رمال المغرب تتحرك من جديد..
ولكن في أي اتجاه؟
عبد المولى المروري – كندا
يبدو أن هناك رياح تغيير ما قادمة بهدوء نحو سماء المغرب الملبدة بالغيوم والغموض، الأمر الذي دفع بجزء من رماله إلى التحرك تحت أقدام البعض.. هناك بعض المؤشرات الصغيرة التي تدل على ذلك.. وهذا ما ظهر من خلال بعض الرسائل المشفرة التي سُمح لبعض الشخصيات والزعماء إرسالها إلى الرأي العام المغربي..
ومهما بدت هذه الرسائل والمؤشرات غامضة أو ملتبسة.. بعيدة أو مستبعدة.. إلا أنها دالة بما يكفي عن قدوم رياح متقلبة قد تغير ولو بشيئ بسيط من أحوال وأجواء البلد المرتبكة.. قد يكون تأثيرها محدودا أو ضعيفا ولكنها قادمة لا محالة، إلا أن معرفة السبب الحقيقي لقدوم هذه الرياح غير متاحة للجميع، أما أين ستقف تلك الرمال المتحركة، وبمن سَتَهْوي، ومن سَتُبقي على سطحها، فذلك من شأن أصحاب القرار الأول..
فلم يشهد التاريخ السياسي المغربي من قبل مثل هذا التضارب والتنابز الذي أصبح يهيمن على المؤسسات الدستورية فيما بينها، الأمر الذي يؤكد نوعا من التباعد في وجهات النظر بين مسؤولي الدولة حول بعض القضايا الاقتصادية والاجتماعية، أو بسبب تدبير بعض الملفات والمصالح التي أصبحت تأخذ أبعادًا تنافسية بطعم الصراع والضرب تحت الحزام، وعلى سبيل المثال، قرار مجلس المنافسة الأخير، تقارير والي بنك المغرب المُدين للحكومة، تقارير المندوبية السامية للتخطيط، وتقارير المجلس الأعلى للحسابات.. وأخيرا وليس آخرا تشكيل لجنة تقصي برلمانية لتقييم المخطط الأخضر..
هناك أمر آخر، ملاحظة غياب الرجل الثاني في الدولة عن بعض المناسبات الرسمية بدعوى المرض، وظهور أحد أهم النافذين في وضع نفسي وصحي لا يبشر بخير .. فضلا عن تسريب أخبار عن دعاوى قضائية غريبة ضد جهات نافذة في الدولة من طرف آخرين لا يقلون نفوذا عنهم.. بل قد يتجاوزونهم نفوذا وتأثيرا.. وظهرت أهم مظاهر ذلك فيما أصبح يعرف بملف إيسكوبار الصحراء الذي يعرف تورط العديد من السياسيين من حزب سياسي واحد مشبوه النشأة والأهداف والأعضاء، وبعض الأمنيين والنافذين المحسوبين على أحد الشخصيات القوية في المغرب.. والذي لا يستطيع أحد التكهن بما سيسفر عنه الملف من مفاجآت وصراعات وتصفية حسابات.. ناهيك عن متابعات ومحاكمات تهم سياسيين من مختلف الأحزاب السياسية، ولا سيما المخزنية والإدارية منها، فهل يعيش المغرب حالة من الصراع الخفي حول النفوذ السياسي والاقتصادي عن طريق توظيف واستعمال القضاء والإعلام والمؤسسات الدستورية؟ وهل سبب ذلك محاولة إعادة ترتيب وتشكيل المشهد السياسي على أسس ومعطيات جديدة؟
وهناك مؤخرا حديث وكلام يروج عن قرب انفراج حقوقي عام قد يؤدي إلى إصدار عفو عن العديد من معتقلي الحراك الاجتماعي والصحافيين والمدونين.. بدأت ملامحه من خلال تصريح العديد من الزعماء السياسيين (محمد خليفة وعبد الإله ابن كيران) باعتباره مطلبا آنيًا وملحا وضروريا، بدأ مؤشره الأول بالسماح لناصر الزفزافي لأول مرة بزيارة جدته المريضة..
يبدو أن الوضع المغربي لم يعد يحتمل حالة الاضطراب والغموض السياسي، ولا الابتذال الإعلامي الذي تراكمت تعفناته التي تتسبب في القيء والغثيان، وغطت على كل القيم النبيلة والأخلاق الحميدة، ولم يعد هذا الوطن يحتمل الوضع الاجتماعي المنهار ولا الوضع الاقتصادي المتهالك.. حالة مرعبة تقتضي من أصحاب القرار الأول اتخاذ تدابير استعجالية لتهدئة الوضع العام، والعمل على التنفيس من حالة الاحتقان السياسي والحقوقي والاجتماعي الذي يزداد تضخما وانتفاخا بسبب قرارات وإجراءات على مقاس الأوليغارشية المغربية.. وإلا سيصاب المغرب بالسكتة الدماغية، بعد أن نجى بأعجوبة من السكتة القلبية في عهد الحسن الثاني..
