قراءة في رواية “نكاية في هيراقليطس” لأحمد الويزي
محمد الفحايم
تتكون هذه السيرة الذاتية للكاتب المغربي أحمد الويزي من توطئة، وثلاثة أقسام هي:
1 ـ أوراق الصبا 2 ـ أوراق الطفولة 3 ـ أوراق المراهقة وبداية الشباب، يليها مُلحقان.
في هذه التوطئة يُحدد الكاتب الدوافع التي حرضته على كتابة هذه السيرة، وهي دوافع يمتزج فيها الذاتي (الإحساس باليتم جراء رحيل الأُم ومن قبلها وفاة الأب، والدنُو من الكهولة، والحنين إلى استعادة ذاكرة الطفولة) والموضوعي (جائحة كوفيد وما نجم عنها من حَجْر صحي شامل).
لم يكن الاِنبراء لكتابة السيرة أمرا هينا، بل إن الكاتب انتابه التردد وأصابته الحيرةُ لما قر قرارُه على خوض غمارها. يُثير الروائي والمترجم أحمد الويزي في هذه التوطئة التي وطأ بها لسيرته الذاتية مجموعةً من الإشكالات المتعلقة بالكتابة السيرذاتية، نحو: هل يستطيع كاتب السيرة الذاتية أن يتحدى سُلطان الرقابة الذاتية فيهزمها، ثم ينطلق في سرد وقائع تاريخه الشخصي غيرَ آبِهٍ للقيود والمواضعات؟ وإذا قدَر على ذلك تأتى له القولُ (بلا توجس أو ارتياب، ولا مُداهنة أو تحايل).
يُقِر الكاتبُ أن ارتياد آفاق هذا الرهان لم يكن مركبُه سهْلا، ولا قيادتُه ذَلولا، وإنما كان ينكُص عن مجابهته، فيؤول به الأمرُ إلى الشعور بالإحباط، ثم يتنكبُ سبيلَه، وينصرف إلى سبيل أُخرى أقل خطرا، وأكثر أمانا، مثل إنجاز ترجمات، أو تقديم مراجعات لكتب قرأها. كتابة السيرة عنده انتصارٌ على الموت، ودَحْرٌ للنسيان (الخوف من ناقة الجائحة التي تخبط خبْط عشواء، فقد تُصيب المرءَ في غفلة منه) لذا عقد الكاتبُ العزْمَ على لَم أشْتات الذات، وتقْييدها في كتاب يهزم فيه، ولو إلى حين، هذا الشبحَ الذي سيُدركُنا جميعا..
يتصور الكاتبُ هذا الضربَ من الكتابة عن الذات، وهذه الترجمة لوقائع وأحداث تاريخها الشخصي، بمثابة فُسحة ترْحبُ فيها الذاتُ وتتسع ضدا على ضيق المكان وإساره الذي أكْرهتْنا الجائحةُ على لُزومه والاِنْحشار فيه.. هكذا ستعود الذاتُ إلى نهْر الحياة، نهرِ الطفولة القصِيَة تستعيده، وتسبحُ فيه مرة ثانية نكاية بهراقليطس. لماذا يستبد بنا الحنينُ إلى العودة إلى الطفولة؟ أهي (بئْر الكائن) على حد قول غاستون باشلار؟ أم (أن لا أحد منا يشْفى من طفولته) مثلما تغنى بذلك الشاعر والمُغني جان فيرا؟
- أوراق الصبا
يستهل السارد سرْدَ مرويات طفولته بمرحلة البداية الأولى التي سيُقْذَف فيها بالذات إلى الوجود. كانت اللحظة الأولى في تارودانت، المدينة التي سيُبصر فيها الكاتبُ النور، بعد أن هجرت عائلتُه منطقة إغْزر في ضواحي أكادير، فرارا من جحيم الزلزال الشهير الذي دمر المدينة عام 1960. لا ذكريات للسارد عن بداياته في تارودانت، التي سماها (مدينة العُبور إلى طُرس الحياة) وما كتبه عنها في هذه الصفحات، ما هو إِلا اكتشاف متأخر لها خلال زيارتيْن في عامي 82 و88.
سترحل العائلةُ إلى مدينة أخرى هي الصويرة التي لم تكن سنه الصغيرة جدا (عامان) تُسعِفُه على تذكر مقامه فيها، ما عدا لحظتيْن انطبعتا في ذاكرته، وإنْ على نحو غامض وملتبس. هما لحظة ضياعه من أبيه بعد أن رافقه إلى السوق، بحيث ظن الأبُ أن الصبي يقتفي أثره، ثم لحظة تعثره وسقوطه أرضا وما أصابه من نزيف بسبب هذا.. لحظتا الضياع والسقوط ستحملان السارد على اعتبار موغادور الزرقة والرياح (مدينة الدمع المُجَلل باليُود)..
