حوار مع الاستاذ خالد البكاري حول تصاعد الصراع في الشرق الأوسط
اجرى الحوار خالد بوخش – المغرب
- كونك تنهل من الفكر اليساري التقدمي؛ أ ليست حماس حركة “إرهابية” تقتل المدنيين الإسرائيليين؟ و ما ذنب الأطفال و الشيوخ الإسرائيليين فيما فعل مؤسسوا إسرائيل؟
إن سؤالك يفترض أن حماس بالفعل متورطة في مقتل الأطفال والشيوخ، الذين كانوا في مستوطنات غلاف غزة، حين بدأت عملية طوفان الأقصى، وهذا بالنسبة لي غير صحيح، ويمكن العودة للتحقيق الاستقصائي الذي قام به الصحافي الأمريكي ماكس بلوثمان (يهودي الديانة للتذكير)، ونشره موقع ” غراي زون” المختص في التحقيقات الاستقصائية المرتبطة بالحروب، وقد قمت بترجمته كاملا، والذي بين أن أغلب الوفيات في صفوف المدنيين، كانت بقذائف ونيران من طائرات الأباتشي والدبابات الإسرائيلية، ثم بعد ذلك ظهرت شهادات وتسريبات، تبين أن أوامر صدرت للجنود الإسرائيليين المنتقلين لغلاف غزة بقصف الجميع – مقاتلين فلسطينيين ومدنيين -، تنفيذا للتوجيه العسكري المسمى “هنبعل” والذي يقضي بتصفية الرهائن مع خاطفيهم إن أمكن، حتى لا تضطر “إسرائيل” للتفاوض لإطلاق سراحهم. دون أن ننس أن كل الصور والفيديوهات التي قدمتها “إسرائيل” لشيطنة حماس إما ثبت أنها مفبركة، أو أصبحت دليلا لصالح حماس، باعتبار أن التدمير الذي في الصور يستحيل أن يكون ناجما عن الأسلحة التي استعملتها حماس في هجومها، مما يقوي من طرح أنه من مخلفات الدبابات والطائرات الإسرائيلية.
ومن منطلق حقوقي و سياسي و أخلاقي، فإني أعتبر كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس حركة مقاومة، و أكتفي بسببين، الأول أن الأمم المتحدة نفسها لم تصنف حماس حركة إرهابية، و لذلك فرغم وجود بعض قياداتها في تركيا والأردن وقطر ولبنان، فإن كل الدول التي تتهم حماس بالإرهاب لم تطلب تسليمهم أو محاكمتهم، لمعرفتها بالبعد القانوني للمسألة، ثم إن كل مبتدئ في العلاقات الدولية والقانون الدولي يدرك أن الأمم المتحدة لا تجيز الاختباء خلف حق الرد للدولة التي تمارس احتلالا، وفي المحصلة فإن تعريف الإرهاب في المرجعية الأممية، يتلخص في استهداف المدنيين لتحقيق غايات سياسية، وهو ما ينطبق على “إسرائيل”. هذا دون نسيان أن حماس لها حاضنة اجتماعية قوية في غزة، فهل يجوز اتهام سكان غزة بدعم الإرهاب، وهي حركة تنسق مع حركات مقاومة أخرى لها خلفيات علمانية ببعد وطني أو يساري، وشاركت في انتخابات سابقة، فهل هذه سمات الحركة الإرهابية؟
- كيف تفسر أن بعض اليساريين يساندون حماس؛ في حين أن الخلفيات الفكرية السياسية بين الطرفين تذهب إلى حد التناقض؟
هذا دليل على أن هؤلاء اليساريين مبدئيين، ولا يغلبون الاعتبار الإيديولوجي على الاعتبار الإنساني، ففي الأدبيات اليسارية نجد التفريق بين التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، فالتناقض مع الاستعمار والاحتلال هو تناقض رئيس إذا قيس بالتناقض الطبقي الذي هو جوهر الفكر الاشتراكي، فما بالك بالتناقض الإيديولوجي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالتناقض مع حماس مرتبط بمرجعيتها، وهذا حله في الديموقراطية، بمعنى أنه إذا كنا في حالة الدولة الديموقراطية، فإنه يستحيل التحالف بين القوى اليسارية وقوى الإسلام السياسي، بل المنطقي هو التنافس بينهما، بخلاف حالة الاحتلال التي توجب التحالف والتنسيق، وترفعهما إلى مقام الواجب الوطني، أو حالة الاستبداد التي يكون التنسيق وفق ميثاق وطني لإسقاط الاستبداد مطلوبا، وبعد ذلك وحتى أثناءه ستكون هناك اختلافات لا تقبل التوافق في قضايا معينة مثل المساواة الشاملة بين النساء والرجال وسقف الحريات الفردية.
