الذات الفاعلة:
البحث عن الفاعل التاريخي المفقود
د. محمد مفضل – المغرب
تبقى إشكالية التغيير الاجتماعي في مقدمة القضايا التي تستوجب انتباه المفكرين و الفاعلين الاجتماعيين و السياسيين. انخرط فلاسفة كماركوز و فوكو و التوسير و بورديو على سبيل المثال في الغرب في الكشف عن آليات القمع و بنيات السلطة التي تخضع الناس للنظام القائم و تشكل ذواتهم بطريقة أيديولوجية لضمان الهيمنة على المجتمع. لكن أغلبهم لم يولوا اهتماما كبيرا للمقاومة التي يمكن للفاعلين الاجتماعيين القيام بها لمساءلة الهيمنة و الوضع القائم. كان ألان تورين سباقا إلى تأسيس سوسيولوجيا مناضلة سماها بسوسيولوجيا الفعل ، و أعطى للحركات الاجتماعية دورا فعالا في مساعدة المجتمعات على التغير و إعادة تشكيل بنياتها الثقافية.
في بحثه عن فاعل تاريخي يعوض الحركة العمالية في مجتمع رأسمالي مابعد صناعي، كان ألان تورين يراهن على الحركات الاجتماعية للقيام بذلك الدور و الانخراطفي صراع من أجعل السيطرة على البنيات الثقافية التي يضفي المجتمع من خلالها معنى على تجربته التاريخية. في كتابه المشهور الموسوم بنقد الحداثة، حاجج تورين بأن الحداثة كانت مؤسسة على عنصرين أساسين هما العقلانية، و تحقيق الذات. غير أنه خلص من خلال تحليله لتطور الحداثة في الغرب إلى ان الحداثة الممثلة في العقلانية كانت دائما تحارب نصفها الآخر، و هو الذات. ظلت الحداثة لا تتحدد إلا بمدى سيطرتها على العالم و إخضاعه للعقل، لكنها أخفت خلال هذا المسار نصفها الآخر و هو انبثاق الذات الإنسانية كحرية و إبداع.
كان تورين يسعى من خلال هذا النقد إلى إعادة الاعتبار للذات، كذات مستقلة و فاعلة في مواجهة طغيان العقلنة الاداتية التي تنتج نظاما اجتماعيا يتحكم في الأفراد و يخضعهم لقوانينه و للإرادة العامة للجماعة. كان على الذات المنفصلة عن الطبيعة إما أن تتماهى مع المجتمع أو السلطة، و إما أن تتحول إلى مبدأ للحرية و المسؤولية الشخصية. في زمن أصبحت فيه الأنظمة الشمولية تبتلع الذوات و تتكلم باسمها، تعود فكرة الذات المسؤولة للواجهة و بقوة لأن الأنظمة الاجتماعية السائدة لا تسمح لوجود الذوات في استقلال عن ايديوجيتها التي تسعى إلى ضمان الاستمرار في الهيمنة. يجب أن تتحرك الذوات الفاعلة من داخل النظام الاجتماعي لتحريك آليات التغيير و المساهمة في تحديد البنيات الثقافية المتحكمة. لا يعترف ألان تورين بالأحزاب السياسية كحركات اجتماعية لأنها جزء من النظام الاجتماعي و لا تكون مقاومتها له ذات بعد ثقافي.
إنها الحرية المسؤولة التي يبقى تحقيقها لأثر ملموس على أرض الواقع بلا ضمانات في مجتمع لا يؤمن إلا بالمصالح وحماية المصالح والمشاركة في المصالح. تبقى ممارسة هذا النوع من الحرية صعبا ومكلفا لأنها تؤمن بشيء لا يعترف به الأقوياء في النظام الاجتماعي، إنها تؤمن بالمسؤولية التي هي أساس الحقيقة في مجتمع الحقائق النسبية التي تستعمل النسبية لخلط الأوراق. الحرية المسؤولة تسعى نحو حقيقة تحرر الانسان و لاتستعبده، حقيقة تعطي للإنسان قيمته الحقيقية كإنسان لا يعيش ليأكل بل يعيش ليحيى حياة كريمة، عادلة فيها شيء من الإنسانية و العدل.
