حوار مع الشاعر المغربي محمد الميموني
أجرى الحوار عبد المنعم الشنتوف
يعتبر الشاعر محمد الميموني الذي رأى النور بمدينة شفشاون عام 1936 واحدا من أصفى وأعمق الأصوات في تاريخ الأدب المغربي الحديث والمعاصر. بدأت تجربته الشعرية منذ 1958 بنشر قصيدة في مجلة ‘شراع’ التي كان يديرها الشاعر الكبير عبد الكريم الطبال، واستمرت إلى حدود الساعة. أنجز شاعرنا انتقالا جغرافيا وتاريخيا وثقافيا دالا كانت له تبعات قوية على مشروعه الشعري؛ فبعد حفظ غير قليل من القرآن في الكتاب و التعليم الابتدائي في مدرسة مزدوجة (عربية إسبانية) في شفشاون، انتقل إلى تطوان لمواصلة تعليمه الثانوي. بدأ الشاعر حياته المهنية مدرسا في التعليم الابتدائي بمدينة الدار البيضاء عام 1956 وهو التاريخ الذي استقل فيه المغرب، قبل أن يحط الرحال بمدينة الرباط بعد سنوات من ذلك التاريخ وتحديدا عام 1962 لمتابعة دراسته الجامعية في تخصص الأدب العربي.
أصدر الشاعر عددا من الدواوين نذكر من بينها: آخر أعوام العقم ( 1974)، الحلم في زمن الوهم (1992)، طريق النهر (1995)، شجر خفي الظل (1999). أصدرت وزارة الثقافة سلسلة أعماله الشعرية الكاملة عام 2002. وقد ضمت هذه الطبعة دواوين جديدة هي: مقام العشاق (1997-1999)، أمهات الأسماء (1997)، محبرة الأشياء (1998)، ما ألمحه وأنساه (2000)، متاهات التأويل (2001). أصدر الشاعر بعد ذلك ديوانين جديدين هما: صيرورات تسمي ذاتها (2007) عن منشورات وزارة الثقافة وموشحات حزن متفائل (2008) عن منشورات سليكي إخوان. ساهم الشاعر علاوة على تحققاته النصية بقراءات سعى فيها إلى الاقتراب النقدي من بعض النماذج في الشعر المغربي الحديث والمعاصر، ونمثل لذلك، بكتابيه ‘الشعر المغربي المعاصر: عتبات التحديث’ الصادر عن منشورات سلسلة شراع عام، 1998 و’سبع خطوات رائدة: دراسة في الشعر المغربي المعاصر’ الصادر في تطوان عام 1999 كان للشاعر أيضا اهتمام، بالترجمة إذ بادر إلى ترجمة’ديوان التماريت’ لفيديريكو غارسيا لوركا مباشرة من اللغة الإسبانية.