- لنفترض أستاذ خالد ؛ و فرض المحال ليس بمحال؛ أن حماس حكمت فلسطين كلها ديمقراطيا؛ هل سيبقى هؤلاء اليساريون على نفس المسافة مع حماس؛ أم أنهم سيبدلون تبديلا و يصارعوا حماس على السلطة؟
طبعا، عليهم أن يصارعوها، ليس فقط سياسيا، بل كذلك اجتماعيا وثقافيا، على قواعد الاشتباك الديموقراطي المدني، والوضع الطبيعي أن يكونوا في المعارضة، إذا كانت هي في الأغلبية، يمكن القبول بتسويات في مرحلة الانتقال الديموقراطي، التي تفترض تقديم تنازلات متبادلة لتأمين العبور نحو الديموقراطية، أما إذا استوت هذه الأخيرة، فتصبح التحالفات الهجينة مجرد تدليس، وضربا في روح الديموقراطية.
- في سياق آخر؛ هل يجب الإعتراف بإسرائيل كدولة؛ من طرف حماس المسنودة ديمقراطيا من بعض الشعب الفلسطيني؛ كي يتم الاتفاق على حل الدولتين و يحل السلام بالمنطقة؟ و لماذا حماس ترفض حل الدولتين في نظرك؟
أعتقد أن هذا السؤال أصبح متجاوزا، بسبب أن حماس غيرت سنة 2017 الميثاق الذي وضعته في 1988، وأصبحت وفق التعديلات الجديدة تطالب بدولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس وفق القرارات الأممية، وهو ما أعاد التذكير به هنية هذه الأيام، المشكل هو أن من يطالبون بحل الدولتين يمارسون الغموض والتضليل، لماذا؟ لأنهم يقولون إن حل الدولتين يجب أن يكون نتيجة لمفاوضات دون أن يشددوا على أن هذا الحل يجب أن ينضبط للقرارات الأممية، وأن المفاوضات يجب أن تكون على أساس بحث سبل تنفيد القرارات الأممية، وهذا الغموض تستغله “إسرائيل” لأنها تقدم رؤية تستند على أن كل القضايا مطروحة للنقاش، بما فيها وضع المستوطنات، وعودة اللاجئين، مما يعني أنها لا تقر بالقرارات الأممية سواء المتعلقة بالتقسيم، رغم أنها ظالمة للفلسطينيين، أو تلك التي تعتبر المستوطنات غير شرعية وأنها أقيمت فوق أراض محتلة.
- إن حل الدولة الواحدة التي تجمع الفلسطينيين و الإسرائيليين معا؛ الذي ينادي به الكثير من اليساريين الديمقراطيين حل غير عملي بتاتا و قريب من المستحيل تفعيله؛ كون الصراع معقدا جدا؛ فيه ما هو ديني و ثقافي و تاريخي، ما رأيك؟
في اعتقادي ليس هناك أي حل واقعي وآخر غير واقعي، كل ما هو مطروح يبقى في حدود التخمينات المبنية على معطيات اللحظة، في حين أننا أصبحنا نعيش في عالم متقلب وسريع التحول، بما فيه حدوث تحولات مفاجئة تكون نتيجة مقدمات لا يتم الانتباه لها، لدرجة أن البعض أصبح يتحدث عن وهم التخطيط الجيوستراتيحي، ما دمنا نعيش اللايقين أو ما يسميه البعض ما بعد الحقيقة، لكن الثابت عندي هو: حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، لأنه هو الشعب الخاضع للاحتلال، وللأسف فإن تجميد هياكل منظمة التحرير الفلسطينية منذ 2015، ووضع اشتراطات غير مقبولة آنذاك أمام حركات لها شرعية ميدانية وشعبية وانتخابية مثل حماس، ووأد السلطة الفلسطينية غير المقبول لمنظمة التحرير الفلسطينية والذي يعتبر جريمة ، لا يساعد في انبثاق برنامج وطني للتحرير يشارك الجميع في صياغته وتنفيذه والالتزام به من أجل ترجمة حق الشعب في تقرير المصير. وأستغرب لمن يخرج ورقة منظمة التحرير في مواجهة حماس اليوم، وكأن على الفلسطينيين أن يبقوا في قاعة الانتظار مستسلمين إلى أن تجتمع اللجنة المركزية للمنظمة التي جمدها محمود عباس، غير أن هذا الوضع للأسف يجعل برنامج المقاومة الآني محصورا في منع المزيد من الخسارات السياسية وتمدد الاستيطان، ووقف الاعتداءات في القدس، عوض أن يكون برنامجا للتحرير في غياب مؤسسة وطنية جامعة. غير أن وجود غرفة مشتركة للمقاومة، قد يكون طريقا ممهدا للجواب السياسي الفلسطيني عبر إحياء منظمة التحرير محققة لشرط الممثل الوحيد والشرعي للشعب الفلسطيني عبر تمثيلية لكل التيارات والفصائل والتعبيرات والمناطق.
