التطبيع والاختراق الفكري
أو حرب المصطلحات والمفاهيم
عبد المولى المروري – المغرب
في نظري لا يوجد ما هو أخطر من التلاعب بالمصطلحات والمفاهيم من أجل التدليس على المواطن البسيط، والشاب الذي يتم إعداده مستقبلا لتقبل واقع جديد مناقض لتاريخه وقيمه وهويته.. ومن أخطر هذه المصطلحات والمفاهيم المتداولة في عالم السياسة والفكر السياسي، هما الواقعية السياسية البراغماتية، واستعمالاتهما في العمل السياسي من طرف السياسيين والإعلاميين..
إن الهدف من توظيف هذه المصطلحات والمفاهيم في مجال السياسة وغيرها هو إحداث اختراق فكري لدى العامة، والشباب على وجه الخصوص، عن طريق تغليف حدث معين كانت له حمولة فكرية سيئة، وتنتج مواقف سياسية وأخلاقية رافضة، وتعويضه بمصطلح آخر يحمل دلالة جيدة كي تنتج مواقف إيجابية مخالفة للموقف الأول مجردة من كل القيم الأخلاقية، وفاقدة لأي رؤية دينية في الموضوع، ومن خلال ذلك يتم تمرير مجموعة من المصطلحات والمفاهيم الأخرى مثل: التطبيع، تحقيق انتصار دبلوماسي، التوازنات الدولية الكبرى وغير ذلك، وصناعة منظومة جديدة من المصطلحات والمفاهيم بنسق مناقض للأول، كل هذا بهدف اغتيال الذاكرة وإعادة تشكيل وعي جديد عند الشعب، وتَقَبُّل وضع آخر كان منبوذا من قبل، والتعايش مع واقع حديث كان مرفوضا في عهد سابق، باستعمال سلسلة من الجرعات المركزة عبر كل الوسائل الممكنة، ومن أهمها الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي… وتوظيف بعض الوجوه الشابة والمؤثرة في هذه المجالات.. حتى تسهل عملية الاختراق والتدجين، وتحقق أهدافها كاملة بنجاح .. ويبدو أن هذه الخطة آخذة في التوسع إعلاميا، والتوغل في عقول الناس فكريا وثقافيا..
لقد تم استعمال التعبيرين المذكورين (الواقعية السياسية والبرغماتية) بشكل مكثف في الآونة الأخيرة بمناسبة تطبيع العلاقات بين “الدولة” المغربية والكيان اليهودي/الصهيوني، خاصة ما سمي مؤخرا باعتراف «إسرائيل» بمغربية الصحراء! بطريقة في منتهى الخبث والمكر من طرف بعض الإعلاميين، استطاعت أن تحدث ثقبا توسع بسرعة كبيرة في جدار التيار الممانع للتطبيع مع الكيان اليهودي/الصهيوني، وانساق جزء مهم من ذلك التيار في ترويج أطروحة التطبيع مستهلكا – بغير وعي – خطاب بعض المتلاعبين بالعقول، اللاعبين على الحبلين، يتأرجحون بين خطاب التطبيع وخطاب الممانعة، حتى لا يصيبه غضب المطبعين، ولا يصلهم سخط الممانعين..
