احتياجاتها المقبلة.. وبذلك تكون منسجمة مع نفسها وأهدافها، في اتجاه تكريس واقع سياسي برؤية نمطية، وأطروحة سياسية واحدة لا شريك لها.. ولا تزاحمها أي رؤية أو أطروحة سياسية أخرى.. أطروحة تلتف حولها كل النخب، من مختلف التوجهات والمشارب (علمانية، إسلامية، اشتراكية، ليبرالية، أمازيغية…)، وضمنها يوجد مؤيدون ومعارضون.. منعا لأي «انفلات» سياسي أو «انحراف» ثقافي عن المسار المخطط له، والذي قد يصبح غير متحكم في مضمونه أو في تأثيره ونتائجه في حالة التراخي أو التساهل.. هو عمل استباقي محترف استفاد من تجارب سابقة أفرزها واقع سياسي طارئ، عرف نوعا من الانفراج المؤقت، ووضع الدولة في حرج عظيم خلال فترة الربيع العربي وحركة 20 فبراير الموؤودة.. والدولة عازمة على عدم تكرار ذلك أبدًا..
وشخصيا لا ولن ألوم الدولة على اختيارها هذا، فقد اختارت عن وعي موقعا واضحا لا لبس فيه ولا غموض (إلا على من على أعينهم غشاوة)، موقعا في مواجهة الشعب لفائدة الأوليغارشية الداخلية وما يفرض ذلك من علاقات وتحالفات دولية ذات الأهداف نفسها.. وإنما اللوم على النخب التي كانت ذات يوم تسوق لنفسها أنها من الشعب وإلى الشعب، وتعمل لمصلحة الشعب.. لتنكشف حقيقتها مع توالي الأحداث المُمَحِّصة والأزمات الكاشفة.. إلا البعض منهم، وقليل هم أولئك الذين حافظوا على مبادئهم السياسية وقيمهم النضالية وثوابتهم الفكرية والثقافية ..
هؤلاء البعض أو القلة التي حافظت على مبادئها، وأخلصت لقيم النضال كانت وما تزال ضحية تهميش وإقصاء من طرف رفاق درب النضال قبل إقصاء الدولة لهم.. بل شكل هؤلاء لبعض الأحزاب والتوجهات عناصر إزعاج وحرج لها أمام الدولة.. الأمر الذي كان سببا في تهميشهم وإقصائهم تنظيميا وسياسيا، وتُركوا للدولة لقمة سائغة، ولإعلامها فريسة سهلة.. تمت التضحية بهم حفاظا على علاقة الود مع الدولة، وبهدف الابتعاد ما أمكن عن نقط التوتر والتماس..
فبعض الأحزاب، وقد لا أجازف إذا قلت كل الأحزاب ساهمت بشكل كبير في صناعة نخب سياسية هجينة ومائعة.. وزنها الثقافي والفكري أخف من ريشة، ومواقفها السياسية أوهن من قشرة بيضة، ونضالاتها الحقوقية هي والعدم سواء كلما تعلق الأمر بقضايا انتهاكات حقوق الإنسان ومصادرة حرية الرأي والتعبير.. والاعتقالات السياسية، ومصادرة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية.. بل إنها أعطت شيكات (وليس شيكا واحدا) موقعة على بياض لفائدة الدولة، مع التزام وتعهد بعدم إثارة قضايا مزعجة من قبيل الملكية البرلمانية، أو واقع حقوق الإنسان، أو الاعتقالات التعسفية، أو المحاكمات بسبب الرأي، أو الاعتراض على تدمير الأحياء والدواوير وتشريد أهلها… أو – لا سمح الله – الحديث عن الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي الذي ترتع فيه الأوليغارشية المغربية.. كل ذلك من أجل كسب ودها والتَّغَطِّي برضاها واتقاء غضبها وسخطها..
لقد كان لهذه الأحزاب دور كبير ومؤثر في تهميش النخب الجادة داخلها، وترميز نخب أخرى ضعيفة فكريًا وسياسيًا وثقافيا انسجاما مع استراتيجية الدولة للمرحلة المقبلة.. لذلك كانت الأحزاب سدا منيعا لأي مناضل صادق، أو مثقف متنور أو حقوقي شجاع أمام أي ارتقاء تنظيمي أو تمثلية انتخابية أو ظهور إعلامي.. قد يضع هذه الأحزاب في حرج أو أزمة سياسية أو أمنية مع الدولة الراعية لهذا المخطط.. فتوافقت الإرادتان على تهميش النخب الثقافية والسياسية والحقوقية الجادة لفائدة نخب هجينة ومائعة سهلة التوظيف والتسخير.. مع الاختلاف في الوسائل والطرق بين الأحزاب والدولة..