- قلت حضرتك؛ في حوار سابق؛ أن السبيل المتبقي الآن لدى رافضي التطبيع مع إسرائيل هو مواجهة التطبيع الثقافي و الأكاديمي؛ كيف ترى الأمور الآن و “طوفان الأقصى” قد بعث فينيق المقاومة من مماته؟
لقد كان تصريحا مشروطا بسياق مخصوص، وهو ضعف مشاركة المواطنات والمواطنين في الفعاليات المناهضة للتطبيع، مع اشتغال ماكينة إعلامية رهيبة ومدعومة من طرف نافذين في السلطة، قامت بالتدليس حين أوهمت بأن حسم ملف الصحراء المغربية يمر عبر بوابة تل أبيب، وخلق جو من الترهيب والتخوين، لكننا اليوم أمام سياق آخر بحيث إن معسكر التطبيع هو الذي يعيش حرجا، أمام حالة الشلل التي يعيشها وهو يعاين هذه المجازر اليومية، دون قدرة على إقناع من سموهم أصدقاءهم الإسرائيليين بإدخال المساعدات الإنسانية فقط،، وليس وقف العدوان، ولكن يجب أن نكون متيقظين، لأن نتائج هذه الحرب ستحدد مسارات كل دول المنطقة، بما فيها المغرب، وليس قضية التطبيع وحده، الذي سقط عمليا، لأنه فقد شرعيته الجماهيرية، وبالتالي حتى لو استمر، فإنه لا يحظى بأي قبول شعبي. وأقول بكل وضوح، الأمر أكبر من التطبيع، لأنه يتعلق بتحرير القرار السياسي، بما فيه السيادي من الجناح الذي ورط البلاد في أن تصبح ملحقة للتحالف الإسرائيلي الإماراتي فيما يخص التموقع في المنطقة، وبالتالي فقدنا حتى موقعنا السابق الذي كان يجعلنا في خط التماس مع كل المحاور الإقليمية، مما كان يعطينا هوامش للتحرك أكبر، والدليل أنه منذ معركة سيف القدس في 2021، لم يعد للمغرب دور في التسويات والمفاوضات، حتى الزيارات المكوكية للمنطقة إبان تفجر الوضع القتالي، التي يقوم بها رؤساء ووزراء خارجية الدول الكبرى أصبحت تستثني المغرب. ودعك ممن يقولون إن المغرب بعيد جغرافيا عن فلسطين المحتلة، فالجميع يعرف أن قوة البلدان في المنطقة تقاس بوزنها في مثل هذه السياقات.