الحوار:
- لا يمكن لهذا الحوار الذي يروم الاقتراب من تجربتك الشعرية بثراء وخصوبة عوالمها أن يضرب صفحا عن سؤال البدايات؛ أقصد تاريخية تشكل الوعي بأهمية إبداع ‘الشعر’. نعرف أنك تشكل علامة فارقة في الشعر المغربي الحديث والمعاصر، وقد أسهمت بطريقتك الخاصة في السؤال الخاص بـ ‘تحديثه’ على صعيد الإبداع الشعري والدرس النقدي والترجمة. هل يمكنك أن تسلط الضوء أكثر على هاته البدايات؟
– أكاد لا أتبين لحظة من زمان وعيي لم أكن فيها شاعرا بالقوة أو بالفعل .ما يلح على ذاكرتي الشعرية أكثر من غيره، حصل في طفولتي المبكرة، لا تفارق مخيلتي صورة سيدة وقورة ذات نفوذ معنوي ساطع في وسط أبنائها الرجال والنساء وأحفادها، ومنهم والدي، وأسباطها، وأنا أحدهم .امرأة مسنة لكنها لامعة الذهن، حاضرة البديهة، سيدة نفسها، على قدر من التعلم، وهو ما لم يكن معتادا في نساء عصرها، كان والدها فقيها، حرص على تعليمها الكتابة والقراءة في المنزل وتلقينها ما يكفي أنثى ذلك الزمن من مبادئ الفقه والنحو، فكانت امرأة استثنائية بكل المعاني، كلامها مختلف عن كلام نساء محيطها، تنطق بالأمثال والحكم وآيات القرآن، والأذكار والأزجال الصوفية، فيصغي لها الكل منبهرا.. أهَّـلها تميزُها أن يختارها نساء زاوية صوفية ‘درقاوية’ نسوية، مقدمة عليهن. لم يكن وعيي قد تهيأ لفهم كلامها وفك رموزه، ولكنه كان يستقر كامنا في جهة ما من كياني والدتي كانت في عمر أحفادها، فاستسلمت لجاذبيتها راضية معجبة، وهي التي حُرمت من أي فرصة للتعلم، شأن كل نساء جيلها، تستحثها للكلام وتفتح كل منافذ وعيها لاستيعاب المزيد من أقوالها وأذكارها، ولا تكاد تفارقها حين تحضر وتشتاق لها حين تختار الخلود إلى وحدتها يوما أو يومين في منزلها على خطوتين من دارنا، كانت معلمتها بأتم المعنى ومَـثلُها الأعلى في الفعل والقول.’للا الكبيرة’هو الاسم الذي كانت تعرف به بين كل أبنائها وأحفادها، بل وبين كل من يخاطبها .كانت ‘للا الكبيرة’ تحفظ قصيدتي البُصيري : الميمية /البردة والهمزية الشهيرتين وتتغنى ببعض مقاطعهما في خلوتها، على إيقاع النوبات الموسيقية الأندلسية .لحظة احتضارها ما تزال منحوتة في ذاكرتي، لم أكن قد جاوزت الخامسة أو السادسة، وكان أول موت أراه عن قرب،كانت ملامح وجهها، وهي تسلم الروح مسترخية هادئة، فهان الموت في وعيي منذ تلك اللحظة .وما أن غابت حتى انبعثت في شخص والدتي، تردد أقوالها وأزجالها وتستحضر أمثالها وتلميحاتها في السراء والضراء .وبترديد والدتي لأقوال المرحومة وأزجالها وأنغامها ـ وأنا أتهيأ للخروج من غفوة الطفولة إلى بشائر يقظة الشباب ـ بدأتُ أشعر بما كمنَ في وجداني مما كنت أسمعه ولا أعيه، يتخلق من جديد .أدركت أن كلام الناس ليس نسيجا واحدا، فهناك كلام أفقي سطحي في الغالب، وقد يهوي إلى حضيض اللغو. وهناك كلام عمودي ذو أبعاد متعددة ولكنه نادر . بدأ يتبين لي وأنا اجتاز مرحلة المراهقة، أن كلام المرحومة كان من النوع النادر لم أكن في مستوى الوعي بأبعاده حين كنت اسمعه مباشرة من فم قائلته المتميزة .والآن وقد انبعثت ذكراه على لسان والدتي فقد اهتممت به واشتقتإلى المزيد منه. حرصت على الحضور في جلسات الذكر وترتيل قصيدتي البردة والهمزية حيث ما أتيح، وواظبت على ذلك حتى رسخت في وجداني أنغام تلك الأزجال والقصائد وبدأت أميز بين إيقاعاتها العروضية قبل أعرف أن هناك قواعد تسمى ‘علم العروض’.كانت تلك أولى علاقاتي بالشعر قبل أن أجرؤ على مغامرة كتابة أولى محاولاتي..
