الفينيق ميديا

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مدخل لقراءة فلسفة هيغل

 

 مقاسمة قرائية في فصول وفقرات كتاب
” Sagesse D’aujourd‘hui “

فلسفات أو حكم الأمس واليوم للفيلسوف ووزير الثقافة الفرنسي السابق اللامع Luc Ferry ..

 

إعداد وترجمة عبد الكريم وشاشا

 

جاهدة تتوخى هذه المقاسمة المتواضعة التحفيز وإعادة الاعتبار للقراءة بشكل عام وللفلسفة بشكل خاص ..

لا يتعلق الأمر هنا كما جاء في مدخل هذا الكتاب الضخم الوازن بمختصرات أو خلاصات للمذاهب الفلسفية كما هو الأمر في الدلائل والكتب المدرسية المملة المعقدة والمنفرة للقلب والعقل.. والتي هي للأسف غير أمينة بالمرة وكاريكاتورية ..

فإستراتيجية الفيلسوف القارئ في هذا الكتاب تقوم باختيار مجموعة من الأفكار محددة لفيلسوف معين والتي يراها أكثر قوة وعظمة بل هي مؤسسة لفكره وتعتبر بمثابة أعمدة ومفاتيح كمداخل لفهم فلسفته.. بعيدا عن كل اختزال أو ابتسار ..

 

أول هؤلاء الخالدين هو الفيلسوف الألماني العظيم هيغل، الغزير والواسع المدى ..

تعتبر قراءة فلسفة هيغل وأيضا فلسفة إيمانويل كانط من أصعب القراءات وأشقها على النفس في تاريخ الفلسفة، نظرا للتجريد والتعقيد اللذين يكتنفهما ..

سنحاول في هذا المقطع أن نحيط بفكرة واضحة وعميقة عن الهيغلية، والتي ستمكننا من بعد – طبعا إذا تملكنا الشغف – أن نتوغل بكل سهولة في فلسفته ..

هيغل

ازداد هيغل واسمه الكامل
جورج فيلهلم فريدريش هيغل
Georg Wilhelm Friedrich
Hegel

سنة 1770، وهي نفس سنة ميلاد بيتهوفن، وتوفي عام 1831 بداء الكوليرا..وكان معاصرا لإيمانويل كانط ..فعندما كان هيغل يبلغ من العمر عشرون سنة، كان إيمانويل كانط قد أصدر عمله الثالث الرئيس ” نقد ملكة الحكم ”
La Critique de la faculté de juger ”

 

في بداية مساره كان هيغل مهتما باللاهوت ” الثيولوجيا “، كان شابا مفتونا بالدراسات اليهودية والمسيحية أكثر من الفلسفة، وكان السؤال الأكثر انشغالا به هو: ما هي الديانة المناسبة لشعب حر؟ ..

 

كان يريد من خلال هذا السؤال تخليص المسيحية من كل العناصر اللاعقلانية والتزمت والبراهين المتسلطة التي تعيق “حرية الروح ” ومن خلال استعماله للحق الطبيعي الذي هو الحق المثالي توصل إلى أن الدين الطبيعي أو العقلاني هو المناسب لشعب حر. .

 

كان هذا هو البرنامج الفكري لهيجل الشاب: العمل على تنقية المسيحية من كل الشوائب الممتزجة المتمثلة في الدوغمائية ومن الطقوس الغير المجدية ومن الواجبات والالتزامات الزائدة..بهذا البرنامج الفكري كان هيجل ضمنيا منخرطا في حركة التنوير وعلى سكة العمل الكبير الذي ألفه كانط “الدين في حدود العقل وحده ” ..

 

بعدها .. وابتداء من 1807، وهي السنة التي أصدر فيها كتابه الأول الكبير والناضج ” فينومينولوجيا الروح ” امتلك جهازه الفكري نهائيا وأصبح بذلك فيلسوفا.. لكنه لن يتخلى قط عن انشغالاته اللاهوتية، لكن الدين عنده من الآن فصاعدا هو مرحلة عبور للفلسفة التي هي مرحلة أعلى وتتويج للفكر..

 

ولفهم هيجل ولتنشيط كامل لبنائه الفكري يجب عرض سؤالين مركزيين اللذين وضعهما هو بنفسه..