- ما هو أفق وضعية إسرائيل بالمنطقة؟ خصوصا أنها؛ أي إسرائيل توجهت نحو تنفيد مخطط الإبادة الجماعية لسكان غزة؛ و هو الأمر نفسه الذي أيقظ العالم من سباته السياسي و الإنساني
إذا كنا نتحدث عن التداعيات الآنية، فأعتقد وفقا لما يحدث، ووفقا لسوابق ماضية أن “إسرائيل” ستنجح في الإفلات من العقاب، فما تمارسه هو أفظع مما مارسه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ومما مارسه الصرب في حق البوسنيين، أو الجنجويد في السودان في حق الدارفوريين، ومع ذلك لم تتم معاقبتها كما وقع مع النماذج التي ذكرتها، بل يتم تبرير جرائمها من طرف أمريكا وفرنسا وإنجلترا بزعم حقها في الرد، مع العلم أنهم يعلمون أنها قوة احتلال، حتى بمرجعية القانون الدولي، وبأنه حتى حق الرد المفترى عليه يقتضي احترامه لمبدأ التناسبية، وبالتالي فكل هذه الاعتداءات، بالفعل أيقظت الدول الكبرى من سباتها، ولكن لتبييض جرائم الاحتلال، ولذلك فإن أكبر انتصار يمكن أن تحققه المقاومة الفلسطينية هو إفشال خطة التهجير، وإعادة القضية الفلسطينية إلى أولويات الاهتمام الدولي، والمساهمة في تأجيج التناقضات الداخلية داخل “إسرائيل”، أما إذا تحدثنا على المستوى البعيد، فإن هذه الحرب فتحت أعين أجيال جديدة من الأوروبيين على حقائق ما يقع، رغم التضليل الإعلامي، وهي أجيال متحررة من عقدة الذنب تجاه الهولوكوست، كونها لم تشهده، وتتلقاه باعتباره فقط تاريخا من الماضي، وليس وصما أو عارا عليها أن تدفع تكاليفه، وهي كتلة مهمة في حسابات المستقبل، ستجعل ورقة الهولوكوست تفقد قيمتها مستقبلا في تبرير الانحياز للسردية الصهيونية، وأعتقد ان الخطر على “إسرائيل” هو داخلها أكثر مما هو خارجها، لأنها كيان غير طبيعي، ويحفل بتناقضات كثيرة لا يستطيع تغطيتها إلا بالحروب الخارجية، ومع ذلك تبقى هذه التناقضات بلا حل، خصوصا مع تحول المجتمع الإسرائيلي إلى اليمين القومي المتطرف، الذي يهدد بنسف القواعد المؤسسة للدولة والضامنة لتوازناتها، إن هذا الكيان قامت دولته على أنقاض احتلال استيطاني، والحالة المشابهة له في التاريخ المعاصر هي الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلاندا، غير أن سياق نشأة هذه الدول تاريخيا، وطبيعة السكان الأصليين في تلك المرحلة الاستيطانية، وشكل العالم آنذاك في مستوياته القانونية والإعلامية والعسكرية والمعرفية قد سمح بقبول السكان الأصليين بالواقع المتولد عنه، ثم النضال ولو متأخرا من أجل المساواة في ظل الدولة القائمة، وهذا الشكل الاستيطاني في قيام الدولة لم يعد ممكنا استمراره، والدرس الجنوب إفريقي ماثل في ذلك، طبعا هناك فروق بين الاستيطان “الأبيض الأنغلوساكسوني” في جنوب إفريقيا، والاحتلال الاستيطاني في فلسطين، ومن بينها الاعتبارات الدينية، وحاجة أمريكا لأداة وظيفية في المنطقة وغيرها، ولكن كل ذلك يقود في النهاية إلى أننا أمام كيان غير طبيعي، وبالتالي يحمل بذور ضعفه في داخله، وهو خائف من المستقبل، ويعيش مجتمعه على هذا الخوف، ولذلك فهو دائما يسعى إلى أن يكون محيطه ضعيفا، وهو يحدد المحيط ليس بالمعنى الجغرافي، بل بالمعنى الحضاري والثقافي، إذ يعتبر أن كل ما ينتمي للمجال العربي أو الإسلامي يمثل تهديدا وجوديا له. ويستوي عنده في ذلك السني والشيعي، والعربي والأمازيغي والفارسي والكردي وغيره، وحتى المسيحيين العرب. لأنه بالنسبة له يمثلون الأخر الإسلامي في مقابل هويته التي يعتبرها يهودية تلمودية وليس توراتية فقط، فلا يهم كيف تنظر أنت له هل من زاوية قومية عروبية، أو من زاوية دينية إسلامية، أو من زاوية إنسانية أممية، أو من زاوية أخلاقية حقوقية، فالأساس هو أنه ينظر لك كنت علمانيا أو إسلاميا، عربيا أو غير عربي، من زاوية واحدة: الغوييم الذي يشكل تهديدا، ويجب إضعافه، وبالتالي فادعاؤه دعم الأقليات أو الشعوب الأصيلة هو زعم كاذب، لكي يخفي مشاريع إضعاف الدول الوطنية في المنطقة، مستغلا حالة الاستبداد التي المنطقة، وغياب الحقوق الثقافية، واللغوية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والمدنية. وعودة أشكال من التطرف الطائفي لا أشك في أنه تتم تغذيتها في المختبرات الصهيونية.