الحرية المسؤولة تعني رفض النموذج السائد في الممارسة السياسية و الاجتماعية. إنها حركة اجتماعية ثقافية كما عبر عن ذلك ألان تورين. لا يكون الانسان فردا منعزلا كذرات متناثرة و لا عبدا للنظام الاجتماعي، بل ذاتا حرة تساهم في تغيير المجتمع نحو الأفضل. تساهم بفرض قطيعة على مستوى الممارسات و تأسيس نموذج جديد يناضل من أجل التغيرات الكبرى في المجتمع و تغيير البنيات الثقافية السائدة. تؤسس الذات الحرة لحركة اجتماعية تساهم في صنع التاريخ بما هو متاح هنا و الآن و انطلاقا من تطوير للموروث الثقافي الذي قد لا يتلاءم و التغيرات التي يفرضها الواقع.
قد يكتفي الكسالى منا باعتماد العادة و النموذج السائد لأن ذلك لا يتطلب مجهودا، و يحقق راحة نفسية و توفيرا للجهد في مجتمع لم يعد يؤمن كثيرا بالتغيير و يتشكك في كل ما يبدو جديدا و غير مألوف. إنها سلطة العادة. لكن العادة رغم الراحة و الدفئ التي توفرهما، فهي قاتلة لروح الحياة التي لا تكون حياة إلا بالتجدد و التحديث حسب بواعث تأتيها من الواقع المتغير و من الذوات الفاعلة.
إذا كانت العادة توفر الراحة فهي راحة مزيفة لأصحاب القلوب الحية و العقول النيرة. لأن العادة تتحول إلى سلطة فإنها تدعم سلطة قائمة، سلطة من نوع آخر: سلطة المجتمع التقليدي في توجهاته، و سلطة النخبة المتشبثة بمصالحها القائمة، و سلطة من يستفيد من السكون و استمرارية الوضع الراهن بكل تناقضاته. لا تستقيم ممارسة حرية حقيقية مع عادة مستبدة، لأن العادة لا تتطلب سوى الاتباع و التماثلية و الخضوع. تحقيق الذات، كما حدده ألان تورين لا يكون إلا بالفعل الاجتماعي الذي يسائل القيم السائدة و الوضع القائم، ليس بهدف تخريب المجتمع بل لتطوير بنياته الثقافية و تحرير إمكاناته التي دمرتها العادة و سلطتها المستبدة، سلطة نظام اجتماعي لا يعتبر الفرد إلا كعامل، أو موظف أو جندي أو يحتل أي موقع ينفذ من خلاله ما هو مطلوب.
لا يعتبر الفرد المنفذ لتعليمات النظام الاجتماعي ذاتا حرة و فاعلا اجتماعيا. لذلك عندما يستبد النظام الاجتماعي و يعتمد في استمراه على أفراد طيعيين و خاضعين، فإنه ينحدر نحو النهاية التي تتجلى في ركود الديناميات و تكرار السائد. الذات الفاعلة تبدأ من تغيير ذاتها، بتحقيق رغباتها الحقيقية و التعبير عن حاجاتها الأساسية. إن إشكالية التغيير الاجتماعي تبدأ من هنا، من التناقض بين خطاب التغيير وواقع التغيير في الذات أولا. لأن من يطالب بالتغيير و يحمل الآخر مسؤولية ذلك، و لا يقوم هو بالتغيير الضروري على مستوى الذات، فهو بذلك يعيد إنتاج النظام السائد. التغيير يبدأ من الذات، و لا يجب أن يكون فقط ردة فعل تجاه وضع ما، يعارض و يقاوم الشر و الانحراف في الآخر في حين ينتج نفس الشرور و الأخطاء. لا تكون الذات حركة اجتماعية بالمفهوم الذي أسس له تورين، إلا بتعبيرها عن الرغبة في التغيير الذاتي أولا، و المساهمة في تغيير يشمل الثقافة و بنياتها، ثانيا.
