الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

حكاية الخزان،

عبد الصمد الشنتوف -لندن
 كان مساء ممطرا. أوقفتني الحافلة وسط هورسماندن، بلدة صغيرة هادئة بجنوب إنجلترا ترتاح بين أحضان تلال خضراء. أسرعت خطاي نحو ضيعة التفاح تحت زخات المطر. تبللت ثيابي. أحسست ببرد يسري في كل أطراف جسدي. دلفت إلى إقامتي الجديدة في مرآب بارد. جلست على الأرض أرتعش مثل عصفور مبلل، ثم دسست جسدي داخل كيس نومي، تمددت على ظهري ووضعت كفي خلف رأسي، رفعت بصري إلى الأعلى، كان صوت المطر ينقر فوق السقف. تسلل الماء من ثقب صغير، فانهمر على جدار متشقق مشبع برطوبة عفنة. تجولت بعيني من حولي في صمت، أرنو إلى طلبة عمال مستلقين على الأرض، مندسين داخل أكياس نوم ملونة مثل ثعابين ولجت جحورها. تجمعنا معا في مكان واحد وكأننا داخل ملجأ فارين من القصف، خائفين من الموت فرادى، إذ يعتقد الناس دائما أن الموت في جماعات أرحم بكثير.
نحملق في وجوه بعضنا البعض، تارة نتبسم بود، وتارة نعبس بوجوم، تخيلت المرآب كمشتى ثعابين خلال فصل الشتاء.
بدا لي المرآب موحشا، يكاد يخلو من النوافذ ولا تتسلل إليه خيوط الشمس. قبالتي ثلاثة أتراك: حشمت، عصمت، وأحمد، على يسارهم جوصيه ورفايل من البرتغال، على يميني صديقي تيجاني، وعلى يمينه هو شابان بولنديان بوريس وألكسندر. هذا الأخير شاب انطوائي تعيس حسبته يعاني من مرض التوحد. حينما ينهض لدورة المياه يحرك عينيه وأذنيه بشكل مريب، يهمهم بشفتيه وكأنه يتواصل مع كائن غير مرئي، بمجرد ما ينظر إلي يتعكر مزاجي وينقبض صدري، كانت  أول مرة ألتقي فيها بمواطنين ينحدران من أوروبا الشرقية. شابان أوروبيان أشقران لكنهما ليسا كباقي الأوروبيين، ينتميان إلى العالم الأحمر البعيد، أتيا من معسكر غامض لا نعرف عنه الكثير. كانا ممتقعا الوجه على الدوام، صموتان، ميالان إلى العزلة، ومنكبان على نفسيهما وكأنهما يحملان على كاهليهما كل ثقل وأحزان المعسكر الاشتراكي، خلتهما مريضين هاربين من مستشفى المجانين.
 بسطت سجادتي على الأرض. انزويت إلى جانب خزان إينوكس لعصير التفاح. لم أجد مكانا شاغرا غيره. الكل يعرض عنه فقبلت به عن مضض، ذلك أنني التحقت بالضيعة متأخرا خلال موسم قطف التفاح.
عندما أكون مستلقيا على ظهري أنظر إلى السماء فيزداد حجم الخزان ضخامة في عيني، وكأنه جبل فوق رأسي، خلت نفسي نائما عند سفوح جبل بوهاشم. وعاء كبير لمصنع جعة “سايدر”.
كلنا طلبة في العشرينات من عمرنا عدا تيجاني فهو أستاذ الفرنسية، ويكبرنا ببضع سنوات. فجأة، التفت إلي حشمت فوجدني أكلم الخزان في خشوع وأتوسل إليه، كما لو أنني عند ضريح الشيخ الكامل ألتمس بركته. همست بصوت خفيض متوسلا الخزان أن يتزحزح قليلا من مكانه نحو مدخل الباب كي أطمئن وأنام، فاستجاب لي. كنت خائفا أن يسقط فوقي. انتهيت إلى خلق علاقة غريبة بالخزان. رمقني حشمت بفم فاغر وقد تجمدت ملامحه، فخاطبني مندهشا:
– هل أنت بخير ؟ كيف لك أن تحدث جمادا ؟
أجبته في هلع:
– من شدة الخوف أتودد للخزان وأحثه على الثبات مكانه، لقد وعدني خيرا وأمانا.
ضحك التركي عاليا.
قلت له:
– مم تضحك ؟
– أضحك من جبنك وحمقك، كيف لخزان إينوكس أن ينصت إليك، أو يسقط عليك، وهو مثبت ببراغ وسلاسل حديدية على الجدار؟ أنصحك بمراجعة الطبيب.
– هل ممكن أن تستبدل معي مكانك وأمنحك صندوقا من التفاح ؟
انفجر حشمت ضاحكا ورد علي:
– لعلك جبان مخبول، لن أغير مكان نومي حتى لو منحتني الضيعة كلها.
