دفاعا عن الحركة النقابية التقدمية
محمد غريب/المغرب
عندما انطلقت الاحتجاجات في قطاع التعليم كنت قد كتبت مقالا تحت عنوان ” احتجاجات قطاع التعليم خارج السياق” وذلك لأنها من جهة جاءت متزامنة مع معركة “طوفان الأقصى” التي يمكن اعتبارها بمثابة زلزال جيوستراتيجي ستكون له انعكاسات كبرى ليس فقط على منطقة الشرق الأوسط ولكن أيضا على بلادنا.. ومن جهة أخرى لأنها انطلقت بشكل مفاجئ وبدون مقدمات بل وجاءت ليس فقط لمواجهة السياسة الرسمية في هذا القطاع الحيوي ولكن لمواجهة النقابات أيضا التي تم وصفها بأقدح النعوت دون أي اعتبار للاختلاف الكبير بينها وللتاريخ الحافل بالتضحيات لبعض هذه النقابات التي راكمت تجربة تستحق الاحترام ومكتسبات لا يمكن القفز عليها.
كنت في المقال السابق قد وصفت هذه الاحتجاجات بالعفوية والخبزية وبكونها تفتقد للرؤية السياسية الشاملة التي بدونها لا يمكن لأية حركة أن تحقق أهدافها خاصة أمام خصم منظم ويتوفر على تجربة كبيرة ووسائل الضغط المادي والمعنوي. ولكن في نفس الوقت انتقدت واقع الممارسة النقابية في بلادنا واعتبرت أن الحركة النقابية التقدمية لازالت تعاني من عدد من السلبيات القاتلة التي إذا لم يتم الانتباه إليها وتجاوزها فإنها ستفقد الكثير من عنفوانها وتتحول على هياكل دون أي مضمون كفاحي وتقدمي.
إن الإضرابات التي دعت اليها التنسيقيات على امتداد ثلاثة أشهر تؤكد فعلا على أننا فعلا أمام حركة عفوية تحركها مطالب خبزية محضة على الرغم من شعار الدفاع عن الكرامة الذي تم وضعه على قائمة المطالب. كما أن الاعلان منذ البداية على كون هذه التنسيقيات ليس لها أي توجه سياسي أو نقابي يؤكد على فهم سادج في التعامل مع مؤسسات الدولة ويعتبر بمثابة إشارة حسن النية موجهة لهذه المؤسسات مفادها أنه ليس لدينا أي مواقف سياسية قد تزعجكم وأن احتجاجاتنا لا تتجاوز ما هو مطلبي. هذا الابتعاد عن السياسة هو سلوك غير جديد وقد لاحظناه في عدة مناسبات مثل رفض مشاركة عدة فئات في مظاهرات فاتح ماي اعتقادا منها أن الانخراط في حركة منظمة وذات أفق سياسي سيجعل السلطات لا تنظر اليها بعين الرضى وبالتالي لن تتجاوب ايجابيا مع مطالبها.
هناك من سيعترض على هذا التشخيص بالقول إن طول النفس الذي تميزت به هذه الاحتجاجات والحماس الذي عرفته والانخراط الواسع لنساء ورجال التعليم فيها هو دليل على كونها حركة احتجاجية أصيلة جاءت لتحرك غضبا كان ساكنا بسبب سلبية وانتهازية النقابات.. هذا الغضب الذي أطلق شرارته النظام الأساسي الجديد الذي أصدرته الوزارة، والذي كان يتهرب من الخوض فيه كل الوزراء الذين سبقوا الوزير الحالي السيد شكيب بنموسى.
إن الانخراط الواسع في هذه الاحتجاجات ليس دليلا على الروح الكفاحية ونضالية ” الجماهير الأستاذية”، بل بالعكس هو دليل على نفورها من كل عمل منظم واختيارها الطريق السهل لتحقيق المطالب. إن الاحتجاجات وبالطريقة التي تمت بها والضرر الذي ألحقته بسمعة رجال ونساء التعليم أولا وبالمدرسة العمومية ثانيا هي كلها أدلة على كون هذه الاحتجاجات تشبه الاحتجاجات الأولى التي كانت تخوضها الطبقة العاملة في أوربا والتي كانت تلجأ فيها الى تحطيم الألات اعتقادا منها أنها تشكل خطرا على مناصب الشغل وأنها هي السبب في تزايد أعداد العمال الذين يتم تسريحهم من العمل. إن أيام الإضراب التي تجاوزت الى حدود كتابة هذه السطور الثلاثين يوما، قد كانت لها نتائج خطيرة على المدرسة العمومية التي عرفت نزيفا وهجرة جماعية نحو القطاع الخاص الذي زاد رقم معاملاته بسبب هذه الإضرابات التي تضرر بسببها بالخصوص أبناء الطبقات الشعبية.