- تجربتك تنتمي إلى تاريخ ‘الأدب المغربي’ لكنها تنتمي أيضا إلى فضائها الخاص وأقصد به شمال المغرب على وجه التخصيص. أشدد على هذه التفصيلة لأهميتها الخاصة في الاقتراب النقدي من عوالمك الشعرية؛ إذ لا يخفى في هذا الصدد السمات الدالة التي تؤشر على الخصوصية الثقافية لشمال المغرب. نعرف أنك تابعت دراستك الابتدائية والثانوية بشفشاون وتطوان، ثم اشتغلت لفترة من الزمن بالتعليم الابتدائي في مدينة الدار البيضاء قبل أن تقرر متابعة دراستك الجامعية العليا في الرباط . زاولت بعدها مهنة التدريس في مدينة طنجة قبل أن تصبح مديرا لإحدى الثانويات في تطوان الجارة التاريخية الحميمة لمسقط راسك شفشاون. ونحن نعرف أن تجربتك الإبداعية، بتحققاتها النصية المتميزة قد تخلقت في هاتين المدينتين المتشبعتين بالإرث الأندلسي العربي والإسباني؟ هل يمكنك أن تحدثنا أكثر عن هذه الخصوصية؟
– في أوائل العقد الخامس من القرن الماضي انتقلت إلى مدينة تطوان لمتابعة دراستي الثانوية،فقد كان الاستعمار الإسباني البئيس يبخل على مدينة شفشاون بمدرسة ثانوية، ولم ‘يتكرم ‘على المدينة الحافلة بالشباب الذكي الطموح إلا بمدرسة ابتدائية يتيمة .فكان على من أكمل دراسته الابتدائية أن يدبر أمره وينتقل إلى تطوان إذا شطح به طموحه لإكمال دراسته .ولم يكن ذلك في مستطاع اغلب تلاميذ شفشاون الذين أفقر آباءَهم جشعُ الاستعمار وأذنابه .وما أن حللت بتطوان حتى وجدت نفسي في وسط يعج بالجرائد والمجلات والكُـتاب المتنافسين. في تلك الفترة كانت تصدر في تطوان ما لا يقل عن عشر مجلات وجرائد أو يزيد،منها على سبيل المثال: ‘الأنيس’ و’المعرفة’ و’الأنوار’ و ’المعتمد’ و ’كتامة’. اختصت مجلة ‘ المعتمد’ بالشعر، وصدر العدد الأول منها في مارس سنة 1947.وهي سابقة متفردة رائدة في إيلائها للشعر عناية فائقة وتخصصها له دون غيره من فنون الكتابة إلا ما كان من بعض الدراسات القليلة في الشعر الإسباني.والأهم في تفرد هذه المجلة هو حرصها على نشر النصوص الشعرية العربية والإسبانية مترجمة من عربية إلى إسبانية وبالعكس .ولا يخفى ما كان لهذه المبادرة من دور في تحاور الشعرين وتعارفهما .ولم يكن مثقفو وكتاب المدينة وحدهم يكتبون في تلك الصحف الأدبية والسياسية، بل كانت تنشر كتابات رصينة لأدباء وسياسيين، وقصائد ناضجة لشعراء من جميع أنحاء المغرب ومن بعض الأقطار العربية ومن أدباء المهجر الأمريكي أيضا وجدت ضالتي فتابعت ما يُـكتب في تلك الصحف بشغف واهتمام بالغ،وحاولت الاقتراب ممن استطعت ولازمني حلم ملحاح بالمشاركة في هذا المحفل من الكتاب في يوم من الأيام.لم يتحقق الحلم حينئذ فلم أكن قد استكملت اكتساب الأدوات الكافية للمشاركة.ولكن حلم الكتابة ظل يراودني ولا أهتدي إلى باب الدخول إلى عالمه.. لم يكن رأس الخيط قد تبين لي، فكنت أروي ظمأ الخيبة بالقراءة ومحاولة فك أسرار البداية.