لقد استعمل هؤلاء الإعلاميون طريقة إلباس الحق بالباطل، ومنهج التقابل بين مصطلحين ومفهومين متناقضين مثل (خبر سار / أحدث جرحا)، (موقف متطور / الخوف من الفشل)، (اختيارات خاطئة/ نجاح في الديبلوماسية)، (انتصار تكتيكي/ المقابل السياسي) وغير ذلك من التقابلات المصطلحية التي تتباعد فيما بينها على مستوى السرد الممطط والتحليل السطحي .. ولتسهيل عملية الانتقال من الفكرة الأولى إلى نقيضها، ومن الموقف المبدئي إلى الموقف البراغماتي، يتم استعمال أدوات الربط والتبرير من قبيل ؛ (ولكن)، (وفي الواقع)، (وربما) ، (إلا أنه)،(وبكل موضوعية)، (وبكل صراحة)، (وتقتضي الشجاعة)، فيتيه القارئ في طلاسمها وجودة عرضها (لحن القول بالتعبير القرآني)، ويخرج القارئ/الضحية دون وعي منه من نسق وفكر الممانعة القائم على أسس أخلاقية، ويدخل إلى نسق الواقعية السياسية وعرض نجاحات وهمية ليجد نفسه واقفا على أرضية التطبيع التي أملتها (حسب التحليل التقابلي) الضرورة الدولية والواقعية السياسية.. وهي تقنية تواصلية مستعملة في مجال البرمجة اللغوية العصبية NLP، ابتكرها ريتشارد باندلر وجون غريندر في سبعينيات القرن الماضي، واستعملت في التسويق التجاري، ثم انتقلت إلى التسويق السياسي، واستعان بها بيل كلينتون للتخلص من فضيحة مونيكا ليونسكي الشهيرة…
ولفهم خطورة هذا الأسلوب الخبيث، فإن أئمته ينطلقون من الموقف الأخلاقي والديني للقضية الفلسطينية، مرددين خطاب الممانعة والرفض (أنا ضد التطبيع، العدو الصهيوني، حقوق الشعب الفلسطيني، الارتباط الروحي بين الفلسطيني والمغربي…) ومدججين بمفردات ومصطلحات ثقيلة تدغدغ مشاعر البسطاء للحفاظ على “مصداقيتهم”، ومتظاهرين بالاصطفاف في خندق الممانعة، وعندما يطمئن المتلقي لهذا الأسلوب “الطهراني” الخبيث، حيث يدخل الضحية فيما يشبه التنويم المغناطيسي، ينتقل به أصحابه بخفة أصحاب الألعاب السحرية اليدوية إلى الاتجاه المقابل من الوضعية، وهي إبراز الجانب “المشرق” من التطبيع، ونتائجه “الطيبة”، و”انتصاراته” الديبلوماسية الإقليمية والدولية، ولو كانت شكلية أو محدودة، باستعمال مصطلحات ومفردات كبيرة جدا، تتجاوز حجم المغرب وقدراته السياسية وموقعه الدولي .. أسلوب يضخم الأنا ويرفع من منسوب الشعور بالعظمة والفخر عند المتلقي، الذي ينبهر بحجم التعاطي الإعلامي الوطني والدولي مع الموضوع، والترويج لنظرية النظر إلى الجهة المملوءة من الكأس بدل الجهة الفارغة، ولكن المادة التي تملأ ذلك الكأس مكونة من سموم وملوثات تقوم بإتلاف خلايا الممانعة، وتدمر العروق التي تنبض بالرفض والمقاومة، ثم يقع الضحية أخيرًا، بعد تناول عدة جرعات من ذلك المحلول، في مصيدة القبول بالتطبيع منتشيا بانتصار مزيف انتشاء المدمن على الخمر متوهما سعادة كاذبة بعد احتساء عدة كؤوس..
يبدو أن هذه الخطة حققت نجاحات محدودة لدى الجيل الذي عاش الصراع العربي الإسرائيلي بجميع تطوراته وتقلباته بسبب احتفاظ هذا الجيل في جزء من ذاكرته ببعض الأحداث الدامية التي عانى منها الشعب الفلسطيني، إلا أنها (الخطة) حققت نجاحا معتبرا لدى فئة الشباب الذين لم يعاصروا ذلك التاريخ الدموي المأساوي، فهذه الخطة تقتضي وضع قطيعة مع تاريخ ذلك الصراع، باغتيال ذاكرة الشعب، وإجراء عملية غسل دماغ شاملة، وتنظيفه من كل ما يرتبط بذلك التاريخ، وحشوه بمعطيات وتصورات ومفردات ومصطلحات ومواقف جديدة، بأسلوب جذاب وقالب مؤثر، مستعينين بكتائب إعلامية محترفة ومسخرة لهذا الخطة الخبيثة، كي تنسجم مع استراتيجية التطبيع وتخدم أهداف الكيان اليهودي/الصهيوني، وتحقق نتائجه في غرب المنطقة العربية المتمثلة في اختراق الشعوب العربية سهلة التدجين وسريعة التحوير .. هذا الاختراق الذي يستهدف الفكر والوجدان قبل التجارة والأمن ..
