للحياة الكريمة ثمن
مبارك المتوكل/المغرب
كنا صغارا عندما قامت حرب 1948. كان المغرب حينها خاضعا للاستعمار الفرنسي وكنا قد انتقلنا من التردد على الكتاب القرآني إلى التردد على المدرسة التي أنشأها الاستعمار لتكوين أعوان يتكلمون الفرنسية ليكونوا تراجمة وخداما للمستعمر. كانت كل الدروس بالفرنسية مع أن المعلم كان مغربيا. لم نكن نعرف شيئا عما يجري في العالم ولكن المرحوم محمد العباري الجزار أعلم أهل القرية، كان مطلعا على ما يجري بحكم علاقته برواد الحركة الوطنية وقد أخبر الحاضرين في المسجد الذي كان في نفس الوقت كتابا للقرية أن اليهود قبحهم الله قد اعتدوا على إخواننا في بيت المقدس وأن الله سينتقم منهم .
لم تستوعب عقولنا الصغيرة من هذا الكلام إلا أن هنالك خصاما بين المسلمين واليهود. وما أكثر ما كانت تنشأ خصومات بين أهل القرية وكان الزمن كفيلا بأن يصلح ما بين المتخاصمين. لم نكن نعرف صحافة ولا إذاعة لأن القرى لدينا لم تكن تعرف الكهرباء ولا توابعها كالراديو الذي كان أعجوبة المرحلة ولا الهاتف الذي سمعنا عنه دون أن نراه . وحتى عندما أحضر أحد معلمينا ساعة لم يكن أحد منا يسمع بالساعة إلا تلك التي تتعلق بيوم القيامة في المفهوم السائد عند عموم الناس، والتي كثيرا ما كان معلم الكتاب يحدث عنها من يحضر مجلسه .
لم يفكر أحدنا في إيذاء أطفال اليهود الذين سأتعرف على بعضهم عندما انتقلت إلى المدينة وإلى مدرسة حقيقية فيها معلمون للفرنسية وآخرون للعربية. حينها فقط بدأنا نسمع دون أن ندرك عمق الصراع الدائر هناك في أرض بعيدة إليها تم الإسراء ومنها كان المعراج وكان حجاجنا لا تكتمل حجتهم إلا إذا زاروا وصلوا في المسجد الأقصى الذي كان حلمنا أن نحج إليه عندما نكبر. وكبرنا ولم يتحقق حلمنا أو لم نسعى إلى لتحقيقه. كثير من أصدقائي عادوا يتحدثون عن مشاعرهم بعد زيارة القدس، لكن بعد أن مكنوا الأجهزة الصهيونية من أخذ صورهم وهوياتهم وتدوين معلومات عنهم ثم ختم جوازات سفرهم. عاشرت يهودا في الحركة الكشفية طفلا ثم في ساحة النضال شابا .
لكن الراسخ هو معاشرتي لليهود المناضلين الذين صمدوا إلى جانبنا ودافعوا معنا على نفس القيم والمبادئ وتحملوا معنا تجارب المعتقلات السرية وقهر السجون وقسوة السجانين، كما عرفت يهودا كانت إقامتهم قريبة منا ولكن قلوبهم كانت مع الذين يبنون دولة حلم بها تيودور هرتزل وبشرهم بها بلفور وكأن الأرض وما عليها ملك ورثه عن أجداده. كنا نسمع عن المدابح والجرائم التي ارتكبها رواد الحركة الصهيونية من أجل إقامة دولة إسرائيل ومع ذلك بقيت علاقاتنا عادية مع اليهود كجيران وأصدقاء، ولم يفكر أحدنا يوما في أيذاء يهودي أو تدنيس بيعته كما يفعل الصهاينة اليوم بمساجد وكنائس الفلسطينيين في غزة وغيرها .
لقدأصبحوا يعادون كل من يخالفهم في المعتقد أو الرأي، لأنهم هم حراس المعبد الذين يملكون الحقيقة وحدهم وما على الآخرين إلا أن يبقوا خداما طيعين، لأن الآخرين وحوش بشرية تريد أن ترفع رأسها في حضرة مجتمع متحضر يمتلك المال والمعرفة ويتحكم في وسائل الإعلام بكل أنواعها وتخصصاتها وبالتالي يجب أن يكون بيده الحكم ليحدد من يستحق النعيم ومن يجب أن يعيش الجحيم بل من يستحق الحياة ومن يجب إقباره حيا تحت الأنقاض اتقاء لشره .