- أوراق الطفولة: مراكش
في عامه الثالث ستنزل أسرة السارد في مراكش التي ستمسي له مربعا للطفولة ومرتعا للصبا. سيدوم مقامه في المدينة الحمراء من 1965 إلى 1974. سيركز السارد في مراكش على سرْد مراحله تعلمه الأولى، بدْءا بالكُتاب القرآني، الذي لم يكن فضاء لتعلم الخط وحفظ سُور من القرآن، بل كان فضاء لاكتشاف المحن التي تُصيب الأجساد الغضة من اغتصاب سواء من كبار السن من التلاميذ أو من الفقيه عينِه. كان الاِنتقال إلى المدرسة الابتدائية خروجا من ضيق الكُتاب، ودخولا إلى رحابة المدرسة التي ستضيق بدورها على الفتى فَتَسِمُ وجدانَه بكثير من التذمر والقرف من قسوة المعلمين وغلظتهم وتعسفهم على الأطفال..
- أوراق المراهقة ومشارف الشباب
يرحل الفتى، وقد شارف المراهقة، مع أسرته إلى بلدة آيت ملول في ضواحي أكادير، ويسترسل في وصف مشاعر الإحباط التي عَرَتْه عندما ألْفى نفسَه في بيْت صفيحي يعْدَم شروط السكن الصحي اللائق.. إن الذكريات التي انطبعت في وجدان السارد، وظلت إلى الأبد موشومة فيه، وهو يرتحل من أكادير إلى الصويرة فمراكش ثم تنتهي به دورةُ الترْحال في أكادير خلال طوري المراهقة والشباب، هي ذكرياته عن هذا القلق الذي ينجُم عن صعوبة الاِندماج كلما حل ببيئة جديدة وطارئة، يعسُر على الذات أن تشعُر فيها بالراحة والطمأنينة، فكان قدُرها الذي يُصيبها دائما هو الإقصاء والنبْذ من قبل الجماعة التي تتوجس من كل طارئ عليها. ففي مراكش ظل دائما ذلك السوسي الذي يُنْعَتُ بـ(ولد الشلحة) القادم من وسطٍ لِسْني مغاير، وفي بلدة آيت ملول في هوامش أكادير بقي ذلك المراكشي الذي ينبغي الحَذَر منه (بيْن لقب «ولد الشلحة» و»المراكشي» عانيتُ الكثير من أزمة الاِنتماء).
في هذا الفضاء الجديد يُسهب الساردُ في تقديم صورة مُزدَوجة للمُدرسين الذين تتلمذ لهم: فمنهم الحاني الحَدِبُ، الجاد المسؤول، ومنهم الفظ الغليظُ، العابثُ المستخف. وكانت الساعات التي يُنفقها في مطالعة قصص سلسلة محمد عطية الأبراشي فانوسا أولا يُنير له دروب المعرفة المعتمة. أما الاِنتقال إلى طوْر الدراسة الإعدادية في بلدة إنزكان، فكانت مناسبة تخَبَر فيها الذات احتمالات الواقع، وتجابه تحدياته من خلال ركوب الحافلة لبلوغ فصول الدراسة البعيدة، أو عُبور المسافة مشيا على الأقدام، أو اللجوء إلى وسيلة الأوتوستوب..أو اختبار الهواجس الجنسية التي تَسِمُ مرحلة المراهقة من خلال التردد على ماخور البلدة الشهير (أسايْس نايْت القايْد) وصدمته وهو يكتشف النساء المومسات يعرضْن أجسادهن للزبائن في حومة (اللحم الآدمي).
يطغى في السيرة موضوع الحرمان وضروبه التي ذاقها السارد في أسرة كثيرة العيال، يُقاسي ربها في سبيل توفير حاجاتها، لكن هذا الحرمان علم الفتى كيف يتمرس بقيم الاحتمال والصلابة والإصرار والمجابهة.
- عُطلة الفُقراء
تتفاقم مكابدات الذات بحلول العطلة التي يُتوقع فيها أن تكون فرصة للاِسترواح والاستجمام، سفرا إلى مُدُنٍ، أو تخييما في شاطئ بحْر، إلا أن (عُطلة الفُقراء) مثلما سماها السارد، لا قِبَل لها بهذا «الترَف». أمام هذا الفراغ، والعوز، وضيق ذات اليَد، سيُكرَه الفتى اليافع على البحث عن عمل أثناء هذه العُطلة، عمَلٍ يجلُب له فضْلا من مالٍ يُعينُه على شراء ملابس، واقتناء مُعَدات دراسية تهيؤا للموسم الدراسي المقبل. سيشتغل مساعدا للبقال السوسي (الحوسْ) أو بائعا لحُزَم البقدنوس، أو العمل في جنْي الطماطم (وكانت هذه التجربةُ تمرينا على القسوة والشدة في مدرسة الحياة، وتمرسا خشِنا بصعوبة العيْش). ثم مساعدة الوالد في أشغال إصلاح البيت وبنائه بالخرسانة.
كانت العطل تنتهي بما احتمل فيها الفتى المراهق من تباريح العيش، وضروب الشدة، ليُكابد في دراسته الإعدادية أنماطا جديدة من تصاريف الحياة على يد أساتذة فاشلين يعدمون الحس التربوي، ويُعوزهم الشعورُ الإنساني، ويفتقرون إلى الكفاءة التعليمية، فيختزلهم في وصف بليغ، دال جامع: (هؤلاء لم يُعلموني) كأنه يتنصل منهم، ويتبرأ منهم، وخلى الرغم من أن هذا الصنف كان يُشكل الكثرة الكاثرة من الأساتذة عنده، إلا أن هناك رهْطا منهم تقتضي النصَفَةُ من السارد أن يُنوه بهم ويُثْني عليهم..
يحل الصيفُ من جديد، وتحُل معه دورةُ الخصاصة، يكبُر الفتى، ويشتد عودُه، فيُلْفي نفسَه مُجْبَرا ثانية على البحث عن عمَل يجْني منه مالاً يرْتَقُ به خُروقا كثيرة ما فتئت تتسِع. سيعمل في فندق من الفنادق المصنفة في أكادير المدينة الساحرة، التي كانت تتبوأ وقتئذ، عرْش السياحة في المغرب، المدينة التي كانت قِبلة للسياح من جهات العالم كافة، وستكون هذه هي المرة الأولى التي سيرى فيها الفتى البحرَ. ولعل أهم عمل صيفي موسمي شغله الفتى، هو عمله في المحكمة الاِبتدائية الذي استغرق ثلاثة أعوام (من 77 إلى 80) ما جعله يخلُص إلى (الاقتناع قناعة تامة بفساد بيئة القضاء، وانتشار مجموعة من الأدواء الدنِفة في جسمه).
- المُلْحقان
يرسُم المُلحقان اللذان ألحقهما الكاتب بهذه السيرة صورةً للذات التي تتبدى للقارئ عارية، عزْلاء، لا سَنَد لها في هذا الوجود يعضدها، ولا ظهر لها يحميها. ليس لها إلا الثبات والإصرار على شق طريقها الحافل بالصعاب. يشي هذان الملحقان بأحوال الضياع والحرمان الذي تتقاسمه طبقةٌ عريضة في مجتمعنا. الذات هنا مُجتثة، كأن لا سلالة لها، ذات تشعُر باليُتْم واليباب والاقتلاع ( كثيرون غيرك، حين أتوا إلى هذه الدنْيا، وجدوا في غُرَف البيْت كنْزا قديما أو مجْدا، بمقدور أيهما أن يضْمَن لهما حياةً مختلفةً… كثيرون غيرك، حين فتحوا الأعيُن، لِيُبْصِروا فُسْتانَ الحياة مُشِعا بشتى الألوان، وجدوا رَف كُتُبٍ حولهم، ورصيدا في الصدْر، أو في البنْك، وسُلالَة قَبَلِية بتاريخ عَريقٍ، وخرائطَ طريقٍ تقود الخطْو الأول، لكل من يشْرَع في تلَمس نصيبه من الطريق…).
يطغى في السيرة موضوع الحرمان وضروبه التي ذاقها السارد في أسرة كثيرة العيال، يُقاسي ربها في سبيل توفير حاجاتها، لكن هذا الحرمان علم الفتى كيف يتمرس بقيم الاحتمال والصلابة والإصرار والمجابهة. يصف السارد حرمانَه مٍما كان الفتيانُ من عمره يجدونه شأنا عاديا ومألوفا، كحرمانه من السفر والسهر ومُتَعِ البحر: سباحة ولعبا وتخييما.
صاغ الكاتب أحمد الويزي سيرته الذاتية الشائقة بلغة عذبة، شاعرية، بليغة، وهو ينبش في حقول طفولته البعيدة، وتجاربها الاجتماعية والنفسية والوجدانية وبوْحِها الجريء، طفولةٍ شهد فيها ألوانا من الضيق والكفاح المتواصل، والترحال من مدينة إلى أخرى بحثا عن استقرار أفضل، حمله على البوْح: (انْسَ طفولتَك كُلية، وهل كنتَ طفلا بالخالص، في يوم من الأيام؟). مثلما يُقدم فيها صورة جامعة عن أب (فما وجدتَ لدى والدك سوى رصيدٍ ضحْلٍ من حكاية حرْب وقعت هناك، ومن شذرات محكي عن قرية قفْراء في الجبل) وعن أُم (عاشت مع جدتها شبه يتيمة).
المصدر: «نكاية في هيراقليطس» سيرة روائية، أحمد الويزي، دار أثر، ط 1، 2021.