لا يمكن إنكار هذه الحقيقة، فكل الأحزاب السياسية حاليا وبدون استثناء قامت بهجر الأنشطة الثقافية والفكرية، وإقصائها من برامجها ومشاريعها التأطيرية، واختفى تبعا لذلك النقاش السياسي العمومي، وانحسر بشكل كبير الإنتاج الفكري السياسي، وأصبحنا نعيش حالة مزرية من الانحباس الثقافي الذي أدى إلى تصحر فكري وأدبي فظيع لم يشهد له المغرب مثيلا من قبل.. وهذا واضح من خلال خرجات بعض الزعماء السياسيين التي تفتقد إلى الشجاعة السياسية والعمق الفكري، بل تطغى عليها المجاملة والمهادنة من جهة، ونوعا من الضبابية والمراوغة من جهة أخرى، بل يمكن الحديث عن وجود انفصام فكري وسياسي شديد عند البعض، إلى درجة أنه مستعد أن يُدين التطبيع مع الكيان باعتباره موقفا أو قرارا سياسيا، ولا يدين الدولة المطبعة، يمكن أن يحتج على الفساد دون أن يحتج على أصحاب الفساد، يمكن أن يشكو الاستبداد والتحكم، إلا أنه لا يجرؤ أن يطلب من صاحبه رفعه عن رقاب الشعب، بل يمكن أن ينسبه إلى جهات مجهولة وهلامية، أو جهات افتراضية.. أما الحديث عن الانتهاكات الحقوقية والتجاوزات الأمنية فتلك من المحظورات التي لا يجوز الحديث عنها فضلا عن إدانتها أو المطالبة بإنهائها..وقد أصبح توجيها ملزما أو أوامر موجه لكافة الأعضاء تحت طائلة التهميش أو التشهير، أو الاستغناء عن المتمرد عن ذلك..
لقد أصبحت الإرهاصات الأولى للواقع السياسي والثقافي القادم تتصدر المشهد الإعلامي العام، من خلال الوجوه والنخب الجديدة موضوع الإعداد والترميز.. حيث تُعقد لها اللقاءات والندوات والمحاضرات والتصريحات في العديد من المنابر والمنصات والقنوات، للحديث في شتى المجالات والقضايا.. فتجدهم يناقشون مدونة الأسرة بمنظور تغريبي، مبررات التطبيع مع الكيان المحتل، الوحدة الترابية مصحوبا بالتهجم على الجيران، كرة القدم كإحدى قاطرات التقدم والتنمية، حرية التعبير المضمونة والواسعة، الإشادة ببعض المسؤولين ولا سيما الأمنيين أو ذوي النفوذ، أو زعماء الأوليغارشية المغربية.. ودون الخوض في مضامين هذه القضايا، وخلفيات ومنطلقات وأهداف إثارة هذه المواضيع، فإن أهم ما يميز معظم المداخلات هو الشعبوية والسطحية، وأحيانا البهرجة والغوغائية، دون عمق في الطرح، أو جدية في الحديث، أو موضوعية العرض.. من أجل صناعة رأي عام سطحي التحليل، سهل الانقياد، سريع الخضوع.. وتكتمل هذه الخطة، وتحقق نتائجها بطريقة متقنة بإغراق وسائل التواصل الاجتماعي بطوفان من التفاهات من القضايا والبرامج والمحتويات للمزيد من التدجين والتجهيل..
والآن أصبحت الطريق سالكة ومعبدة أمام النخب الجديدة المصنعة أو المهجنة في مصانع الدولة العميقة لِتَصدُّر المشهد الإعلامي واحتلال مواقع المسؤوليات الحكومية، والمواقع التابعة لها أو التي في حكمها، تنفيذا لأجندة الدولة ومشاريعها السياسية والاقتصادية والثقافية… أمام تهميش وإقصاء ممنهج ومحكم للنخب الجادة والملتزمة بقضايا الشعب والوطن.. فخلال تطبيق هذه الاستراتيجية تحول السياسي المناضل إلى سياسي انتهازي، والحقوقي الشجاع إلى حقوقي جبان، والنقابي الزاهد إلى نقابي سمسار، في حين انقرض المثقف العضوي ليحل محله المثقف المرتزق.. إنه واقع سياسي وثقافي مغرق في البؤس والإسفاف، فرض هيمنته على الواقع المغربي واستحكم قبضته على كل مفاصيله..
إن ما ينتظر الشعب من انزلاقات أخلاقية، وانحرافات فكرية، ومآسي ثقافية، وجمود سياسي، وانغلاق حقوقي في منتهى الرعب والخطورة.. وتشتد خطورته بسبب التهميش القسري للعلماء والمثقفين والمفكرين، أو انسحاب بعض هؤلاء اختيارا.. ولكن هل ستحقق الدولة أهدافها تلك من خلال اغتيال النخب الملتزمة والمتنورة وإنعاش أخرى مائعة وهجينة؟ أم إن من شأن هذا المخطط أن يعمق أزمة المغرب في شتى المجالات، ويعمق الهوة بين الشعب والدولة؟