- لمست من خلال مصاحبتي لتجربتك وجود تحول معرفي وجمالي داخل تجربتك الشعرية. كان في البداية ذلك التشبع بالرؤية الإيديولوجية؛ وهو ما تمثل تخصيصا في إصدارك الشعري الأول وما تلته من نصوص ظهرت تباعا في العديد من المنابر من قبيل ‘المحرر’، ‘أقلام’ و ‘الثقافة الجديدة’. غير أنك لم تلبث أن عدت بقوة، لتتوحد بالذات وإشراقاتها وتحولاتها في علاقاتها بالفضاء والتاريخ؛ وهو ما نلمسه في أعمالك الشعرية التي صدرت تباعا. كيف تفسر هذا التحول؟
– حل الاستقلال بعد سنوات قليلة من وجودي في تطوان، وحل معه واقع جديد غيَّر خريطة المغرب سياسيا واجتماعيا واقتصاديا .كفـَّت تطوان عن أن تكون عاصمة إقليم شبه منفصل عن باقي التراب المغربي، وانسحبت إلى الهامش هي وأخواتها من مدن الشمال المغربي:طنجة وشفشاون والعرائش… …واستقطب المركز ُ ـ الرباط والدار البيضاء ـ كلَّ الفعاليات والأنشطة السياسية والاقـتصادية والثقافية.. وكان للصدفة دور حاسم في انتقالي إلى الدار البيضاء واستقراري بها أكثر من سنتين، وهي في أوج حَميتها السياسية والنقابية والثقافية .حضرت وساهمت في نشوء بعض الجمعيات والنقابات وانخرطت بحماس في الحركة التقدمية المعارضة في أواخر العقد الخامس وأوائل السادس من القرن الماضي.
وفي هذا الجو المحموم بالحماس والصراع كتبت أولى قصائدي التي عرفت طرقها إلى النشر في الجرائد الوطنية .كنت وأنا أكتب تلك القصائد تحت تأثير المناخ الثوري الذي كان يسود المغرب والعالم العربي بدفع من الثورة الناصرية .وكانت الحركة التجديدية الشعرية مزدهرة في الشرق العربي، وخاصة في لبنان والعراق ومصر، والمجلات والصحف التي تحتضن الشعر الجديد تصل إلى الدار البيضاء ودفء المطابع لا يزال عالقا بصفحاتها، ومثلها دواوين شعراء الحداثة التي تصدر في لبنان وتصل فورا إلى الدار البيضاء حيث تباع بأثمان لا تنهك جيوب المثقـفين الذين كان أغلبهم من رجال ونساء التعليم الابتدائي.وكنت من بين هؤلاء، أنتظر وصول مجلة ‘الآداب’ اللبنانية وغيرها، وما تصدره دور النشر اللبنانية من دواوين تراثية وحديثة، فأتلقفها بشوق وأقرأها بلذة وحماس .بتأثير كل هذه العوامل الجديدة علي، استولى على وعيي نموذج القصيدة الخطابية الملتزمة بالهم الجماعي السائد، وتراجعت إلى خلفية اهتماماتي أيام تطوان الفاتنة، وما ترسخ في وجداني من زمان طفولتي الحالمة، فكتبت قصائد تكاد توازي الحراك اليومي للفعل السياسي والاجتماعي في المغرب خاصة، والعالم العربي عامة.