هي حالة من الفوضى العارمة هيمنت على كل مجالات ومناحي الحياة بالمغرب، في قطاع الصحة والتعليم، في قطاع العدل والقضاء، في مجال الإعلام والسياسة… لا تكاد تجد مجالًا إلا وقد أصيب بداء الفوضى والعبث، الأمر الذي انحدر بمنسوب الثقة في كل هذه القطاعات والمجالات إلى أدنى مستوى له، وهذا جلي واضح من خلال انطباعات وتصريحات يدلي بها المواطنون كلما أتيحت لهم فرصة للتعبير عبر بعض المواقع والمنصات.. (الارتفاع المهول للمعيشة، تدمير البيوت والأحياء دون تعويض أو إعلام، مطاردة الباعة المتجولين ومصادرة سلعهم ورؤوس أموالهم، تدمير أسواق الحي غير النظامية بدون تقديم بدائل ..)، ولم تفلح كل المساحيق وعمليات التجميل في إخفاء مظاهر البؤس واليأس والاحتقان التي يعبر عنها المواطنون..
فبعد أن تحقق تخاذل النقابات العمالية، وتأكد ضعف وترهل الأحزاب السياسية، وبعد أن ازدهر إسفاف وابتذال الإعلام والصحافة التي أصبح جزء كبير منها رائدا في نشر التفاهة والميوعة والتشهير والأخبار المضللة والزائفة، وبعد أن انسحب المثقفون المناضلون، واستتب الأمر للمثقفين المرتزقة والمرتشين، وبعد أن استقال العلماء المجاهدون، واستقر الأمر للعلماء المتملقين.. وبعد أن أبانت الحكومة عن افتراسيتها الاقتصادية، وتكالبها الممنهج على الشعب، وجعلت منه زبونا بئيسا وليس مواطنا كريما، بعد كل هذا، قد تصبح الدولة – الآن – في مواجهة مباشرة مع شعبها الغاضب.. بعد أن أخضعت كل الهيئات «المستقلة» لسلطانها وسطوتها..
ولتفادي الانفجار الاجتماعي المحتمل، ولامتصاص الغضب الشعبي المتصاعد، أصبح من اللازم إخراج وصفة سياسية مستعجلة لتكون بمثابة مسكن سياسي واجتماعي قد يكون له مفعول مؤقت، مهما طال، إلى حين إعادة ترتيب الوضع العام بالشكل الذي يعيد إرساء قواعد الدولة العميقة على أسس جديدة قادرة على الاستمرار بالمضمون نفسه والمرجعية ذاتها، ولكن بشخوص جدد، وتصورات جديدة، وحلة ساحرة أكثر إقناعًا وتأثيرا.. باستغلال تدني الوعي الشعبي العام، وانخفاض طموحاته نحو الحرية والكرامة بسبب سنوات التجهيل والتدجين التي كان ضحيتها وتحت تأثيرها، وما يزال للأسف الشديد..
نعم، قد تكون هناك بعض التغييرات على مستوى بعض الوجوه الحكومية والمؤسسات الدستورية، وقد تأتي الرياح القادمة ببعض الانفراج الحقوقي (وهذا مطلب ملح وآني طبعا)، ولكن هل هذا هو الحل الحقيقي لأزمات المغرب التي أصبحت تتكاثر وتتضاعف وتتنوع، وتتعقد؟ هل الخلل في الأشخاص أم في المنظومة؟ هل أزمة المغرب مقتصرة على هذه حكومة الأوليغارشية الفاسدة، أم هي أزمة اختيارات سياسية كبرى، وأزمة مؤسسات استراتيجية، وأزمة منظومة قيم، وأزمة تعطيل الخيار الديمقراطي الدستوري؟ هل المغرب في حاجة إلى إصلاحات عميقة وجذرية على مستوى أسلوب ممارسة الحكم والالتزام بالدستور وإنفاذ القانون في اتجاه إصلاح أعطابه واختلالاته البنيوية؟ أم هو فقط في حاجة إلى إصلاحات جزئية وشكلية تغازل الأشخاص.. وتغير الأدوار والمواقع، مع إعادة توزيع النفوذ والمصالح؟ الأمر الذي يُبقي السؤال مفتوحا؛ في أي اتجاه ستتحرك رمال المغرب؟ وأين ستقف؟