إن الاضراب يقوم أساسا على رؤية سياسية وتحليل موضوعي للوضع العام وليس اندفاعا غير محسوب العواقب واستهتارا بالمصلحة العامة التي تتجلى في الحفاظ على المدرسة العمومية أولا وعلى حق تمدرس أبناء الطبقات الشعبية. أما التحجج بكون الوزارة هي المسؤولة عن الهدر المدرسي بسبب عدم تلبيتها للمطالب فهو دليل أخر على كون هذه الاحتجاجات عفوية وتنزع نحو الانتهازية لأن أي مبتدأ في السياسة يعرف تمام المعرفة أن من ضمن أهداف الدولة المغربية هو التخلص من أعباء المرافق العمومية وعلى رأسها قطاعي التعليم والصحة. وبالتالي فإن مدة الاضراب الطويلة قد أضعفت كثيرا قطاع التعليم العمومي وقدمت خدمة للدولة التي تخففت من أعداد مهمة من المتعلمين الذين غادروها نحو القطاع الخاص وستتخفف مستقبلا بسبب السمعة السيئة التي طالتها هذه السنة بالخصوص.
إن ما يفسر هذا الانخراط الواسع في الإضرابات هو الدور الذي لعبه الذباب الالكتروني الذي يحركه حزب العدالة والتنمية وذراعه النقابي الذي تحول بقدرة قادر وبأسلوب هو في قمة النفاق السياسي إلى مدافع شرس عن مصالح رجال ونساء التعليم بعد أن كان هذا الحزب هو المسؤول الأول عن معظم الكوارث التي حلت بقطاع التعليم حيث تم وطيلة عشر سنوات تهميش النقابات وإغلاق باب التفاوض وإصدار قوانين بصفة أحادية تهم تغيير نظام التقاعد وإقرار نظام التعاقد وكذلك قرار الاقتطاع من أجور المضربين.. الخ
إن السؤال الذي يفرض نفسه هو أين كانت هذه التنسيقيات عندما كان هذا الحزب الرجعي يخرب قطاعا حيويا مثل التعليم؟ ولماذا لم تكن هذه “الجماهير الأستاذية ” تنخرط في الإضرابات التي كانت تدعو اليها النقابات وعلى رأسها ك.د.ش ؟
هذا من جهة.. ومن جهة أخرى يمكن القول أن النزعة الانتهازية تتجلى أيضا ليس فقط في الفئوية التي طبعت هذه الاحتجاجات ولكن أيضا في هذه المفارقة الغريبة عن التقاليد النضالية التي ميزت تاريخ الحركة النقابية الأصيلة في بلادنا والتي تتجلى في كون أغلبية “مناضلي” هذه التنسيقيات كانوا يشتغلون بحماس منقطع النظير في القطاع الخاص على الرغم من المشاكل والفوضى ومنطق الربح السائد في هذا القطاع الذي ينتعش على حساب القطاع العام. إن هذا السلوك البعيد كل البعد عن أخلاق المناضلين الحقيقيين وكذا المستوى الهزيل والساقط أحيانا الذي اكتشفناه في النقاشات التي كانت تتم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.. كلها عناصر تؤكد على أننا أمام حركة خبزية وعفوية بامتياز.
إن وصف النقابات بكونها ” نفايات” دليل أخر على أن من لا يقرأ التاريخ فإنه محكوم عليه أن يكرر أخطائه.. ولكن وكما كان يقول العظيم كارل ماركس فإن التاريخ يعيد نفسه في المرة الثانية كمهزلة. وفعلا لقد كان أمرا مثيرا أن يظهر هذا الكم الكبير من “المناضلين” الذين لا يعرفون أي شيء عن التضحيات الجسيمة التي قدمها رجال ونساء التعليم في إطار الحركة النقابية التقدمية في بلادنا.. ولا يعرفون أن حق الاضراب وحده قد تحقق وأصبح معترفا به بعد أن أفنى العديد من هؤلاء المناضلين والمناضلات سنوات من عمرهم في السجون، ليأتي اليوم “مناضل التنسيقيات” منقطعا عن كل هذا التاريخ ويقدم نفسه بديلا عن الحركة النقابية والتقدمية ورافعا شعار الخبز الذي حاربته هذه الأخيرة منذ بداياتها الأولى.