في ذلك السياق كتبت قصائد ديواني الأول ‘آخر أعوام العقم’ المبشر بثورة قادمة لم تصل قط، ! ثم ديواني الثاني ‘الحلم في زمن الوهم’ الذي يشف عن إرهاصات الخيبة القادمة التي وصلتْ بالفعل !كان للصدفة أيضا الدور الحاسم في عودتي إلى الشمال منتصف العقد السادس من القرن الماضي. وكأنني استرجعت ذاتي وجددت الوعي بما ترسب فيها من عناصر النشأة وما كسبته من زمن تطوان الغابر .عدت إلى اللغة الاسبانية التي لم يكن لها حضور في المجال الثقافي في المغرب آنذاك، وكانت غربتها خير أنيس لي في غربتي وخيبتي من الواقع الرمادي اليائس. كان زمن الخيبة قد ظهر وطغى .فالتجأت إلى ذاتي أتصفح ما ترسب في أعماقها، ونفضت الغبار عن أعداد من مجلة ‘المعتمد’الشعرية المزدوجة اللغة :إسبانية وعربية، التي كانت تصدر في تطوان أيام إقامتي بها، وجددت العهد بتلك القصائد التي كنت قد قرأتها قبل أن يكتمل نضجي المعرفي،فكشفتْ لي عن وجهها الذي خفي علي من قبل ..
وانطلقتُ إلى قراءة الشعر الإسباني في نصوصه الأصلية، بادئا بـ’خوان رمون خيمينيس ‘ثم لوركا الذي فـتنت به زمنا، وزرت مدينة غرناطة عشرات المرات تقفيت فيها آثار خطواته في حي البيازين، وزرت بيت مسقط رأسه في قرية ‘فوينتي باكيروس ‘ على بعد 14 كيلومترات من غرناطة ووقفت خاشعا متكئا على المكتب الذي خط عليه أروع قصائده ومسرحياته في البيت الذي استقرت فيه عائلته حين انتقلت إلى غرناطة . قادني شعر لوركا إلى التعرف على شعر جيله الذي يُعرف بجيل 27 .وفي كل زيارة لغرناطة، كنت أقضي الساعات الطوال متجولا على مكتباتها الحافلة،مقـتنيا ما يلفت اهتمامي من كتب ودواوين لشعراء إسبان وأمريكولاتيين، واستوقفني ‘بورخيس’ الأرجنتيني المدهش فحرصت على جديده في كل زيارة لغرناطة. في هذه الجولات المتعددة الأبعاد في الشعر الإسباني والأمريكولاتيني، اكتشفت عالما شعريا جديدا ومغايرا لما ألفت، واكتشفت فيه الوجه الآخر لكينونتي. وأعتقد أن اثر ذلك لا تخطئه عين القارئ المتتبع الواعي بالتحولات التي عرفتها تجربتي الشعرية من ثمانينيات القرن الماضي إلى الآن .
- أنت بالإضافة إلى كونك شاعرا دارس وناقد للمنجز الشعري المغربي على وجه التخصيص، وقد أصدرت، كتابك النقدي الأول الموسوم، ‘في الشعر المغربي المعاصر: عتبات التجديد’ عن سلسلة شراع عام 1998 ثم كتابك الثاني ‘في الشعر المغربي الحديث: سبع خطوات رائدة’ عام 1998 عن منشورات جمعية تطوان أسمير.، كيف جاءت قراءتك ‘النقدية’ لهذا المنجز؟، هل يتعلق الأمر بقراءة فاحصة لتاريخيته وأهم تحولاته المعرفية والجمالية؟
– ما أنجزته من قراءات في الشعر المغربي ـ وهي ليست كثيرة على أي حال ــ لم اسعَ من خلالها إلى احتراف النقد الأكاديمي بمناهجه المتجهمة الصارمة، وإنما هي قراءات عاشقة، توخيت منها الاندماج الحميمي بتجربة جيل الشعراء قبلي، الجيل الذي خاض مغامرة الكتابة الشعرية في زمن قاحل تراجع فيه الشعر وضمر حتى كاد يختفي لولا مبادرة ثلة من الشباب المشبوب بالحماس الوطني والمسكون بحب اللغة العربية وآدابها، التي تعمد الاستعمار الفرنسي خاصة إهمالها وتبخيسها بقصد قتلها .