” حكاية زهرة “
سعاد الشرقاوي – المغرب
تداعبني هذه الأيام بكثرة، طفولتي، وتلح علي الظهور ضمن تفاصيل حياتي اليومية، لا أدري ربما حنين لفترة مضت، أتحسر لانقضائها، وربما هي تجديد طاقة ، أستعيرها من تلك الأيام، لكن ما يثلج صدري ضمن هذا المزج أو الخليط المتباين، الراحة النفسية التي أصل إليها، بعد أن اصاحب تلك الفترة الماضية من عمري.
ومن خلال حديثي عن طفولتي ، أجدني في علاقة جدلية زمكانية تحوم حول بعض الشخصيات ،المرتبطة بالمكان الذي أمضيت به طفولتي، فتجدني أعوذ من جديد لأحيى تلك التفاصيل التي ظلت مسجلة وأغلق عليها ، وكأني احتفظ بكنز أو شئ ثمين لا أريده أن يضيع مني وسط متاهات الحياة ، فأفقد بالتالي تاريخي وحياتي الأولى وذكرياتي التي ابني عليها مستقبلي والقادم من أيامي ، مما يساعدني على الكفاح والمسايرة دون خوف أو رعب من المجهول أو حتى أكون واقعية ، عدم الخوف من المكتوب الذي كتبه الله لنا سبحانه ولا ندري أين ومتى سنلتقيه!!!
عندما نتحدث عن الطفولة ،نتحدث عن البراءة، عن دقة الملاحظة و عن تخزين للأحداث و الصور ، دون ترجمتها أو شرحها ، و من ضمن ما خزنت ذاكرتي البسيطة آنذاك،
قصة جميلة و ملفتة للإنتباه، قصة فتاة حينا الجميلة، البيضاء البشرة كبشرة رضيع ،ذات الشعر الأصفر و التقطيعات المعاصرة المسايرة لكل جديد ، مستواها التعليمي متوسط أو يمكن القول لاباس به وفقا لتلك الفترة من الزمان ، تعيش في بيت كبير به غرف كثيرة لكنه مهترئ، رفقة عائلتها المكونة من أمها ذات الوشم الذي يزين نصف وجهها ويديها ورجليها كعنوان للزينة عند المرأة الأمازيغية، كانت تحبها حبا لا يوصف فهي وحيدتها وصديقتها وكاتمة أسرارها ، وسط ثلة من الذكور ، وأبوها صاحب الجلاليب المتميز داخل الحي بلباسه، له قامة الرجل البدوي الحر ،منفرد في مشيته ولباسه، إضافة إلى الإخوة وزوجاتهم وأبنائهم، كان منزلهم منزل عائلة بامتياز يتقاسمونه جميعا ، ويتعايشون مع بعضهم البعض، و يسدون حاجة بعضهم لقلة المادة وقصر اليد .
لكن ما يهمني من هذه القصة كلها ، الجميلة” زهرة ” التي كانت زهرة من زهرات الحي ، كان لباسها ملفتا للإنتباه ، تعشق الألوان المثيرة والزاهية ، قامتها متناسقة ، يلائمها اللباس العصري كما التقليدي ، مشيتها مدللة، غرفتها عتيقة جدا لكنها تهتم بها وتحاول قدر الإمكان إظهارها في أبهى حلة وبابسط الأشياء، تهوى النظام وتحرص على ترتيب ملابسها وتوليهم عناية فائقة لعشقها لهم ، تستمتع بتخزين الجواهر وارتدائها أكانت أصلية ام مزيفة غير أنها تليق بها ،عاشقة للزينة بشكل كبير ،لم أصادف يوما ورأيت “زهرة” دون مساحيق تجميل أبدا ، إن التقيت بها في مكان غير المكان تقسم وقد صدقت انها من بنات أعيان ذاك الزمان ،كانت تحدث الكبير والصغير وتستمتع بالحديث معي رغم أن لاشيء مشترك بيننا لكنها تجلبك للحديث معها ،عندما تمر لا يمكن لمن مرت أمامه ألا تلفت انتباهه.
اشتغلت بعدما توقفت عن الدراسة بوظيفة بسيطة الأجر ومع ذلك فرحت بها .
لكن ما كان غريبا في حياتها أن الحظ لم يكن بجانبها يوما خاصة في علاقاتها بالجنس الآخر، عشقت ابن الحي وكان فارس زمانه، يشبهها في تفاصيل كثيرة، اطمانت له وأعتقد الجميع أنهما سيتزوجان من دون شك ، لكن كان للقدر رأي آخرففشلت علاقتهما ، لم يكن لها حظ ولا نصيب من الاستقرار للأسف، كل من أبهر بها و بجمالها وطلتها إلا وانتهى به المطاف إلى الابتعاد، ذاك السر لا زلت لحد الان ابحث عن خباياه، كيف ولماذا تفشل كل مخططاتها للاستقرار ؟
عاينت عن بعد حياتها وأنا صغيرة ، لم أفهم تغير الأشخاص في حياتها دون الوصول إلى نهاية ترضيها وترضي فضول الكثير ،تألمت لحالها و أدركت أن الجمال أحيانا يكون نقمة على أناس، وإن الحظ مشاكس لمثلها وان لله في خلقه شؤون ، ظلت تلك الزهرة “زهرة” تذبل بمرور الأيام والسنين دون حياة مستقرة ،دون زوج ولا أطفال ،كما ظلت على حالها من الزينة وارتداء ما يليق بها وأجمل ما ترتديه امرأة.
غادرت الحي بعد أن كبرت ، وفي كل مرة أعود إلا ووجدتها على حالها مع ان ظروفها تراجعت بتوالي الأيام، توفيا والداها وطردت الأسرة المتبقية من البيت المكترى، فبحثت المسكينة رفقة أخ لها يكبرها وأسرته على منزل أصغر حجما وأقل قيمة فتقاسمت معه أجرة الكراء ، لتحظى بالونيس وأخوها بالمساعدة المادية كل واحد حسب مصلحته وحاجته
لكن الغريب أني لم أرها يوما بائسة أو يائسة أو باكية لحالها ولا متذمرة من ظلم الحياة لها ، ربما هي راضية من الخارج لكن الداخل لا يعلمه إلا ربي وهو القادر أن يرحمها برحمته ويمن عليها بما تتمناه وتصبو إليه ، ولو أن الوقت والزمان قد لعب لعبته وحكم وقضى ، فكان أمرا مفعولا.
نوستالجيا تحكي قصص للعبرة