- ما رأيك في من يقول بأن حربا عالمية ثالثة تلوح في الأفق؟
شخصيا أرفض الدخول في إنتاج نبوءات بناء على غياب أي معطيات، نحن لا نعرف حتى تفاصيل ما يقع، فبالأحرى أن نجازف بالتوقعات، مع العلم أن الحرب العالمية هي قائمة في المستويات المعرفية والتكنولوجية والاقتصادية، ولذلك فكل الاحتمالات قائمة، خصوصا حين يتحكم في قرار بعض الدول مجانين، وحين تصل تيارات متطرفة للحكم.
- هل أمريكا و إيران وجهان لعملة واحدة ؟ أي أن كل منهما؛ يتاجر بما يحدث بالمنطقة؟ و تتفاوضان في السر على تقسيم الغنيمة؟ هل إيران؛ كما يؤكد العديد من المحللين؛ دولة امبريالية أيضا كأمريكا؟
من العادي أن تتفاوض إيران مع أمريكا وغير أمريكا في السر، فهذا من المعلوم في السياسة بالضرورة، ولكن فرق أن نقول إن التفاوض حول الحفاظ على مصالح الدولة، أو أنه حول اقتسام الغنيمة، ولذلك فإيران رغم أنها قوة إقليمية، ولكنها ليست قوة دولية كبرى، مثل أمريكا أو إنجلترا أو فرنسا أو روسيا أو الصين حتى تقتسم معها أمريكا الغنائم، أو أن تقبل بها منافسة حتى، إيران استفادت مثل تركيا من الوضع الناشئ عن انهيار حلف وارسو، ثم بعد ذلك سعي مجموعة من الدول القوية اقتصاديا وعسكريا نحو إنهاء الأحادية القطبية، وعلى أي حال فهذا حقها، ويا ليت باقي دول المنطقة يكون لها هذا الطموح، ولكن الزعم أنها قوة امبريالية هو زعم لا يستقيم، هي دولة لها طموحات إقليمية، واستطاعت إيجاد حلفاء أقرب إلى يكونوا ملحقات لها في جنوب لبنان والعراق واليمن وسوريا، ولكنها ليست قوة احتلال، بل بالعكس، فإن وضع المقاومة الفلسطينية كان سيكون أسوء لو لم تكن هناك قوة إقليمية في حجم إيران تسندها، ولا يهم حجم هذا الإسناد، الأساس أنها حليف موضوعي للمقاومة إذا رفض البعض اعتبارها حليفا ميدانيا كذلك.
- كيف تفسر أن إيران؛ الشيعية الملة؛ تدعم حماس السنية ؟ هل هذا يأتي في إطار تصور وحدوي إسلامي للمقاومة ضد الغرب؛ أم أن الأمور أبعد من ذلك؟
يجب التفريق بين الدعم والاحتضان أولا، فبالنسبة للاحتضان نجد أن إيران تحصر ذلك في القوى الشيعية، وخاصة تلك المؤمنة بولاية الفقيه، لأنها بذلك تضمن ولاءها المطلق، أما الدعم فإيران لم تدعم فقط حماس التي تحمل إيديولوجية الإسلام السياسي، بل دعمت كدلك حتى قوى تحررية فلسطينية علمانية، وهو أمر مرتبط بإيديولوجية الدولة الإيرانية، وبعناصر شرعيتها التي تحتاج لتغذيتها دائما، باعتبارها دولة بنت شرعيتها على مقولة “نصرة المستضعفين، ومواجهة” الاستكبار العالمي”، دون أن ننس أن “إسرائيل” وإيران تشتركان في أن كليهما يعتبران الآخر تهديدا وجوديا، لاعتبارات سياسية وجيوستراتيجية وعقدية، وكلاهما يرى مصلحته في إضعاف الأخر، ولذلك وغيره تدعم إيران المقاومة الفلسطينية بمختلف تعبيراتها، وليس حماس فقط، بل إن حركة الجهاد الإسلامي أقرب من إيران مقارنة بحماس، باعتبار الخلفية الإخوانية لهذه الأخيرة، رغم فك ارتباطها بالتنظيم العالمي للإخوان، وباعتبار العلاقة التاريخية بين حركة الجهاد وحزب الله التي تقوت حين وصل رمضان عبد الله شلح لقيادة الحركة، لكن الشواهد والوقائع تؤكد أن إيران تبقى عند حدود الدعم، ولا تمارس أي وصاية على الفصائل الفلسطينية.