السؤال الأول هو : سؤال فيلسوف آخر هو لايبنتز Leibniz وهو سؤال في نظرية ( théodicée ) :

إذا كان الله موجودا .. فمن أين أتى إذن الشر ؟

هيغل نفسه لن يكف عن ترديد أنه لم يقم بأي شيء غير استئناف وإتقان فلسفة لايبنتز..

يجب إذن أن نأخذ بعين الاعتبار هذا الاعتراف بجدية والاحتفاظ به في عقلنا كخيط رابط وموصل..

بالفعل، فلقد قام هيجل بتطوير وإضاءة وتقييم فلسفة لايبنتز وسنرى بعدها كيف أن فلسفته يمكن قراءتها كنظام فسلفي غزير وشاسع وموهوب ومتقن لفلسفة لايبنتز

 

السؤال الثاني يتعلق بالشك ..بما أن الحقيقة واحدة، بماذا نفسر إذن تعدد الفلسفات ؟

أليس هذا التعدد ضد الفلسفة.. فإذا كان الفلاسفة لا يكفون عن اعتراض بعضهم البعض، وإذا كانوا غير متفقين أبدا على أي شيء.. وأن نظرياتهم متباينة ومتناقضة، أليس هذا دليل قاطع على أن الفلسفة نفسها غير قادرة على أن تؤدي بنا إلى الحقيقة..

الكثير من الفلاسفة والعديد من الفلسفات.. ولا حقيقة واحدة..

 

لنشرع في الدخول إلى فلسفة هيجل ببسط السؤال الأول: سؤال الشر. هيغل على خطى لايبنتز
في البداية نقدم تعريفا لدلالة عنوان كتاب لايبنتز théodicée : هي كلمة صاغها من كلمتين إغريقيتين، كلمة théos التي تعني ” الله ” وكلمة diké والتي تعني العدالة ..

 

ففي كتابه الرئيس هذا تناول فيه البرهنة على أن الله عادل بالرغم ما نلاقيه من الأذى في حياتنا .. وبأنه بريء من كل الشرور الموجودة في العالم..وسنرى بعد قليل، كيف أن هيغل استعار هذا التحليل وطوره لصالحه وبمقدرة عالية أعطاه قالبا ومنهجا كلاسيكيا متداولا في الأوساط الفكرية والفلسفية، سنجده مثلا سنة 1749 في الرسالة الشهيرة حول العميان عند دينيس ديدرو- Denis Diderot الفيلسوف والكاتب الموسوعي الفرنسي، وهي الرسالة التي كلفت كاتبها شهورا من السجن. وفيها يتساءل لماذا الشر موجود ما دام ” الله ” رحيم وفي نفس الوقت قادر على كل شيء..

 

كيف نفهم الشر و”الله” عادل، كما تزعم المسيحية… وهنا لا يتعلق بتاتا بالشر الخلقي الذي يمكن تفسيره بحرية الكائن الإنساني..

ففي التراث المسيحي سنجد طبعا الجواب بكل يسر: بما أن الإنسان حر هذا يعني أن له إمكانية الاختيار بين الخير والشر وهذا ما يسمى عادة بالقدرة على التمييز.

 

لكن ما تطرحه théodicée هو عندما يضرب الشر بقوة فظيعة كائنات بريئة مثل الأطفال الذين يولدون عميانا – لنأخذ مثال ديدرو – بماذا نفسر ذلك إذا كان الله رحيما بعباده، وهؤلاء الأطفال قد ولدوا عميانا وهم لم يرتكبوا أي ذنب بعد يستحقون عليه هذا العقاب ؟ ..

 

بيد أن الشر مثل المطر يسقط على رؤوس الناس الأخيار منهم والأشرار.. بماذا نفسر إذن الشر المطلق الأعمى ؟

يمكن عرض الإشكالية على النحو التالي :

إما أن الله قادر على كل شيء ، وبذلك يسمح بارتكاب هذه الفظائع، لأنه ليس رحيما ولا رؤوفا .. بل إنه إله شرير.. أو أنه إله رحيم لكنه ليس بقادر على كل شيء ..