إن الحصار المفروض على غزة التي تعيش منذ 2006 ليس في سجن السماء لحافه بل في قفص ضيق عوملوا فيه وفق تعبير وزيرهم في الدفاع كوحوش بشرية اقترح ونفذ اقتراحه بمنع الماء والنعمة على ما يزيد عن مليونين من البشر حرموا من كل شروط الحياة ولم يطعموا إلا رصاصا وقنابل ليلا ونهارا تحت أنظار بل بمباركة عالم يسمي نفسه متحضرا يدعم قتل الأطفال والنساء والشيوخ بدعوى القضاء على حماس في حين أن الهدف هو إفناء الشعب الفلسطيني .
حماس لم تكن موجودة وقت المدابح من دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا، وإذا حاول الإعلام المأجور حتى في البلاد العربية أن يربطها بتنظيمات إرهابية كانت الأمبريالية الأمريكية وراء تأسيسها في مرحلة الحرب الباردة لتسخن بها الجو في ظرف كان العالم يعيش فيه نوعا من التوازن قبل أن ينهار الاتحاد السوفياتي، فإن انقلاب السحر على الساحر جعل الامبرالية تلجأ إلى تحريك آخر أدواتها في المنطقة وهي تعرف الأساليب الإرهابية للصهيونية لذلك دفعت تلك الهامة لكي ترتوي بالدم والمفضل لدى هذه الهامة هو الدم الفلسطيني .
ما كان يمكن لتلك الهامة أن تمارس ساديتها باستباحة الدم الفلسطيني لولا تراخي الأنظمة العربية بل واستقالتها ورضوخ الكثير منها إلى التطبيع مع العدو، ومحاولة تكريس الراهن بإلهاء المجتمع ومختلف مكوناته بترهات يراد لها أن تكون قضية تشغل بال المواطن وتبعده عن المهام المفروض إنجازها آنا أو في أقرب أجل نظرا للحاجة الملحة إلى تجاوز الراهن مساهمة في بناء المستقبل. تحاول الصهيونية أن تحول نضال الشعب الفلسطيني من حقه في أرضه كل أرضه إلى صراع ديني يهودي/إسلامي في حين أن العالم يعرف أن عصر الحروب الدينية قد ولى منذ ظهور الفكر العلماني الذي بدأت تباشيره تظهر في عالمنا العربي منذ الحروب الصليبية عندما رفع شعار”الدين للديان والوطن للجميع” .
إلى إولائك الذين أصبحوا جادين أو عابثين يدعون الموضوعية والشفقة على الفلسطينيين ضحايا المدابح الصهيونية فيسألون: ألم تكن المقاومة تعرف كيف سيكون رد إسرائيل؟ وإذن لماذا أقدمت على المغامرة بدماء الأبرياء ونفذت ملحمة طوفان الأقصى ؟ سؤال يبدو بريئا وكأن صاحبه يجهل الحقيقة المرة والمتجلية في موقف العديد من الدول العربية التي تتصرف بوجهين، فهي تدعي الدفاع عن الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية ولكنها تعترف بالعدو وتطبع معه وتعقد معه الصفقات وتبرم معه المعاهدات الضارة ليس بالقضية الفلسطينية فقط بل وبمصير الشعوب العربية أيضا .
الحقيقة الناصعة التي لا يستطيع أحد أن يجادل فيها هي ما يتجلى اليوم من خلال مواقف شعوب العالم إذ استطاعت المقاومة بصبرها وتحديها لكل العوائق بما فيها تلك الصادرة عن قادتنا وحملة الرأي”بيننا . لن أقول لكل هولاء إن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة بل سأردد مع أحمد شوقي :
’’وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق”
إنه الخيار المطروح أمام الشعوب إما موت في ساحة النضال من أجل الحرية أو الموت الرخيص ذلا وهوانا
إذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تكون جبانا