- ما تفسيرك للقوة غير المضبوطة؛ و التي وصفها البعض بالوحشية؛ التي استعملتها إسرائيل في هذه الحرب؟ هل هذا دليل على قناعة ثابتة لإسرائيل على الوجود المشروع بالقوة و الفعل؟ أم أن لها دلالات كامنة أخرى؟
الجواب بسيط، تلك عقيدة “إسرائيل”، ويكفي الرجوع للماضي لكي نعثر على الكثير من الأشباه والنظائر لهذه الوحشية الإسرائيلية، وبالتالي ليس فيما يقع اليوم أي استثناء، وخصوصا أنها هذه المرة مطبوعة بالانتقام لشرفها العسكري وهيبتها التي تمرغت في التراب، ولذلك فهي تتصرف مثل الخنزير البري المجروح، لا يجب أن ننس أن العقيدة التلمودية التي ترسم الأطر الذهنية للقادة الإسرائيليين الحاليين قائمة على قتل الغوييم، والتمثيل بجثته، واعتبار أن وجود” اليهودي” في تلك الأرض رهين باجتثاث من ليس كذلك، ثم إن الهولوكوست رسخ في المؤمنين بالأطروحة الصهيونية سواء في نسختها العلمانية القومية الأولى أو في نسختها التلمودية الأصولية حاليا أنك إذا لم تقم بالمسارعة إلى القتل، فإنه سيكون مصيرك، الصهيونية فردا أو مؤسسات أو إيديولوجيا هي مختبر استثنائي للعنصرية التدميرية، والكراهية، والتعصب، تتجاوز حتى النازية.
لدرجة أنه إذا كانت النسخة الصهيونية الأولى مع هرتزل وصولا لمؤسسي الدولة كانوا ينظرون للغرب رغم جرائمه في حق اليهود باعتباره مثالا للاقتداء، وكانوا يسعون لتقليده، ولكي تصبح “إسرائيل” نسخة أمريكية أو أوروبية في المنطقة، فإن القوى الأصولية المتطرفة حاليا في هذا الكيان تحمل كراهية حتى لهذا الغرب ولقيمه الحضارية، رغم أنها تستفيد منه. إنهم يكرهون الجميع، ويخافون من الجميع، ولا يثقون في كل من ليس منهم.
- بناءا عليه؛ ما تفسيرك لهذه المقاومة الباسلة بغزة التي فاقت التصورات و التوقعات و التي فاجأت العديد من الناس بالعالم؟
شخصيا لم تفاجئني هذه البسالة، وهذا الصمود، غير أنه لا يجب أسطرة الكائن الفلسطيني، ففي مقاومات كل الشعوب التي عانت الاحتلال والميز العنصري والاضطهاد سنجد هذا الإصرار الذي يتغذى كذلك، وهذه هي المفارقة من حجم جرائم العدو، غير أنه الذي يجب أن يكون محط انتباه هو استمرار غزة في القيام بدور الحاضنة الشعبية للمقاومة، رغم الحروب والمجازر المتواصلة، وأعتقد أن ذلك يجد تفسيره في كون أن الجزء الكبير من سكان غزة هم في الأصل اللاجئون زمن النكبة وأبناؤهم وأحفادهم، وبالتالي هناك إصرار على عدم تكرار جرح النكبة، ويعتبر الغزاويون بقاءهم في غزة مسألة حياة أو موت، وبالتالي استحالة نجاح مخطط التهجير، قد تنجح لا قدر الله الإبادة الجماعية، ولكن لا سبيل لنجاح التهجير، إنه بمثابة انتحار بالنسبة لهم، ويمكنك أن تتأمل كيف أن العديد من الغزاويين لهم جنسيات أمريكية أو عربية أو أوروبية، وعادوا لغزة بعد اتفاقيات أوسلو، ولم يغادروها رغم الحصار المضروب عليها، والحروب المتوالية، والأمر الثاني هو أن شكل عملية طوفان الأقصى يدل على أنه تم التخطيط لها لمدة طويلة تتجاوز الثلاث سنوات، وهذا الذي يفسر الانخراط الضعيف لحماس في عملية سيف القدس في 2021، مما يسقط اتهام إيران بأنها وراء العملية لقطع الطريق على إمكانية تطبيع السعودية، لأن الإعداد سابق حتى لاتفاقات أبراهام، وبالتالي فمن البديهي أن المقاومة وضعت أسوء السيناريوهات نصب أعينها، خصوصا أنها الأكثر دراية بالطبيعة الدموية “لإسرائيل”، يبقى سؤال: هل سيناريوهات المقاومة مناسبة لتحقيق أهدافها، يصعب التكهن بالمآلات، لأننا أمام حرب استثنائية بحيث كل طرف مباشر أو غير مباشر، لا يعرف أوراق الأطراف الأخرى، بل إننا أمام مشهد يبدو فيه وكأن حتى الحلفاء لا يكشفون أوراقهم لبعضهم البعض.