 

يجب إذن الاختيار بين الفرضيتين .. والفرضيتين غير متوافقتين مع واقع الشر، فهنا نجد إشكالية بين صفة القدرة وصفة الرحمة اللتين ننسبهما لله.

كيف لنا أن نفهم أنه يترك الشر يضرب ظلما وعدوانا – طبعا يمكن لنا أن نردد دائما أن حكمة الله خافية على عباده..

لكن بقي سؤال الشر عالقا.. ولغزا محيرا …

 

هنا جاء تناول لايبنتز ليقدم حلا معتمدا لهذه المعضلة الرهيبة، ويبرهن بأن الشر في الواقع هو :

وهم محض .. وأنه لا يوجد حقيقة.. وبتعبير آخر أن ما نخاله شرا بسذاجتنا ومن جهلنا المرتبط بزاوية نظرنا المحدودة .. والذي يبدو لنا غالبا أنه ملك العالم في كل تفاصيله ..

فهذا الشر المزعوم ما هو إلا خير أعظم عندما نتخلى عن زاويتنا الضيقة ونرى الأشياء في كليتها وجملتها النهائية ..

حجة لايبنتز تطورت انطلاقا من ثلاثة مبادئ أساسية وهي التي ساعدته على إعطاء المتانة والتناسق لفلسفته..

وكل ما نقوله الآن عن لايبنتز، سنجده عند هيغل في أشكال معقدة ومجردة.. وأكثر إتقانا .

 

هذا شبيه بما كتبه هيجل في مقدمة كتاب فينومينولوجيا عن الوجود الجزئي للشر والباطل .. فإذا كان الباطل موجود جزئيا كما الشر الذي هو أيضا موجود جزئيا .. لأن الكل هو الحق .. والنتيجة هي : فما نعتقده شرا هو ينتمي في كليته للخير .. تماما.. ما نخاله باطلا هو جزء مكمل للكل الحق..

 

الحقيقة توجد في العمق.. وهي أجزاء متناثرة من وجهات النظر المتباينة والمتعارضة يتم تجميعها ..

الحقيقة عند هيغل هي إذن مجموع وجهات النظر المتفرقة في التاريخ ..

هذا ما سيسمح لنا الآن الجواب على السؤال الأول: سؤال الخير والشر والعدل الإلهي هو جواب أيضا على السؤال الثاني حول الحقيقة وتعدد الفلسفات وتنوع وجهات النظر المتناقضة.. ففي وحدة هذه المتناقضات تكمن الحقيقة.

 

واضح الآن بأن هيغل اعتمد هذين السؤالين كنقطة انطلاق في فلسفته، ففي مقدمته الملفتة التي وضعها لدروسه حول فلسفة التاريخ تساءل :

كيف لنا أن نعرف من هي الفلسفة الحقة بين هذا الكم الهائل والمتناقض من الفلسفات التي تتصارع فيما بينها منذ العهد الإغريقي ؟ الأبيقوريون يكرهون الرواقيون.. والرواقيون يبادلونهم نفس المشاعر.. هؤلاء يدعون أن العالم متناسق كل ما يوجد فيه متناغم تناغما جذابا.. أما الآخرون فالعكس من ذلك، العالم فوضى من الذرات الاعتباطية التي تجري بلا معنى ولا هدف..الخ..

 

أين هو الصواب وأين هو الخطأ من كل هذا ؟ وكيف نختار وماذا نختار ؟ وكل فلسفة أو فيلسوف يدعي أنه وجد الحقيقة وامتلكها.. وأنه على صواب وأن الآخرين على باطل.. فتعدد الفلسفات وكثرة وجهات النظر المتباينة تنقض فكرة أن الفلسفة قادرة على تؤدي بنا إلى الحقيقة .. فكثرة المذاهب والمدارس تخلص بنا في النهاية إلى الشك.

 

لقد قام هيغل وبمقدرة فكرية هائلة، وبشكل عميق بربط السؤالين معا، سؤال العدالة الإلهية وسؤال الشك، ففي بنية نظام فلسفته يكمن في عمقها وفي شكل حركتها حل لهاتين الإشكاليتين.

