50 سنة مرت على أحداث 3 مارس 1973 وحتى لا ننسى.
د.محمد لشكر
شهادة شخصية في حق المآت من الضحايا والمعتقلين بعد انطلاق هذه الأحداث وكان لي شرف مشاركتهم لمحنة الاختطاف والاعتقال في المركز السري كوربيس بالدار البيضاء في 1973 وهي شهادة حية مقتبسة من كتابي “كوربيس طريقي نحو الحقيقة والصفح” الصادر في 2010. قراءة متمعنة حتى لا يتكرر أبدا ما حدث لهؤلاء المناضلين والرجال الأبرياء.
“ساعدني حسي العملي وانفتاح فكري على الخروج من مجموعتي الصغيرة، من الغيتو، وأن أتواصل مع معتقلين من آفاق متباينة.
وكانت مفاجأتي شديدة حين تعرفت على معتقلين ذوي كبرياء استثنائي، كائنات إنسانية حقيقية تخفق قلوبها بمشاعر نبيلة وسخية رغم الوضعية الداعية لليأس التي تعيش فيها، معتقلين وجدوا هناك لأنهم يتشبثون بشرفهم باعتبارهم بشرا، أمازيغيون شجعان أغلبهم متقدمون في السن قادمون من أعالي جبال الأطلس، من القبيلة المجاهدة آيت حديدو.
كائنات إنسانية أصيلة، مقدامة و ذات عزة، مرتبطة أيما ارتباط بهويتها و كانت تقيم الحداد على منطقتها. لم يكونوا يتقنون سوى اللغة الأمازيغية ومع ذلك تمكنت من التواصل معهم. فاللغة الريفية قريبة من اللغة الأمازيغية . تأثرت حينما اطلعت على مقدار معاناتهم . شرع كل واحد منهم يحكي لي بتعاطف كبير محنته الشخصية ومحنة أسرته الصغيرة. تم
اختطاف هؤلاء التعساء المساكين منذ أشهر وتم إيداعهم بهذا المعسكر، معزولين عن العالم و تحت رحمة جلادين لا يعرفون معنى الشفقة. تركوا وراءهم أسرهم المعوزة وزوجاتهم وأطفالهم المرتبكين والمتروكين لمصيرهم. لكني فوجئت بإصرارهم على إخفاء مهانتهم ومواجهتهم لمأساتهم بإيمان لا يتزعزع. وبما أنهم مسلمون صالحون، فقد احتفظوا بصفاء ذهنهم وكانوا يقضون معظم وقتهم في الصلاة.
بالتأكيد ترك القمع والتعذيب آثارهما على أجسادهم دون أن يهتز مع ذلك عزمهم وشجاعتهم. لم يروا فيما حدث لهم سوى إعمال لإرادة الله الذي كان يريد اختبارهم. كانوا يعتقدون اعتقادا راسخا أن لا مصيبة أبدية بفضل رحمة الإله. وكانوا يرددون دون توقف السورة القرآنية “الشرح” : “إن مع العسر يسر”.
لم أصدق هول ما كانوا يحكون. أثرت في مصيبتهم بعمق.كنت مضطربا. وفي الآن نفسه، ودون أن أقتسم معهم قناعاتهم الدينية، تشبعت بهذه الروح المقاتلة التي كانت تواصل المقاومة رغم علمها منذ البدء أنها ستخسر المعركة!!!
حدثوني في بعض المرات عن الأشياء الصغيرة للحياة، أشياء بسيطة ودون دلالة، لكنها تتخذ معان جديدة حينما يحكونها بصراحتهم الفائضة وبلغتهم المرافقة بحركات تكاد تكون مسرحية.
مكنني بحثي هذا عن الآخر من كسر عزلتي، من أن أصبح قريبا من الآخرين، أن أقتسم معهم تجاربهم وعذاباتهم وأن أفهمهم بشكل أعمق.
جعلني فكري المتصالح واستعدادي لسماع الآخرين أكسب أصدقاء يسرون لي بأشياء حميمة. شعرت بالتعاطف معهم. انشغلت باحتياجاتهم وبمحاولة تقديم بعض العزاء لهم. أعترف أنني في البداية وجدت سهولة في التفكير في الأمر أكثر مما وجدتها في تنفيذه. وفيما بعد تفطنت إلى أنه بإمكاني أن أفيد العديد منهم، وشعرت بسعادة كبيرة للعون الذي قدمته لهم. ربطتني بهؤلاء المعتقلين، وبشكل متواصل، علاقة إنسانية خاصة أساسها الثقة والحنان والتأثر. تلك كانت طريقتي في مواساة أحزانهم و في إعلان تضامني معهم. أخيرا بدأت أستطيع أن أنام مرتاح الضمير. استمتعت بسكينة داخلية عميقة وبهدوء نادر. كان كل شيء على أهبة التغير بالنسبة إلي.
أحرص اليوم على أن أشيد بهؤلاء الرجال إشادة خاصة، فقد أبانوا عن قدر كبير من السخاء والتضامن، وقدموا دعمهم لرفقائهم كلما التقطوا أقل إشارة للضيق أو الضعف.
اليوم مرة أخرى، علي أن أنوه بالروح العالية لتلك الكائنات التي ظلت محتفظة بإنسانياتها رغم كل الصعوبات. وبفضل التواصل معها، أعترف أنني قمت خلال مقامي بكوربيس بسفر شيق في مناطق بعيدة جدا من المغرب المنسي لم أسمع بها من قبل: من جبال الأطلس الكبير إلى صحاري الشرق والجنوب. وقعت تحت سحر تلك المناظر الرائعة دون أن أكون قد رأيتها وقررت أن أزورها بمجرد إطلاق سراحي.”