وفي خضم النضال الوطني الشعبي لاسترجاع الهوية والتخلص من سيطرة الأجنبي على الوطن أرضا وإنسانا، ساهم الكتاب،ومنهم الشعراء، بنصيب وافر ومؤثر في عودة الحياة إلى اللغة العربية وإبرازها في أجمل حللها، فاجتهدوا في إبداع شعر يستمد أصوله من الشعر العربي في الأندلس والمشرق العربي الذي كان يعرف حينئذ أوج ازدهار القصيدة الكلاسيكية الجديدة علي يد شوقي وحافظ وجيلهما . قرأت بعض شعراء المغرب في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وحاولت تلمس خطوات تحديث الشعر المغربي وهي تتبلور وتتوالى من سلف إلى خلف في نطاق أجيال متقاربة زمنيا، من علال الفاسي، وعبد الكريم بن ثابت وعبد المجيد بن جلون … إلى عبد القادر المقدم ومحمد السرغيني وعبد الكريم الطبال .واستنتجت من خلال تلك القراءات، إرهاصات الانتقال إلى القصيدة التفعيلية الجديدة في أواسط العقد الخامس الذي صادف حصول المغرب على استقلاله، وحاولت تلمس الخيط الواصل بين هذا الجيل وحركة التحديث الشعري في بداية الستينيات، هذه الحركة التي كان منبين مؤسسيها شباب شعراء الجيل السابق، كعبد الكريم الطبال ومحمد السرغيني وغيرهما، فكانوا بمثابة حلقة وصل بين الجيلين .
- تتابع عن كثب وبعناية التراكم الكمي والكيفي الذي تشهده القصيدة المغربية على وجه التخصيص. ما هو تقييمك النقدي باعتبارك قارئا لهذا التراكم؟ وهل تعتقد أن ‘قصيدة النثر’ قد تمكنت رغم الجدل النقدي الذي ما يفتأ محتدما في خصوصها من تجذير حضورها في خارطة الأدب المغربي؟
– انبثقت القصيدة النثرية في العالم العربي وفيه المغرب من رحم قصيدة التفعيلة، ولكنها لم تتجاوزها كما أعتقد .ما زال لقصيدة التفعيلة حضور لافت ومكتمل في تجارب كثيرة .وربما كان لحضور قصيدة النثر غَـلبة كمية .وأرى أن حضورها الشعري ليس بالقوة التي لحضورها الكمي .وهذا الخفوت الشعري لقصيدة النثر لا يشمل كل ما ينشر منها ولا يعم كل الأسماء التي تكتبها، فهناك تجارب لافتة أثبتت قيمتها الشعرية ورسخت مكانتها في الخريطة الشعرية المغربية .وليس من عادتي أن أعين الأسماء في حوار كهذا، لما في ذلك من منزلقات ذاتية قد تقود إلى إهمال غير مقصود،أو تنويه غير محمود، مما يثير حساسيات لم أتعود على إثارتها . الإيقاع في نظري عنصر جمالي من صميم جوهر القصيدة، وليس حلـْية خارجية تتزين بها .لكن شعرية القصيدة لا تتحقق بمجرد الوزن أو الإيقاع .القصيدة إما أن تكون شعرا أو لا تكون، وغياب الإيقاع العروضي عنها لا ينال من شعريتها إن توفرت لها عناصر الشعر من خيال خلاق وصور مبتدعة ولغة موحية، وعمق إنساني وثراء معرفي .تستند قصيدة التفعيلة على عمق موسيقي ضارب في أعماق الوجدان العربي، تتقبله الأذن العربية بيسر ويستوعبه الذوق بلذة وطرب .والتفعيلة العروضية تسعف الشاعر بكلمات وصيغ تتوالد من طبيعة اللغة العربية .وإذا كان هذا العنصر يزود شاعر التفعيلة بمرونة وسيولة لغوية شعرية، فإن شاعر قصيدة النثر أعزل من هذه الشحنة التعبيرية والجمالية .فعليه، إذن، أن يعوضها بإيقاع داخلي مبتدع وثراء لغوي خصب وعمق معرفي جاذب .من هنا تأتي صعوبة كتابة قصيدة النثر، وندرة الجيد منها .غير أن بعض كتاب قصيدة النثر يستسهلونها ويطلقون الكلام جزافا .