 

فقد بين أن ليس هناك شر، وليس هناك باطل لأن الحقيقة مرة أخرى هي مجموع وجهات النظر التي تطورت عبر التاريخ، هي نظام لخلاصة كل الفلسفات السابقة، وهذا هو النظام الذي اكتشفه أخيرا هيجل وشكله بإتقان، وسيكون بذلك قد وضع نهاية لتاريخ الفلسفة ..

إذن فهيجل هو أول من وضع وبشكل واضح ما يسمى “بنهاية التاريخ” وأيضا “نهاية الفلسفة”. فالنظام قد اكتمل بناؤه.. وهو يحتوى على خلاصة لكل الأنظمة الفلسفية السابقة.. وفيه نرى بأن الحق هو الكل.. هذا هو المبدأ الذي وضعه هيجل لحل المسألة.. وهذا ما يفسر لنا لماذا اكتست فلسفته أساسا سمة فلسفة التاريخ.

 

لنعد مرة أخرى للنظام الفلسفي لفلسفة لايبنتز، لنعرف جيدا كيف تم استخدامها كمادة أساسية في تطوير وبلورة فلسفة هيجلية.

المبادئ الأساسية لفلسفة لايبنتز واستعمالاتها عند هيجل

المبدأ الأول ل” تيوديسيا ” لايبنتز .. هو مبدأ أولي لكل عقلانية منطقية : مبدأ الهوية وعدم التناقض .. ويعني، أن الإدراك الإلهي يسع كل الموجودات وكل الممكنات.. والممكنات هي كل التصورات التي في جوهرها غير متناقضة.. مثلا، فالله لا يمكن أن يجد “دائرة مربعة” لأنها تصور يحمل في داخله وفي جوهره تناقض فهو إذن مستحيل إيجاده حتى بالنسبة لقدرة لله.. لكن الله يمكن أن يوجد فيلة وردية أو أحصنة مجنحة.. فهذه المخلوقات بالنسبة للتصور الفلسفي للايبنتز لا توجد واقعيا .. ولكنها تنتمي للممكن وليس للمستحيل.. لأنها تصورات في جوهرها خالية من التناقض..لأن الله وسع وجوده كل الموجودات والممكنات ..

 

أما المبدأ الثاني فهو السببية أو العلية : فالعالم حسب لايبنتز لم يخلق بدون سبب.. وكل شيء له سبب .. ولايبنتز هنا يتميز بحدة عن ديكارت الذي يعتبر أن الله فوق كل عقلانية، فهو الذي خلق كل الحقائق الخالدة: بالنسبة لله الديكارتي 2 + 2 = 5 ممكنة فالقدرة الإلهية تمتلك حرية مطلقة وقادرة على كل شيء عكس لايبنتز الذي تمثل فلسفته مرحلة انتقالية في الميتافيزيقيا الحديثة:

الخضوع الإلهي للعقلانية، ولمبدأ السببية ، فكل ما يحدث له سبب سواء في التاريخ أو في الطبيعة..

فهذا المبدأ هو الذي صاغه هيجل موضوعة وتيمة مجملة لنظامه الفلسفي:

” الواقعي معقول والمعقول واقعي ” وهي طالما ما تم استعمالها بشكل ملتبس ، فهي لا تعني أن كل واقعي هو منصف وكامل ولا توجد به نواقص.. بل هي تعني كما عند لايبنتز: بأن كل موجود له سبب وجوده.. سبب معقول قابل للتفسير بالعقل العلمي والفلسفي ..

 

هنا إذن قطيعة عميقة وثورة حقيقية بالمقارنة مع تمثلات العالم التي هيمنت في القرون الوسطى (روح العالم والقوى الغامضة الخفية، والتي يحاول الخيميائيون السيطرة عليها وتحويل المعادن كالرصاص إلى ذهب )

إن ما قامت به هذه العقلانية الحديثة تخليص العالم والفكر من هذه الأوهام والاعتماد على العقل وحده .. فليس هناك أسرار وقوى غير مرئية في الطبيعة .. فكل حدث يقع في الطبيعة أو التاريخ له سبب وله تفسير ..

 

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Pocket
WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا تفوت أهم المقالات والأحداث المستجدة

آخر المستجدات