- و هل من العقل و الواقع؛ الإستمرار في المقاومة رغم ضعف الإمكانيات و الظروف الموضوعية؛ و رغم قوة و بطش الاحتلال؛ أي؛ لماذا عدم الإكتفاء باتفاقية سلام مع مطالبة بالحد الأدنى؛ مثال حدود 67؛ في ظل موازين قوى مختلة؛ كما يقول البعض؟
لقد أوضحت سلفا أن قيام دولة فلسطينية في حدود 67 الطرف الإسرائيلي هو من يرفضها، لأن ذلك يعني تفكيك المستوطنات، والمستوطنات ليست قضية أمنية فقط بإسرائيل، بل هي حل لمعضلات ديموغرافية وعقارية، ولأنها الحل الوحيد لاستمرار الهجرة اليهودية نحو “إسرائيل”، وبالتالي وأمام التواطؤ الدولي، واستمرار إسرائيل في رفض تطبيق القرارات الأممية، فإن الفلسطينيين مجبرون على المقاومة وعلى حمايتها، وخصوصا مع هذه الحكومة المتطرفة التي لا تخفي مشاريعها الاستيطانية الجديدة في الضفة، وغلاف غزة، ومحيط القدس، ولا تخفي انتقالها إلى مرحلة جديدة في التعامل مع المسجد الأقصى تقضي بالاستيلاء عليه نهائيا، وتعتبر أن حل ما تسميه المشكل الفلسطيني يمر عبر إلحاق جزء صغير من الضفة الغربية بالأردن، والسيطرة النهائية على الجزء الأكبر، وتحويله لمشاريع بناء عقارية لاستيعاب اليهود المهاجرين، وتهجير الجزء الأكبر من سكان غزة، مع وضع الباقين في مساحة أقل منزوعة السلاح، وتحت إشراف قوة “صديقة”، تمهيدا للحل النهائي الذي عبر عنه نتنياهو من على منصة الأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، وهو يرفع خريطة تضم كل فلسطين التاريخية، معلنا أن هذه خريطة إسرائيل المستقبلية، وللأسف فإن من يتحدثون عن حل الدولتين، والتسوية، وغيرها لا يطلعون على النقاشات القائمة في “إسرائيل”، ربما إذا سمعوا لمائير بن شاباط أو سمورتش أوبن غفير، سيخافون على أنفسهم إذا صدقت نياتهم ، وليس على الفلسطينيين فقط.
أما بخصوص موازين القوى، فأصلا المقاومة تعمل على تعديلها بما تملك، لأن الاستسلام والانتظارية في هذه المرحلة سيعجل بإقبار القضية الفلسطينية نهائيا، واستراتيجية المقاومة في السنوات الأخيرة، وفي هذه السياقات غير المساعدة أراها ناجحة لحد الأن، على الأقل لجهة تأخير تنفيذ مخططات المحو، في انتظار توفر شروط أفضل محليا وإقليميا ودوليا.
- كلمة ختامية أستاذ خالد :
أشكرك كثيرا على أسئلتك التي سمحت لي بالحديث في مواضيع آنية، وأغتنمها فرصة لأقول بأن انتصار المقاومة الفلسطينية سيكون مقدمة لإيقاف الكثير من المخططات الإجرامية التي تحاك ضد كل المنطقة، وتهدد الوحدة الوطنية والترابية لكثير من دول المنطقة