إن أزمة المجتمعات العربية هي نتاج لهذا التناقض و المفارقة، لهذا الفارق بين خطاب التغيير و سلوك الذات التي تنادي بالتغيير، و كأن التغيير هو قضية الآخر. ننادي بالديمقراطية لكننا متجبرون في سلوكنا، نرفض المختلف و نحارب من يخالفنا. نستهجن الرشوة في خطابنا، لكننا نخضع للواقع و نقوم بتقديمها لحل آني للمشاكل الشخصية وتحقيق الامتيازات، ننتقد سلوك الآخر لكننا نكرره بحكم العادة و في غياب وعينا بذلك. نطالب بتداول السلطة لكن عندما يتعلق الأمر بالكرسي الذي نحتله فإننا نختلق أسباب استمرارنا فيه. هكذا هي الذات العربية، ذات مبنية على التناقض.
كيف يستقيم الخطاب مع السلوك و نحن نؤمن بالمصلحة كمبدأ. في البدء، كان المبدأ مصلحة تم الاتفاق على أنها صالحة للمجتمع. فالعدل مصلحة للجميع، و الديمقراطية مصلحة تحقق الخير للمجتمع، و التكافؤ و المساواة يحققان السلم الاجتماعي، و تحقيق الكرامة للمواطن مصلحة ترقي الأمم و تجعلها متحضرة و عادلة. هكذا تتحول المصالح إلى قيم و مبادئ انسانية تؤمن بها المجتمعات المتحضرة. تتحول المصلحة إلى مبدأ عامعندما تحقق الخير للجميع، او على الأقل لغالبية أفراد المجتمع. لكن المصلحة الشخصية التي لا تؤمن بتعدي الخير إلى الآخرين بل تحتكره لذاتها، هي مصلحة منبوذة.
لا يتعارض هذا التقييم للمصلحة الشخصية مع مفهوم تحقيق الذات كما ذهب إليه تورين، بل إن جوهر تحقيق الذات هو رفض خضوع الذات لرغبات النظام الاجتماعي الجامد. الذات الفاعلة تحقق ذاتها بفعل مزدوج، أولا، عدم الخضوع لرغبات قادمة من خارج الذات، أي من النظام الاجتماعي الجامد، و ثانيا المساهمة بتحرير الذات في تطوير النظام الاجتماعي و الأسس الثقافية التي ينبني عليها.
لكن هل تستطيع ممارسة هذه الحرية المسؤولة للذات الفاعلة تغيير المجتمعات؟ نعم إذا وقع تحالف للذوات التي تسعى إلى تحقيق الذات في إطار حركة اجتماعية، لا يكون تحركها داخل المجتمع كرد فعل بل كتأسيس لما هو جديد من حيث البنيات الثقافية. لا يتحقق ذلك بالمفهوم الطبقي، كما ذهب إلى ذلك ماركس، بل بتكتل للذوات الفاعلة بمختلف انتماءاتها من حيث الجنس، و العرق و الهويات، و المصالح الإنسانية و القيم المرتبطة بالتعبير عن الذات و تحقيقها. لكن تحقيق هذا التغيير الثقافي لا يتوفر على ضمانات، بل هو نتاج لمجموع الجهد المبذول من أجل تحقيق ذلك. قد تعيق هذا الجهد رواسب العادة الجامدة و المصالح الشخصية و الرغبة في المحافظة على امتيازات يضمنها الوضع القائم، و غيرها من العوامل التي تجعل من تحقيق نجاح لهذا النوع من الحركة الاجتماعية فعلا بدون ضمانات، بل إنه الصراع من أجل التغيير الذي يحدد ما يمكن تحقيقه في مجتمع ما.
أستاذ باحث