– إذن أنت جبان مثلي تخشى من الموت، فلما تعاتبني؟
– ربما، دعني أقول لك شيئا، لقد أدهشتني أيها المغربي بخفة دمك وخيالك، نحن نقطن في هذا المرآب منذ حوالي شهر ولا أحد أثار مثل هذا الحديث السوريالي قبل مجيئك، يبدو وكأنه حديث المجانين. تعاطيك مع الخزان أثبت لي أن لديك مخزونا هائلا من الخيال يستبد بعقلك، ربما لأنك مدمن على مشاهدة أفلام الرعب والخيال العلمي.
 – لا لا أبدا، أنا أكثر واقعية منك، لأنني جبان كما أشرت، فقايضتك بصندوق تفاح إلا أنك امتنعت. أنت أيضا مخبول، كل ما في الأمر، هو بسبب هذا الخزان العملاق امتنع علي النوم.
– لقد صنعت قصة خيالية من هذا الخزان الممتلئ بجعة التفاح، آه كم يسيل لعابي على جعة سايدر!
استدرت نحو تيجاني وسألته:
– أتظن أن الخزان ممتلئ يا تيجاني؟
فرد علي متهكما:
– وما يضيرك إن كان ممتلئا أم فارغا، وهل تظن أنك ستبقى على قيد الحياة إن سقط عليك ؟
جوابه أربكني، أجج قلقي وأثار مخاوفي من جديد وإن تظاهرت برباطة جأش.
أطلق حشمت ضحكة مجلحلة، ثم رماني بتفاحة أصابت ذراعي، وقال لي مازحا:
– أتدري إن سقط عليك فيل ضخم ماذا سيحدث لك؟
أجبته بلا مبالاة:
– لا أدري.
– قد تنجو وتصاب بكدمات وكسور خطيرة في جسدك، وربما تصاب بعاهة مستديمة، أما إذا سقط عليك هذا الخزان الضخم فسوف تتحول إلى لحم مفروم، لأن وزنه أضعاف مضاعفة لوزن الفيل.
اصطنعت ضحكة باهتة، وقلت له:
– إذن سأموت خارج وطني وأنا في ريعان شبابي ؟
فما كان منه إلا أن رد علي متهكما:
– نعم ستموت، وستدفن مع النصارى في هذه القرية النائية بعدما يصلي عليك كاهن الكنيسة.
أصابني كلامه بالهلع، ثم توجهت نحو تيجاني أخاطبه:
– سجل رقم هاتف عائلتي بالمغرب حتى تخبرهم إن أصابني مكروه.
تفرس تيجاني في وجهي ورد علي ساخرا:
– نم، نم يا أبله ! يبدو أنك شخص مجنون ساقه القدر إلينا لتنسينا همومنا ونطرد الضيق والملل من هذا المرآب البارد. قام حشمت ليضغط على زر الإنارة وانطفأ الضوء وساد ظلام دامس.
غشي المكان هدوء مريع، استسلمنا جميعا للنوم، غاب كل واحد منا داخل كيس نومه، غرقنا جميعا في نومنا وخيم على المرآب صمت القبور.
شعرت بتوتر وجزع يلف قلبي. إذ مكثت أتقلب داخل كيس نومي، كانت تملأني هواجس متضاربة، طيلة الليل وأنا أردد ورد اللطيف، كنت خائفا، أرقب خزان الجعة حتى لا يتحرك من مكانه. استجمعت قوتي وحدثت نفسي: إنما الأعمار بيد الله، لا راد لقدره، ثم غبت في سبات الموتى.
بعد وهلة ليست بقصيرة، استفقت على حين غرة. فتحت عيني في الظلام، أخذت أتحسس الخزان بيدي فألفيته ملسا باردا مازال مثبتا في مكانه. تمنيت لو حضرت الملائكة كي تخلصني منه. خلته شبحا مخيفا منتصبا أمامي.
في سكون غامر من الليل، يغشى المرآب برد قارس، وتنخفض حرارة الطقس إلى ما تحت الصفر. عبر فتحة الباب تتسرب هبوب الرياح، ليتناهى إلى سمعي هزيز ممزوج بحفيف أشجار ونباح الكلب “لولو”. كما أسمع شقشقة طيور تسبح في الفضاء محدثة سمفونية شجية.
مرت ساعات ولم يغمض لي جفن. كنت أتخيل الخزان سيسقط علي في أي لحظة، وسأموت في هورسماندن، ثم أدفن مع النصارى. رأيت ملك الموت يحوم حولي. خفت من سؤال القبر، من أسئلة الملائكة. خفت أن يتلو علي الكاهن ترانيم الإنجيل المقدس في الكنيسة، فأدفن بجوار جون.. مايكل .. وباتريك في مقبرة مسيحية موحشة. لن تستطيع أمي الحنونة أن تزورني في قبري. تذكرت حينها قصيدة الشاعر السوري “يا واقفا في ظل قبر”.
لبثت هكذا أصارع نومي، وقد اكتسحتني هواجس الخوف في منامي. مشاهد مرعبة اجتاحت مخيلتي.
فجأة، قمت من فراشي. سرعان ما أدركت أن الخزان مازال مثبتا واقفا فوق رأسي. لم يتزحزح قيد أنملة من مكانه…
طنجة/ 4 اكتوبر 2023
Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات