الفراشات الحديدية
إلى لحسن تاغية وعبد الله أوبنعقى
عبد الكريم وشاشا
1
جفلت الطيور من فوق أشجار غابة ” تايدة ”
اهتزت الأرض، ومالت رحبة ” الكتان ” العليا حتى بلغت أطرافها المجزرة ثم عادت إلى مكانها كرقاص
فانحلت القيطان وسقطت الأعمدة والأقمشة والأثواب..
هتف الناس وصرخوا…
وكعادتها أطلقت مسعودة الجميلة الساحرة السوداء بائعة الخبز بلسانها الشهواني زغرودة ريانة ..
أما عبد القادر الكسال اكتفى برفع يديه عاليا نحو الشمس بحركة بذيئة..
زحف الهدير وغمر أزيلال ..
إنه الهدير الذي كان ينتظره جلول ساعات في دكانه جامدا فوق كرسيه..
ربما يحلم بجميعة وبلدته فم الجمعة وبأنه فجأة أصبح ثريا يحيط به العبيد.. لقد أصبح أكبر من الحاج عاشور … وبدأ يتخيل الطرق التي سينتقم بها من غريميه اللدودين فاندي وبرحال .. أما فريتيص بائع الاسفنج سيضعه عاريا في مقلاته.
ثم تحول أشيش زيت المقلاة شيئا فشيئا إلى أزيز تناهى إلى مسامعه يصك الآذان قفز بخفة من فوق “الكونتوار”..
بدأت الدكاكين والمحلات تقفل في وقت واحد وبسرعة وإثقان ..
صكة جماعية للمصاريع..
جلبة المزاليج …
والعوارض…
والدرفات..
فجأة أصبح السوق كله مهجورا..
وبدأ الزحف الجماعي نحو ” الروبلة ” مهبط تلك الحشرات الحديدية العملاقة التي هجمت على حين غرة على أزيلال في شهر مارس من سنة 1973..
قال الحاج حمو ،و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد..
إنها إحدى علامات الساعة يجب الإكثار من الاستغفار والقيام ليلا..
قال عبو العساس إن المخزن كالعافية. يده طويلة.. ولا أحد أكبر وأقوى من المخزن..
تحلق الناس طويلا وبدهشة كبيرة حول تلك الفراشات الحديدية وبدأت التخمينات..
من بينها :
قال أستوديو الجماهير : إنها عربات تطير في السماء صنعها النصارى..ويوجد بداخلها من يقودها..
لكن محماد الساعاتي قاطعه بحدة:
افتيكن أيا .أي كذب وبهتان..
إنها فراشات حقيقية.. إن الله قادر على صنع وخلق كل شيء..
……….
بعد وقت طويل تحركت تلك الطيور وأطلقت غبارا كثيفا وريحا صرصرا عاتيا أعمى العيون
هرب الناس وتعثروا..
هرجوا ومرجوا..
ارتفع التكبير والتهليل وقراءة اللطيف وآيات الكرسي..
بعدها عادت أزيلال إلى نومها العميق..
تتابعت حفلات عيد العرش وعيد الشباب وامتلأت تقات بالبنات والشيخات..
وتدفقت أنهار من ماء الحياة..
وبدأ النشاط
2
هو نزال فيه الكثير من القسوة، ذاك الذي دار بين السارد والمؤلف حول “الفراشات الحديدية”.
في البداية، كانت عن:
– هل هي مروية تاريخية ؟
– أم هي قصة قصيرة ؟
– أو محاولة غير موفقة لترميم ذاكرة مطمورة تحت الغبار والرماد.
– وأين يبدأ الخيال والفانتازيا والمحاكاة الساخرة (الباروديا)،
– وأين تنتهي الوقائع الملتهبة الساخنة المندلقة على الأرض …
اشتد النزال وتحول إلى معركة حقيقية فيما يخص مسألة الشخصيات واستعمالاتها.
هنا تبادلت اتهامات خطيرة وصلت إلى التعريض؛
ودخلت فعلا بعض الشخصيات التي وردت في النص على خط المعركة بزعامة عبو العساس، الذي هدد برفع دعوى قضائية؛
فهو يعتبر نفسه شخصية عمومية قدمت خدمات كبيرة لمدينة أزيلال وبتفان منقطع النظير، ويرى أن ما ورد في النص هو ليس إساءة وسخرية إلى شخصه فقط:
هو تحريف منحط وتزوير لتاريخ أزيلال المعروف والرسمي..
وحدها شخصية أستوديو الجماهير،
كان متفهما، ومستمتعا..
ولقد حاول المؤلف بكل ما أوتي من مكر وخسة أن يتنصل من الأمر، وأن يقنع عبو العساس أن لا علاقة له بالأمر لا من بعيد ولا من قريب، وحده السارد من يتحمل مسؤولية ذلك.
فهو يرى أن هذه المحاولة متواضعة جدا،
ورديئة، متسرعة ومفككة،
وجاهزة ومعلبة مثل هذا الزمان الذي نعيش فيه،
فالسارد ينظر إلى المتلقي كمستهلك ولا يعتبره قارئا،
وهو يرمي إلى تملق مشاعر أبناء أزيلال خاصة الذين كانوا شهودا على الحدث الرئيس في الحكاية،
وأن السارد مصاب بتضخم الأنا المبدعة، وأنه وحده من يمتلك الحقيقة… الخ
إنه لا ينكر أن هذه المحاولة تتضمن عناصر إيجابية لكنها تحتاج إلى نار هادئة حتى تستوي.
لكن خفة السارد ونزقيته لم تترك لهذه العناصر الإيجابية النضج والاستواء الكافيين …
ثم لم هذه الشخصيات وليس غيرها ؟
ما هي المقاييس الأدبية والسيكولوجية والضرورة السردية في اختيارها ؟
ثم هذا الاختزال والانتقاء الذي وسم النص،
هل لأنه ينتمي إلى جنس القصة القصيرة ؟
أم هي الهجانة والنغولة، وتداخل الأجناس وتنافرها …
————–
لقد حاول السادر من جهته بكل تواضع الدفاع عن مرويته،
وأن يبين أن هدفه الأول والأخير، هو أن يقدم للقارئ حكاية يستمتع بها،
إن هدفه ليس الحقيقة كما يدعي المؤلف،
لأنه ببساطة لا يملكها،
بل مبتغاه هو المتعة والصدق الفني،
وشتان بين الأمرين.
إنه لا ينكر أن هواجس الذاكرة التاريخ والنسيان (وهو عنوان شهير لكتاب بول ريكور) تقض مضاجعه السردية، وهي من ضمن همومه وانشغالاته في ارتباط وعروة وثقى بقيم العدالة والإنصاف..
وأن الشخصيات الواردة في النص لا علاقة لها بالشخصيات الحقيقية من اللحم والدم التي يعرفها كل أبناء أزيلال؛
وأن على القارئ أن يتخلى عن عادة البحث عن خارج النص،
فهو قام فعلا بانتقاء واستعمال أحد الأبعاد في الشخصية،
إما البعد الفيزيولوجي، أو النفسي حسب الغرض أو الضرورة التي تقتضيها “زاوية الرؤية” أو “التبئير” والتدافع السردي والحكائي…
لقد تأسف السارد لما وصل إليه النقاش مع المؤلف،
الذي هو أصلا لم يحضر للحدث الرئيس الذي يخترق الحكاية؛
فعندما كانت الحوامات أو طائرات الهليكوبتر العسكرية تجوب وتزور أزيلال بغرض إنجاز محاضر للمعتقلين عقب أحداث 3 مارس 1973 التابعين لقيادة أزيلال،
وأيضا بغرض بث الرعب والخوف في نفوس الساكنة بذلك التحليق الذي يكاد يلامس الأرض،
كان المؤلف طفلا لا يتجاوز عمره أربع سنوات يعيش مع عائلته في إحدى القرى المنجمية جنوب شرق الأطلس الكبير…
وأخيرا وليس آخرا، كان بود السارد أن يقدم هذه المحاولة المتواضعة انتصارا للذاكرة، لرمزين يشكلان تاريخيا بداية مرحلة جديدة، ساهما بدرجة كبيرة وبنكران ذات لا مثيل له في انبثاق وبلورة وعي جديد وحركة موّارة نهل منها المؤلف نفسه وغرف بيديه ووجدانه منها، كما مثلت صمام أمان له ولغيره من الأجيال..
حمته من الدروب المعتمة
إنهما لحسن تاغية وعبد الله أوبنعقى .
لهما جميل العرفان.