- أنجزت ترجمة متميزة من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية لديوان شاعر غرناطة القتيل فيديريكو غارسيا لوركا: ‘ضيعة تماريت’. وما أثارني في هذه الترجمة تلكم الدراسة الوافية التي شفت عن دراية قوية بالكون الإبداعي لهذا الشاعر. كيف جاء تفكيرك في هذه الترجمة؟ وهل استضافة لوركا عبر وساطة الترجمة متعالق بالتأثير الكبير الذي مارسه على المنجز الشعري في شمال المغرب؟ هل كانت هذه الترجمة، موصولة بطبيعة الرؤية التي تحكمت في الديوان والتي تمثلت في هذا الحنين إلى الجذور العربية للأندلس الإسبانية؟
– قلت فيما سبق أنني فتنت بلوركا زمنا وأضيف هنا أنني في خضم اهتمامي بهذا الشاعر، بذلت ما استطعت من جهد للحصول على كل ما يحمل قليلا أو كثيرا من مراحل حياته الشعرية والإنسانية .ومما اطلعت عليه ما أشار إليه المشتشرق الإسباني إيميليو غارسيا غوميث في كتابيه ‘الشعر العربي الأندلسي ‘ Poemas arabigo_adaluces و’كرسي العربي’ Silla del Moro .فقد حكى في كل من الكتابين عن جلسات وحوارات كان يجريها مع لوركا في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضي،في بيته بغرناطة، تبادلا فيها الحديث عن قصائد غزلية ترجمها الشاعر الألماني ‘غوته ‘من الشعر الشرقي. وقصائد عربية إسلامية ترجمها ‘غاسبار ماريا دي نابا’Gaspar Maria de Nava انفعل لوركا بما اطلع عليه من الشعر العربي الأندلسي والمشرقي العربي ــ الفارسي، وسعى إلى المزيد من التعرف عليه، وفتن به .يدل على هذا الافتتان ما قاله في محاضرات عن الشعر معلقا على ما قرأه من قصائد أندلسية عربية لابن الزيات، وسراج الوراق، وأخرى شرقية عربية وفارسية لحافظ الشيراذي والخيام، مما ترجمه ( غاسبار ماريا)، علق لوركا على ما اطلع عليه بما معناه:
حين يبلغ شعرنا الغنائي الشعبي (Coplas) أوج الألم والحب يتآخى في التعبير مع الشعر العربي والفارسي.ومما يحكيه (إيميليو غارسيا غوميث) أن لوركا أخبره أنه بصدد كتابة قصيدة طويلة عن الماء يستلهم فيها ما قرأه من شعر عربي أندلسي وفارسي وموريسكي .وطلب منه أن يكتب مقدمة هذا العمل حين ينتهي من إنتاجه.فلم يـُكتب للوركا أن يرى عمله هذا مطبوعا .فقد اغتاله جهلة الاجتياح الهمجي الفرنكاوي لغرناطة سنة 1936 .ولم يصدر العمل الذي حمل عنوان: ‘ديوان التماريت’ Divên del Tamarit إلا بعد وفاته، وكان غارسيا غوميث قد كتب مقدمة لمخطوطته لم تنشر مع الديوان، ونشرها غوميث مستقلة، وفاء لما وعد به صديقه الشاعر المغتال. شوقتني هذه المعطيات المحيطة بديوان التماريت فسعيت إلى الحصول عليه وقرأته مرات مستعينا بما كتب عنه وظروف كتابته وطبعه، وفتحت لي هذه القراءات أبوابا ونوافذ أسعفتني في حل بعض رموزه واستعاراته التي تستمد من الغناء الغجري والغزل العربي والفارسي، والحس التراثي العربي ــ الأندلسي .ورغبة في التوحد به والإمعان في أسراره وخلفياته، قررت ترجمته متعة لا حرفـة.