مرة أخرى قد يواجهنا البعض باعتراض أخر مفاده أن هذه الاحتجاجات قد حققت العديد من المكتسبات المادية والمعنوية لنساء ورجال التعليم.. وهي مكتسبات غير مسبوقة ولم يسبق للنقابات أن حققت مثلها، وأن التنسيقيات قد تجاوزت بذلك النقابات بكثير.
أولا علينا ألا ننسى السياق الذي جاءت فيه هذه الاحتجاجات والذي أشرنا اليه في البداية والذي وصفناه بالزلزال الجيوستراتيجي الذي لولاه لكان تعامل الدولة مع التنسيقيات تعاملا مختلفا. إن هذا الظرف الحساس والخطير الذي يمكن أن تكون له تداعيات كبرى على مصير الأمة العربية والإسلامية هو الذي جعل الدولة تتعامل بحكمة غير معهودة مع الاحتجاجات. ولقد رأينا كيف تم منع المسيرات التي دعت اليها الكونفدرالية الديموقراطية للشغل وفي المقابل تم التغاضي عن مسيرات التنسيقيات. في الحالة الأولى المنع كان عبارة عن رسالة سياسية مفادها أن هناك خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها في هذا الظرف الدقيق.. وفي الحالة الثانية التغاضي معناه ان أفق التنسيقيات محدود في مطالب خبزية.
ثانيا وفي ظل هذا السياق اختارت الدولة التنازل والتفاوض مع النقابات لأن ذلك يمثل الخيار الأمثل بالنسبة لها في هذا الظرف الدقيق والمتميز أيضا بأزمة اجتماعية خانقة زاد من حدتها توالي سنوات الجفاف.. وطبعا الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية التي تنهجها بضغط من المؤسسات المالية العالمية. التفاوض كما يعرف الجميع معركة أصعب بكثير من خوض الاضراب والمكاسب التي تحققت يجب الاعتراف بأن الوفد المفاوض قد نجح في تحقيقها رغم كونه دخل الى هذه المفاوضات من موقع ضعف وهذا لأن التنسيقيات كانت تعتبر نفسها غير معنية بنتائج التفاوض وبأن النقابات لا تمثلها.. هذا في الوقت الذي كانت إحدى النقابات مندسة بشكل انتهازي وسط ما يسمى بالتنسيق الوطني والتي عادت الى طاولة التفاوض بعد أن أدركت أن البقاء مع التنسيقيات سيجعلها تخسر كل شيء
ثالثا علينا ألا ننسى أن ثمن هذه المكاسب التي تحققت بعد جولة التفاوض كان هو الهدر المدرسي الذي كان ضحيته الأولى أبناء الشعب المغربي الذين أختاروا المدرسة العمومية.. هذا الهدر الذي سيؤثر سلبا على تكوينهم والذي لا يمكن علاجه مهما اتخذت الوزارة من إجراءات لتعويض الزمن المدرسي وسوف تبقى أثاره السلبية تؤثر على تكوينهم كما حصل خلال أزمة كورونا. زيادة على ذلك هناك سلبيات أخرى ستظهر في المستقبل القريب وعلى رأس هذه السلبيات تزايد النزعة الفئوية وسط قطاع التعليم والنفور من العمل النقابي المنظم والتقدمي الذي يربط جدليا بين النقابي والسياسي ويعتبر ان النضال من أجل قضايا قطاعية لا ينفصل عن النضال على واجهة المصالح الكبرى للوطن.
إذن من خلال كل ما سبق يتضح أن احتجاجات قطاع التعليم هي في الواقع مؤشر على أزمة في الوعي وعلى فراغ سياسي خطير على الفاعلين الحريصين على مصالح الوطن اعطاءه كل الاهتمام ومراجعة الممارسات السائدة حتى لا تبقى الجماهير الشعبية ضحية للانتهازية والشعبوية والعدمية.
إن الأحداث تؤكد يوميا أن هشاشة الجبهة الداخلية هي الخطر الأول الذي يهدد مصير الشعوب والأوطان.