لقد حولوا (الاستسلام) إلى (تطبيع)، و(الخيانة) إلى (واقعية)، و(الصراع) إلى (تعايش)، و(الكيان الصهيوني) إلى (دولة إسرائيل)، و(دول الطوق) إلى (دول الجوار)، و(التجسس) إلى (تعاون أمني)، و(التواطؤ) إلى (تحالف)، و(الخذلان الدبلوماسي) إلى (انتصار دبلوماسي)… ونشروا هذه المصطلحات بطريقة مكثفة ومركزة في الإعلام والخطابات الرسمية، مع إلغاء كل المصطلحات المعارضة لها حتى يصنعوا فكرا مطبعا مقابل فكر ممانع، ورأيا مدجنا مقابل رأي مستنير، واقعا سلميا جديدا مقابل تاريخ دموي، كما أنهم بعدما كان يطلق على الكيان اليهودي/الصهيوني اسم (الكيان الصهيوني)، استبدلوا ذلك بعد انتهاء سنوات المقاومة ب«إسرائيل» بين معقوفتين كتعبير رمزي على أنها دولة نشاز وغير طبيعية، وبعد بضع سنوات أخرى، والدخول في مرحلة الترهل والاستسلام، قاموا بتحرير الكلمة من أسر المعقوفتين وأصبحت تكتب بشكل عادي كأي دولة عادية، وأصبح المندسون من الإعلاميين في صفوف تيار الممانعة يكتبونها بدون معقوفتين في إطار التطبيع اللغوي مع طريقة كتابتها، مع ما تحمل من دلالات سياسية وفكرية، وفي نهاية الترهل يتم إقبار ما كان يسمى عند “الأقدمين” بالقضية الفلسطينية وما يلازمها من قضايا الاحتلال واللاجئين، وحق العودة، وقدسية القدس الشريف … وأخيرا إقرار «الدولة الإسرائيلية» حقيقةً ومعنى، بيهوديتها وصهيونيتها واستعمارها واستيطانها … باستعمال ثنائية «إقبار التاريخ وإقرار الواقع» .
أمام خطورة هذه الحرب، حرب المصطلحات والمفاهيم، تصبح مهمة المفكرين والمثقفين والعلماء عظيمة وجسيمة، هي حرب أخطر من حرب القنابل والمدافع والدبابات والطائرات.. فإذا كانت هذه الوسائل المادية تقتل الناس وتزهق الأرواح، فإن حرب المصطلحات والمفاهيم تقتل التاريخ وتغتال الذاكرة وتدفن الهوية.. بمعنى آخر؛ تدمر الحضارة العربية الإسلامية.. فهل أنتم واعون بما يدبره الخبثاء من الإعلاميين؟
على العلماء والمفكرين والمثقفين أن يناضلون من أجل الحفاظ على حقيقة هذا الصراع وهويته بالحفاظ على مصطلحاته ومفاهيمه الأصلية والأصيلة، عليهم أن يكثفوا من تواصلهم مع الشباب، والتكثير من اللقاءات في المنصات الإعلامية الوسيلة الأساسية في التنوير والتأثير.. عليهم إزالة هذه الأغلفة المزيفة التي يزين بها السياسيون والإعلاميون سوءة الخيانة وخبث المؤامرة ضد الشعب الفلسطيني والقدس الشريف، عليهم إسقاط أقنعة النفاق السياسي التي يرتديها بعض الإعلاميين المطبعين المندسين في صفوف الممانعين لكسب ثقة الشباب والحصول على مصداقية لا يستحقونها .. إنه تنظيم سري منظم أُطْلِق عليه اسم «منافقون بلا حدود»، ولي عودة قريبة إليهم إن شاء الله..
قال الله سبحانه وتعالى عنهم: «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ».
وقال أيضا: «وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ».
وعنهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عن أبي هريرة – سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة.
إذا كان المغرب في حاجة للكيان اليهودي/الصهيوني، اللص، المغتصب، المجرم، القاتل، الغدار، الذي ظهر منذ سبعين سنة فقط، للاعتراف بسيادتنا على أرضنا التي هي لنا منذ مئات السنين، فقد هانت علينا قضيتنا الوطنية، وأصبحنا لا نساوي شيئا بين الأمم..، وإن وعد الله قادم لا محالة، وستتحرر فلسطين وبيت المقدس، بعز عزيز أو بذل ذليل.. وهذا وعد الله الحق ونبوءة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى..
وختما، لا حقيقة إلا فلسطين، ولا واقع إلا واقع الاحتلال، ولا حل إلا بالتحرير، ولا سبيل إلا بالمقاومة، وفلسطين كما الصحراء، لنا لا لغيرنا..