- أود أن أسألك عن طقوسك الخاصة في كتابة القصيدة. غالبا ما نغض الطرف عن هذا السؤال الرئيس رغم أهميته في تسليط الضوء على بعض المناطق المعتمة في علاقة الذات الشاعرة بتحققاتها النصية. كيف تتخلق في داخلك القصيدة وكيف تنقلها إلى الكتابة؟ هل تتدخل باعتبارك ذاتا في سيرورة تشكل القصيدة من خلال التنقيح وإعادة الصوغ؟
– أرى أن على الشاعر الذي يحترم شاعريته ويصونها من الإسفاف والعبث، ألا يرتجل القول ويسَرع لسانه بالقصيدة ليعجل بها ويجهضها قبل أن تتكامل عناصرها وتنصهر في سبيكة منسجمة في مكان ما في وجدانه يقع بين الشعور واللاشعور هذا ما تعودته وتعلمته من دراستي لممارسات بعض كبار المبدعين . لا أقتحم عالم القصيدة بارتجال، فلحظة كتابة القصيدة لدي هي لحظة مخاض بعد فترة تخصُّب وانصهار عناصرها في الوجدان .تتخلق هذه العناصر من قراءة ملهمة توقظ الخيال وتحفز الذاكرة، و تجارب حياتية مؤثرة تصل إلى جوهر الكيان وترجُّه، وتتفاعل على مهل وهي تنـكتب بالقوة قبل أن تتجسم بالفعل في شكل كلمات. تعودت أن أصغي إلى دواخلي حين تلح علي الحاجة إلى الكتابة فأحس أن القصيدة قد وُلدت بالقوة .وهي تخاطبني من عالم بين الحلم واليقظة .حينئذ أدرك أن لحظة الكتابة قد حانت، فأحتاج إلى الخلوة والسكينة .وفي خاطرة غير متوقعة ترد على ذهني عبارة أو فقرة أو فقرات .ترد دائما في صيغة إيقاع تفعيلي لا أختاره أو أتعمده، ولكن الفقرة الواردة وبنيتها اللفظية هي التي تختار الإيقاع فأسايرها حتى تتوقف هذه الدفقـة الأولى بعد فقرة أو بيت أو فقرات ..فأنصرف عنها يوما أو أكثر، وفي الخاطر شيء منها .وحين أعود إليها أجد الحوار معها أكثر سلاسة وانسيابا وتوالدا،فأواصل مراودتها بنفس أطول، وأتوقف لتعب أو لانسداد مدد يوما أو أياما .وهي في الخاطر لا تزال.وحين أعود لمراودتها، غالبا ما تكون أكثر طواعية وألفة .ليس للقصيدة نهاية لكن نفس الشاعر هو ما ينتهي عند حد يقرر مغادرتها شاعرا بوضوح أنها لم تكتمل، مؤجلا إكمالها في قصيدة قادمة.
أما الرضا التام عما أنجز منها فهو علامة على خلل في الوعي بطبيعة الشعر . وهذا الإحساس بلانهاية القصيدة هو ما يحفز الشاعر على انجاز قصيدة أخرى لعلة يستدرك ما فاته من التي غادرها وفي خاطره كثير مما كان يود التعبير عنه فلم يسعفه نفَسه أولم تطاوعه القصيدة.حين أنهي علاقتي الكتابية مع القصيدة، أتناساها زمنا، حتى أعود إليها بالاستدراك والتشذيب، وكثيرا ما أقف على هفوات تسربت بفعل البديهة والتدفق،لا تدركها العين إلا بقراءة محايدة باردة.